من مطبخ فيتغنشتاين.. أو الإجرام بالكلام

خالد النجار
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد النجار

هنا نص عن عنف اللغة والمصطلح الاجرامي وفن التحكم في الوعي وإعادة صياغته وهندسته عن طريق صوغ المصطلح ذو الدلالة المحددة… هي محاولة أولى، ولابد من يأتي ليصلح ويشذب ويطور؛ ثمة قاموس كامل لتفكيك كلماته.
يقول الفيلسوف اليهودي النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين: كل ما لا يمكن التعبير عنه هو غير موجود. هذا التعريف يتضمن إمكانية خلق واقع بواسطة كلمات نبتدعها؛ بمعنى تخليق واقعا عن طريق إيجاد كلمات تستقر في الوعي وتحوله لوعي مزيف. بما أن حقيقة الواقع هي الوعي به، ولا وعي بالواقع خارج اللغة، خارج الكلمات.
لأن اللغة لا تكذب.. الانسان هو الذي يكذب.
وفي معركة تشكيل وعي الجماهير يصير تنظيم الكلام والسيطرة عليه أداة تحكم أساسية. من أمثلة ذلك
محرم ذكر اسم فلسطين وللتعبير عن ذاك القطر تم وضع أسماء بديلة في الاعلام؛ فهي تسمى بشكل مجزّأ:
القطاع والضفة الغربية وأراضي 1948 وغزة.
نحن نقول جنوب لبنان، وألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية ونادرا ما نقول شمال أو جنوب فلسطين أو غزة الفلسطينية.
في النصوص القانونية، وفي المعاهدات ووثائق تحديد المناطق الفلسطينية استنبطوا حيلة لغوية حتى لا يذكر فلسطين يتجنبون التراكيب التي تثبت هوية الأرض فتراهم يقولون أراض هكذا غير معرفة، أو مناطق يطلقون عليها أحرفا باء وجيم… مثال ذلك يقولون الضفة الغربية، وهو تعريف جغرافي حيادي غامض. والقارئ العادي في العالم لا يدري ماذا تعني هذه التسمية؛ فالعالم كله ضفاف شرقية وغربية. لخلق الغموض وهو سلاح فاعل في الرأي العام.
لقد جهدوا في اقناع العالم بسرديتهم مع التعتيم والتغطية على فحشهم في قتل الفلسطيني لأنه لو كشف إجرامهم فسيكون من المستحيل الدفاع عنه.

حرب المصطلح حرب اللغة
هكذا نحتوا مصطلحات وتعابير وصيغ وتراكيب لغوية تفضي إلى مفاهيم من شأنها أن توحي أو حتى تحدد لدى المتلقي القناعات التي يريدونه أن يصل إليها. هذه الصيغ والتعابير والمصطلحات تزيف الواقع، وتتسرب إلى لاوعي المتلقي قارئا أو مستمعا، وفي غفلة منه تدفعه إلى استخلاص استنتاجات يظنها من إبداعه وهي في حقيقتها كامنة في تسمية الأشياء. ما يعني أن البروبغندا اليوم تجاوزت لديهم مفهوم الدعاية الفجة مثل الدعاية إلى كوكاكولا. لقد تخلوا عن هذا الاسلوب الذي أتقنه النظام العربي نظام دولة الاستقلال المنتهية الصلاحية، وانتقلوا إلى أسلوب أكثر تعقيدا يتمثل في إعادة بناء التصورات والمفاهيم لدى المتلقي للتحكم في وعيه؛ بما أن لدى هذا المتلقي قابلية الاستجابة السريعة، كما أوضحت عديد التجارب. ففي فرنسا حيث رأي عام مستنير تم انتخاب شاب نكرة بلا تجربة سياسية كما يفصح تاريخه، إذ كل خبرته قبل توليه رئاسة فرنسا شهر من العمل السياسي. وكذلك الرئيس التونسي المنتخب، كل الناس تسأل من أين خرج؟
إضافة إلى التحكم في الوعي عن طريق وضع مصطلحات مزيفة أو ما أسميه الاجرام بالكلام، ثمة الجرعات الأخرى المساعدة التي يتكفل بها الاعلام عن طريق التكرار، والاستعانة ببعض الأكاذيب المتقنة وأخطرها تلك التي تمرر من خلال الحقائق، وصنع المشاهد التلفزيونية بوسائل المغالطة السينمائية وتقنيات الايهام المرئي الهوليوودي، إلخ
كل هذا لإعادة البرمجة النفسية والفكرية لشعوبنا وخلق وعي مزيف لديها يقبل السردية الصهيونية مزيلا عن العدو صفة العدو أو ما يسمونه إزالة الجدار النفسي وهو التعبير الذي لقنوه للسادات إبان رحلته الكارثية إلى الكيان الصهيوني. لأن سقوط الجدار النفسي يحولهم لدى العربي إلى دولة عادية ممكن ربط العلاقة معها. وقد نجحوا في مسعاهم هذا إلى حد كبير وبخاصة لدى بعض أشباه المثقفين من الإعلاميين العرب وأشباه المثقفين هؤلاء هم أخطر من الأميين. وهكذا تجد كثيرا من مصطلحات السردية الصهيونية متفشية إلى حد كبير في لغة الاعلام العربي.
وما الهرولة نحو الكيان الصهيوني وربط العلائق معه إلا أحد نتائج هذا العمل الذي جعل كثيرا من أشباه الساسة والمحسوبين على النخبة العربية يحجون للكيان. وقد رأيت الشاعر والروائي والمثقف التونسي من زبانية بورقيبة يدافع عن الكيان واحة الديمقراطية والحداثة. بل صرح لي أحدهم أنه يكره الفلسطينيين!!! هكذا! أجل!!! لأنهم ليسوا حداثيين كما ينبغي.
هنا أسوق بعض الأمثلة من المصطلحات والتعابير الاجرامية:

