ناهد السيد
أتحسس روحى كلما صحوت من النوم، اأتفقدها لعلى فقدت قطعه منها أثناء جولتها السماوية لتفقد الطريق إلى الرب، لعل قدمها تعثرت فى السماء الثالثة بفضل الضباب الكثيف حيث الملائكة يدخنون الرحمة، لعلها غاصت فى ثلج الأرواح التائهة التى صعدت للتو تاركة أجسادها، وما إن التفتت خلفها تتفقد دموع الأحبه، إلا وشعرت بالبرودة وانتابها الحزن، فلم تدفئها دموع ولا يلاحقها نحيب وصراخ كما توقعت فى حياتها، دخلت فى متاهة الآذان الصاغية، لتسترق السمع جيداً، ظلت على حالها لم تسمع حتى نداء باسمها الدنيوى الذي صاحبها طوال الحياة، وتعلق بألسنة أطفالها وأهلها وأصحابها، وكم هائل من المعارف لو نادى عليها منهم اثنين فقط لسمعتهما، لذا ضلت طريقها، غاصت أكثر وأكثر فى فوهة الآذان الصاغية غير مصدقة أن اسمها ليس فى قائمة العبور إلى السماء، وراحت تبحث بين الألقاب العامة التى ينادون بها كل روح غالية.
لكنها اصطفت فى طوابير النكرات، ربما تستشعر نفسها فى هذا اللقب أو ذاك، يا حبيتى، يا سندى، ياطيبة، يا أمى، يا غالية، لم تجد نفسها بين هذه الألقاب ، لم تسشعر صوتا تعرفه ينادى عليها بأحدهم، ظلت تلتمس لهم الأعذار، لعل الأقربين لها لا يصيحون، ربما يهمسون، ربما يتألمون صمتا، ربما يحصرخون سرا وقد فقدت سمعها فى العالم الأرضى مع جسدها، نعم نعم فالأرواح لا تسمع سوى صرير أبواب الرب وأصوات الملائكة، لم تفقد الأمل وراحت تبحث فى النداءات الأكثر عواما وتنكيرا، الله يرحمها، البقاء لله، للفقيدة الرحمة.
يا للوعتها، فهذه النداءات بلا نكهة لا يمكن أن تنجح فى فرز ذاتها بينهم، صارت الآن مجرد جثة بلا اسم، شهيد حياة بلا بطاقة هوية، مطموسة البيانات تساوت بأى فقيد، لماذا إذن كانت تلهث وراء أحدهم تستجدى منه الحب؟، لما إذاً أنجبت أطفالا وانتظرت بفارغ الصبر أن يلفظوا اسمها وتسمع كلمة ماما التى لم تتعطش اليها الآن؟، ربما هم نائمون، لم يدروا بعد، هل يخفى عنهم الجيران خبر موتها حرصا على لوعتهم، وربما نالوا منها ما نالوه ولم يحتاجوها بعد، ضاقوا من أوامرها وطلباتها وتمنوا فى عقولهم الباطنة أن تهدأ عنهم، فخلصهم منها الله، هل يشكرونه الآن؟، أم يمضغون راحة البال ويرسمون الحزن على وجوههم احتراما لأعراف الحزن أمام الناس؟، لماذا إذن كانت تشتاق إلى أحضانهم وتدعى أنها تختزنها لليوم الفارق لكى تدفئ نفسها بها؟ لمذا كانت تقطع أوصال أحلامها ليلا لتصل بها أطراف غطاءاتهم حماية من برد الليل؟ لماذا تؤرق صباحها لاهثة بين الثلاجة والحقائب لعمل الساندوتشات والفطار، طالما أنهم يرجعون بها كالعجائن وتصر على فعلتها فى اليوم التالى أيضا، لماذا لم تيأس وتترك منبهاتهم ترن فى آذانهم وحدهم لعلهم قدروها الآن واستمعوا إلى صراخها؟
لماذا كانت تزحف خلف رضا زوجها طالما أنه سيحضر جنازتها ليختار أفضل سمانة قدم جاءت للعزاء ويجلس بجوارها شاكيا وحدته التى لم تتعد دقائق ويذكر سيرتها فى كل تقصير فقط لأجل الحصول على رقم هاتف لأمرأة بديلة، فلا يخرج بيد فارغة من الجنازة ويضمن حياة جديدة على قفا زوجته الراحلة فى هدوء؟
لماذا إذن كنت تثور على زوجات إخوتها لنصرتهم طالما أنها المرأة الثانية فى حياة كل منهم ولم يلق أحدهم لها بالا وفى آخر كل مشاجرة يدخل إلى حضن زوجته الثائرة ليهدئها، فتبدو هى الضرة المكروهة؟
لماذا إذن كانت تصارع من أجل ابنها وتحضر مبارياته لكرة القدم فضلا عن أبيه المشغول دائما وهى لا تفهم شيئا سوى أن لونى ملابس اللاعبين مثيرة للبهجة؟
لماذا إذن كانت تحصد محبة السعاة وعمال القمامة وعاملى المصاعد فى المعامل والمستشفيات الذين يلاقونها بدعوة ظنت أنها من القلب، خاب ظنها الآن، وأدركت أنها كانت طعما لجذب عملة ورقيه كرمشتها ذات يوما فى جيبها للقاء أحد هؤلاء الذين أولتهم اهتماما عظيما، كانت تدخر لأجلهم النقود كلما ضاق بها الحال احتراما لشعائر سماوية متوارثة تشير إلى جلب الفرج بالصدقة، الشفاء بالصدقة، ها قد شفيت، فماذا بعد؟ تخلى عنها الجميع ولم يدركوها فى الطريق، لم يسعفها صراخهم وتنهداتهم الكسولة التى قد تدفعها دفعة قوية لعنان السموات، فتصل سالمة، توقف حزنهم وهى صاعدة فظلت روحها معلقة تائهة، لا تطيق العودة إليهم لترى ما يسعدها، وفى الوقت نفسه تعتصر نفسها لكى لا تحزن فهى تخشى عليهم من هزة ورعدة حزن الأرواح، ولا تقوى أيضا على الصعود بدون كلمات وداع حانية تدفع بروحها بقوه إلى المستقر
فظلت كما هى لا تفعل شيئا سوى جذب الارواح الصاعده إليها تغويهم ليضلوا الطريق معها، تأتنس بهم وتحكى تجربتها وقبل ان يشفقوا لحالها، يلتفتون للخلف فى توجس، يسمعون الصرير وأبواق السماء العليا التى لا تذكر اسماء بل تبحث عن التائهين ليتوجهوا للصوت فرادى وجماعات.