مكان للحب.. مكان للانتحار

محمد الفخراني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

أتساءل عن الانتحار، أنْ يصل إنسان للحظة يتخلَّى فيها عن حياته، أتمنى لو أقدر أتكلّم مع كل مَنْ انتحروا، ليعرفوا أن انتحارهم لم يُغَيِّر شيئًا، الكل ينسونَهم فى النهاية، وحتى قبل النهاية، لو بَقوا فى العالم لكان أحسَن لهم، لكانت لهم فرصة، أىّ فرصة، لكانوا هم أنفسهم فرصة لغيرهم، لا أُحاكمهم هنا، أنا زعلانة منهم.

هل تفكر أن انتحارك يُغيِّر شيئًا؟ تَخَيَّل العالمَ وأنت مُنْتَحِر منه، تفكر أنه يتوقف؟ ينتحر بَعْدَك؟ أتمنَّى لو تشوفه من عندك لتعرف أنه لم ينهدم، أنه أبسط من إضاعة الفرصة، والتخلِّى عن حياتك، فى نفس الوقت أنا عارفة، أظن عارفة، معنى لمَّا العالم الواسع يضيق، يضييييق ويكون أضيق من خُرْم إبرة وأقسى من حبل مشنقة.

قصة حب:

تقول لى: “أنا غير مهتم لو ينهدم العالم بَعْدى أو ينسانى أو غيره”.

أقول لك: “لكنى أتكلّم عنك أنت، لا عن العالم، وأنكَ قبل كل شىء، وأسوأ من أىّ شىء تخلَّيْتَ عن نفسك”.

 “شُوُفى العالم من مكانى وستعرفين أنه لا يستحق”.

“وهل شُفْتَ أنت العالَم فِعْلاً من مكانك وعرفْتَ أنه لا يستحق، أم أنك شُفْت الجزء الذى يجعلكَ تمشى وتسِيِبه؟”.

“شُفْت ما يكفينى..”.

“لا أتوقَّع أنك شُفْتُ ما يكفيك لتعرف، لا أحد يقدر يشوف من العالم ما يكفى أبدًا”.

تقول لى: “لا أحد يقدر يشوف كل شىء فِعْلاً، لكن لا يمنعنا هذا عن تكوين رأى، وأنا من حقى أكَوِّن رأيى الشخصى عَمّا شُفْتُه وجَرَّبْتُه”.

“صَحّ.. من حقك تكَوِّن رأيك الخاص، لكن، عندى سؤال أو فكرة.. برأيك ما هو العالم بالأساس؟ لَمَّا تنطق كلمة ‘العالم’، ماذا تقصد بها؟ عن نفسى أشوف العالم بالأساس شوارع وأشجار ومياه وجبال وصحراء وليل نهار، وناس طبعًا، لكن.. الناس سيأتى دورهم، استَبْعِدْهم الآن.. سؤالى لك.. هل يؤذيك هذا العالم؟ أقصد الشوارع والأشجار والليل والنهار.. تَفْهم قَصْدى.. ها..”.

“أفهمك.. ورأيى أنه لأ.. العالَم.. أقصد الشوارع والليل والنهار.. و.. هذه الأشياء.. لا تؤذى أحدًا.. بالعكس”.

“طيِّب.. وغير هذه الأشياء، ماذا يتبقَّىَ؟ أنت والآخرين.. الناس، صَحّ؟”.

“يعنى.. امم.. ممكن”.

“ينفع أسألك؟ هل تكره.. أو.. هل أنت ضد وجودك مع نفسك، أو وجودك مع الآخرين؟”.

“أنا ضد وجودى مع نفسى ومع الآخرين..”.

“لأ، على الأقل ليس من حقك تكون ضد وجودك مع نفسك”.

“إشمعنى؟ ليه؟ لماذا؟”.

