ممياوات آروس غير الفرعونية والمستنقع

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 17
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

يظن الكثيرون أن الفراعنة فقط هم من لديهم ممياوات، لكن ما أثار دهشة العالم أجمع اكتشاف ممياوات حديثاً، والغريب في الأمر أنها لغير الفراعنة. وأما عن سر تحنيط تلك الممياوات، فكان اللغز الذي صدم العالم أجمع عند فك شفرته.

ففي عام 1950، وبينما كان بعض المزارعين الدنماركيين في شبه جزيرة جوتلاند Jutland يحرثون الأرض، تم العثور على جثة تبين أنها لرجل بالقرب من المستنقع. وكان الغريب في الأمر أن هذه الجثة كانت بكامل هيئتها، مما كان يدل على أنها لشخص لقى حتفه منذ عدة أيام قليلة. لكن ما أثار ريبة كبرى بين المزارعين، اكتشاف أن جثة الرجل كانت عارية تماماً، خلا من حزام غريب موضوعاً على وسطه، وكيس وضع على رأسه، وإلتف حول رقبته حبل طرفه ممسوك بأنشوطة. وبالتأكيد، كانت كل الشواهد تدل على أن هذا الرجل قد تعرض لعملية قتل وحشي في غمار طقس شاذ. وكي يخلي المزارعون مسئوليتهم عن هذه الجثة، تم إبلاغ السلطات. لكن كانت المفاجأة الكبرى، أنه لم يستدل على أي من أقاربه وذويه.

وبإخضاع الجثة لفحص الطب الشرعي، تبين أنها لرجل عاش في القرن الرابع قبل الميلاد في عصر كان يعرف في الدول الإسكندنافية بالعصر الحديدي القبل الروماني. ولكن لحل لغز تواجد الجثة، ومعرفة السبب وراء تلك الملابس الطقسية الغريبة، بدأ علماء الآثار في التنقيب عن الأسباب من خلال نبش صفحات التاريخ، والأساطير، والحكايات الشعبية. فتبين لهم أن هذا الرجل قد تم قتله بهذه الوحشية ضمن طقس تقديم “أضحية” سنوية لتقديم القرابين لإلهة الخصوبة نرثوس Nerthus في العصر الوثني بالدول الإسكندنافية.  ففي ذلك العصر، كان يقع الاختيار كل عام في فصل الشتاء على أحد الرجال الأشداء لتقديمه كقربان للإلهة نرثوس Nerthus. وعند تقديم القربان يتم عمل مراسم طقسية للاحتفال بهذا الرجل الذي يضحي بنفسه، وكانوا يطلقون عليه اسم “عريس الإلهة نرثوس Nerthus”. وكانت مراسم ذلك الاحتفال تتضمن تجريد هذا الرجل من جميع ملابسه، وكأنه ذاهب للقاء عروسه، ثم يضعون حول خصره حزام. وأخيراً كان يتم شنقه بحبل يلتف حول رقبته، وقبل الشنق يضعون كيس حول رأسه. وبعد التأكد من موته، يقطعون طرف الحبل، تاركين الجزء المتواجد به الأنشوطة ملتفاً حول رقبته. وفي نهاية المطافً، يلقون به في المستنقع.

وكان الغرض من ذلك الطقس السنوي في كل فصل شتاء هو ضمان أن تنتج الأرض في فصل الربيع أجود محاصيلها وثمارها؛ كي يتواجد لجميع سكان القرية الطعام الكافي الذي يسد رمقهم بعد فترة طويلة من قلة المؤن والأطعمة، اشتدت وطأتها في فصل الشتاء. أي أن، جميع هؤلاء الرجال الأشداء كانوا يضحون بأنفسهم من أجل أن يعيش الآخرين في خير ورخاء. ومن الجدير بالذكر أن بعد إلقاء الجثث في مياه المستنقع، كانت تتحرك الجثث بكل حرية وتتنقل عبر الأراضي الزراعية. مما يدل على وجود العديد والعديد من جثث عرسان الإلهة نرثوس Nerthus لم يكشف النقاب عنهم بعد.

لكن الجثة التي تم العثور عليها، كانت المستهل الذي فتح الباب لتناول هذا الموضوع بالبحث والدراسة والتنقيب. ولقد تم عمل دراسات مستفيضة عن أسطورة القرابين للإلهة نرثوس Nerthus، وبعدها تم اكتشاف ثلاث وخمسين جثة محنطة، أو ممياء، في أماكن متفرقة من الأراضي الزراعية بالدانمارك. ومما يثير الدهشة أن تلك الممياوات التي أطلق عليها اسم “جثث المستنقع” Bog Bodies  أو “سكان المستنقع” Bog People كانت تتفاوت درجات حفظها، ومنها من كان في حالة ممتازة، وأخرى كانت في حالة يرثى لها.

وبعد عمل أبحاث مستفيضة لكشف النقاب عن سر تحنيط هذه الجثث، تبين أن عملية التحنيط لم تكن مقصودة على الإطلاق، بل كانت عفوية من الدرجة الأولى. فعندما كان يتم إلقاء الجثة في المستنقع، كانت تتسرب إليها مياه المستنقع وتتخلل جميع أجزاء الجسد وحواشيه. وبسبب نقص الأوكسجين بذلك المحلول الطيني، وكذلك بسبب انخفاض درجات الحرارة الشديد، كان يتم حفظ الجثث، لتظهر عند التنقيب وكأنها قد زهقت منذ أيام قليلة. ويلاحظ أن أن لون بشرة الجثة يتحول من اللون الأبيض إلى اللون الأسود الداكن، بفعل تسرب مياه المستنقع وتغلغلها حتى لبشرة الجسد. وأما عن جلد الجثة، فيظهر وكأنه منفصل عن لحم الجسد ومتغضن. وعند التشريح، تبين أن عظام أجساد جميع الجثث قد تحلل تماماً بفعل أحماض البحيرة التي عملت على إذابة جميع ذرات الكالسيوم، والأنسجة العظمية.

وبمزيد من الدراسة والتنقيب، تبين لعلماء الآثار أن هذا الطقس الوحشي لم يقتصر وجوده على الدول الإسكندنافية فقط، حيث أنه كان يتم أيضاً في شمال إيرلندا، وكان طقس سنوي معتاد، بل حتى استمر اقترافه حتى الحرب العالمية الثانية. لكنكان يتم هذا الطقس في أيرلندا على نحو خفي، فكان يلفه الكتمان. العلم به، كان من خلال الحكايات الشعبية عن البطل الأيرلندي الأسطوري الذي يضحي بنفسه حتى يعيش الآخرين، دون معرفة أنه أمر حقيقي. وكان يطلق على هذا البطل، وهذه الأسطورة اسم “رجل تولاند” The Tollund Man.

وتخليداً لأول ممياء مستنقعية – لأنه لم يتم كشف النقاب عن أخريات غيرها إلا بعد عقود طويلة – عملت الحكومة الدنماركية على تكريمها كأثر باقٍ لقصة تضحية فريدة، وذلك من خلال نقلها إلى المتحف الوطني بمدينة آروس Aarhus الدانماركية لتكون قبلة للسائحين وأبناء البلد، لاستقاء العبرة والتعلم من التاريخ. ومن الطريف جداً، أن تلك الممياوات صارت أمر واقع، وإن لم يعلم بها أحد، فكان بسبب الاستهانة بالقصص الفلكلورية، والأساطير التي لم يتخيل أحد أنها حقاً واقع ملموس.

مقالات من نفس القسم