التطهير بالقتل المنهجي للفلسطيني
العالم يدري أن هناك عملية تطهير عرقي ممتد منذ قرن في فلسطين، عملية حذف شعب وإحلال آخر مكانه. وهو نفس الأسلوب الاستعماري الذي مارسه الرجل الأبيض منذ القرن السادس عشر في القارة الأميركية وفي استراليا وغيرها. وما التفاوض مع الفلسطينيين سوى ضحك على الذقون. فالأيديولوجيا الصهيونية والأفكار التي قامت عليها من أيام هرتزل تنفي على الاطلاق وجود شعب فلسطيني هدفها المعلن تطهير فلسطين من الفلسطينيين، بل نفي وجود الشعب الفلسطيني؛ وظلت غولدا مائير تردد حتى وفاتها لا يوجد شعب فلسطيني. وشعارهم القديم المتجدد فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ما يزال يتردد. هذه بديهة يعرفها كل الناس. وما يتم فوق الأرض ليس احتلالا وتوغلا كما هو متداول في الاعلام العربي وإنما تطهير عرقي محض.

مجيء المحتلين يسمونه هجرة
المفارقة أنه تم استعمار فلسطين في أوج لحظة تصفية الاستعمار في العالم فكان لابد من إخراج لغوي لهذا الاستعمار الصهيوني، هكذا ابتدعوا قاموسا متكاملا لتمرير عملية استعمارية دون أن تتنبه لهم قوى التحرر من الاستعمار في العالم
فأطلقوا على عملية الاحتلال هجرة، وأطلقوا على تاريخ انشاء الدولة الاستعمارية استقلالا، وأشاعوا هذا المصطلح في العالم.
بيد أن هناك قسم من النخب الغربية المتضامنة مع الفلسطينيين تدري ما معنى الاستعمار الاستيطاني، وما معنى التطهير العرقي، لأنها خبرته في تجربتها التاريخية، فهي تنتمي لدول ومجتمعات مارست التطهير العرقي في العالم منذ أواسط القرن الخامس عشرعصر بداية الرحلات الاستكشافية الكبرى. لذلك لا تجد هذه النخب تستعمل كلاما أدبيا من نوع توغل واحتلال كما هو في لغة الصحافة العربية.

مصطلح الصراع العربي الإسرائيلي كبديل لمصطلح حرب التحرير
تدري أن ما يدور في فلسطين ليس كما يصفه الصهاينة بذاك التعبير الحيادي والإجرامي الذي يسوي بين المجرم والضحية والمتمثل في كلمة صراع. وتراهم يرددون صراعا فلسطينيا إسرائيليا أو عربيا إسرائيليا زيادة في المغالطة. (يتساوق هذا التعبير الأخير ويتوافق مع الصورة الأبدية لليهودي الضحية، وأنهم شعب صغير يتكالب عليه العرب كثيرو العدد.) ودون فحص يتلقف الاعلام العربي هذا المصطلح /الطعم الإعلامي صراع والذي يضفي مزيدا من الغموض والتعمية حول حقيقة استعمار فلسطين. ثمة صراع هكذا مبني للمجهول يعني انتفاء الفعل الاستعماري وفعل المقاومة.

القضية الفلسطينية بدل الاستعمار الصهيوني لفلسطين.
ليس هناك قضية ثمة استعمار. كنا نقول الاستعمار الفرنسي للجزائر، لم نقل الاستعمار الصهيوني لفلسطين. ما يتم على الأرض الواقع هو استعمار غابت كلمة الاستعمار الصهيوني لفلسطين؛ الاستعمار تعبير خارج التداول على الاطلاق، لا في الاعلام العربي ولا في غيره…

والناس تدري أن فلسفة الحركة الصهيونية كوكتيل من دين وإيديولوجيا قومية فاشية هدفها الاستراتيجي كما جاء في كل أدبياتهم تطهير الأرض المقدسة التي وعدهم الله بها من العرب الأنجاس. هذا ما تقوله سرديتهم.
. والحال أن الإنسان لا يستطيع التمتع بحقوق المواطنة في الدولة التي بعثوها إذا لم تكن أمّه يهوديّة؛ بما يعني أنها دولة عنصرية دينية وتسوق نفسها للعالم كدولة لايكية ديمقراطية، وينطلي ذلك على كثير من النخب العربية خاصة في المستعمرات الفرنسية السابقة حيث يكثر نموذج المثقف الكولونيالي الفرنكوفوني المستلب، والذي يتماهى مع السردية الفرنسية المتصهينة بدورها. ولا ننسى أن فرنسا أحد الداعمين الكبار للكيان منذ نشأته، وهي التي قدمت له أكبر انجاز استراتيجي: مفاعله النووي.

يقولون الاسلام السياسي ولا يقولون يهودية سياسية
وهم في الاعلام الصهيوني والغربي عامّة لا يسمون شاس وبقية الأحزاب الدينية الاسرائيلية بأسمائها وإنما يقولون أحزاب أقصى اليمين أو يمين الوسط وتتماثل وتتشاكل هذه الأحزاب بالتالي في وعي الغربيين بأحزابهم اليمينية اللايكية؛ مما يخفي صبغتها الدينية. كما لا يطلقون عليها اليهودية السياسية. كما هو الأمر في الغرب لا يطلقون على الأحزاب ذات الخلفية المسيحية مثل الديمقراطيين المسيحيين صفة المسيحية السياسية.
ولكنهم يقولون الإسلام السياسي، وهو تعبير غربي محض. تعبير عدائي ترانا نكرره بلا فحص، بل بزهو.

الأسماء العربية للشيطنة
وفي المقابل تراهم في الاعلام الصهيوني يرطنون أسماء المنظمات الفلسطينية مثل حماس والجهاد بتهجئتها العربية كذلك كلمات الانتفاضة والفدائيين وفتح بنفس التهجئة والتلفظ العربيين فيقولون INTIFADA والناس في الغرب لا تعرف المصطلح العربي مما يضفي على هذه التنظيمات المقاومة غموضا يبعث الخوف لدى القارئ الغربي وبالتالي تسهل شيطنة هذه المنظمات الغامضة ويسهل وضعها على قائمة الإرهاب الذي ابتدعوه.
لأنهم لو نقلوا كلمات جهاد ومقاومة وفدائيين إلى لغاتهم فقالوا resistance and resistant باللغة الإنكليزية لتعاطف مع الفلسطينيين قسم كبير من الرأي العام الغربي لأن كلمة مقاومةRESISTANCE توحي لدى الأوربي بمعاني شرعية، وهي تستعمل تحديدا في أوروبا الغربية ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية بمعنى المقاومة ضد الاحتلال النّازي : RESISTANCE كلمة تشرعن حرب التحرير الفلسطينية لدى الراي العام الغربي. لذلك تجد كل الإعلام في الغرب وخاصة مؤسساته الكبرى مثل البي بي سي والسي آن آن يحتال على الموضوعية التي يدعيها بوضع هذه الأسماء والنعوت التي توحي بالشيطنة.

جيل دولوز هناك نظامان DEUX REGIMES
عندما يتحدث مثقف فرنسي ولو كان مواليا للقضية الفلسطينية مثل الفيلسوف اليهودي الفرنسي جيل دولوز عن نظامين DEUX REGIMES ويعني بهما دولة إسرائيل والفلسطينيين يكون قد وقع في المحظور وقع في الفخ اللغوي. فهو يوحي للقارئ أن هناك نظامان أي دولتان متساويتان وبالتالي لا يوجد مستعمر ولا مستعمر بفتح الميم.

عن التطبيع
في هذا السياق سياق اسقاط الجدار النفسي عملوا على ربط علاقات بالدول العربية ولسان حالهم يقول للعالم لو كان ما يذاع عن اجرامنا صحيحا ما كانت العرب لتبني علاقات دبلوماسية معنا. ويسمون ربط العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية تطبيعا بما يعني رفض العلاقة مع هذا الكيان أمر غير طبيعي.

أكبر المغالطات
الواقع في فلسطين ما يتم توصيفه هكذا استعمار لكامل فلسطين والعمل الدائب على إزاحة شعبها وحذفه من الوجود أي تصفيته الفيزيقية والمعنوية، حذف هويته. ومحو ثقافته، والاستيلاء على تراثه: هدم المعالم التاريخية، سرقة التراث الشعبي عامة من لباس وموسيقى وطبخ.
أتذكر ذات سنة كنت أتجول في شوارع هامبورغ مع كاتبة ألمانية صديقة عاشت في منطقتنا العربية.
قالت: انظر إلى هذا المطعم وأشارت إلى واجهته
وأكملت صاحب هذا المطعم إسرائيلي يقدم أطباقا فلسطينية ويطلق عليها المطبخ الإسرائيلي.
بعد هذه الحادثة بسنوات صرت أرى كتب طبخ فلسطيني كثيرة يطلق عليها الطبخ الإسرائيلي.

 

 

مقالات من نفس القسم