 “عشان، بسبب، لأن، وجودك مع نفسك شىء لا أحد يقدر ينتزعه منك، والشىء الذى لا يقدر أحد على انتزاعه منك ليس من حقك تكون ضده، بالعكس، حقه عليك أن تتمسك أنت به، وهو على فكرة أكثر شىء حُرّ فيك، حُرّ حتى منك، أنت معه لكنك لا تملكه، أنت لا تَمْلككَ، أنت معك لا أكثر، ولا أقل طبعًا، أنت تقف فى هذه النقطة بالضبط، ولا أحد أو شىء يقدر، أو له الحق يزحزحك عنها: أنت معك.. وشوف يا صديقى أ..”.

“لسنا أصدقاء..”.

“طيِّب.. لسنا أصدقاء، إذا كان هذا رأيك، حتى الآن على الأقل، لكنى أسأل، أفكر.. لو أنك لم تجد لنفسك قصة حب، أقصد حب بمعناه الواسع، حُب إنسانى، لماذا لا تكون أنت قصة حبك؟”.

“كلامك رومانسى ى ى ى ى..”.

 “أيْوَا، كلامى رومانسى، وهذا ما تحتاجه أنت، وطَلَبْته بنفسك، بعضَ اللُّطْف، والتَفَهُّم مِمَّن حولك، من عالمك الصغير، والرومانسية أكيد فيها لُطْف وفَهْم، الرومانسية أستاذة فى اللُّطْف والتَفَهُّم”.

نَسْكُت ثوان، أنا وأنت، نفكر فى كلامنا.

وبعد الثوانى، أنت تتساءل عن الآخرين.

 تقول لى: “والآخرون؟.. الآخرون..”.

أقول لك: “لا تسألنى عن الآخرين، أنا مَنْ أسألك عنهم، هل تسمح لهم أن يفعلوا هذا بك؟ تعطيهم الكلمة الأخيرة؟”.

“الكلمة الأخيرة لى، ما أفعله سيُحرِّرنى، أنتحِر.. أنا مَنْ يختار”.

“الانتحار ليس به أىّ حرية ولا اختيار، إنها خدعة، ما يحصل معك هو أنك قرأتَ أو سمعْتَ أن الانتحار أعلى درجات الحرية والاختيار، وأَعجبكَ إيقاع الكلام وشَكْله، ووجدْتَ الإنتحار والحرية فى جملة واحدة فاعتقدْتَ أنهما مُرْتبطَيْن فِعْلاً، هذا يحصل معنا جميعًا فى مواضيع وأفكار كثيرة، لكن هنا، الفكرة واضحة وبسيطة، أنت تمشى وتسِيِب العالم وأنت مُرْغَم على ذلك، ولمَّا تنهىِ حياتك بنفسك ليس معناه أنك اختَرْت، هذا ليس اختيار، الاختيار الحقيقى هو ألا يكون الانتحار ضِمْن ما يمكن أن تعتبره اختيارًا، بالمناسبة.. أحب أقول حاجة هنا، أنا لا أعتبر فى الانتحار أىّ رومانسية، وأظن.. أظن أن مَنْ ينتحر يفكر أن ما يفعله به رومانسية، وأن موته ليس موتًا حقيقيًّا، لكن الحقيقة أنه موت حقيقى وخسارة مباشرة، و.. من فضلك لا تكن ساذجًا، هم لن يكتشفوا شيئًا عنك أو عن أنفسهم، كل ما تحصل عليه بانتحارك، يتكلَّمون عنك ليلة واحدة، ساعة واحدة، يقولون كان جميلاً وطيِّبًا ورائعًا، وينسونك، ولا تفكر ولو لحظة، أنك لو رجعْت لهم سيُصْلِحون ما فعلوه معك أو لم يفعلوه، لأ، سيُكرِّرون ما فعلوه معك أو لم يفعلوه، مائة مرة، ألف مرة، حتى لو انتَحرْتَ مليون مرة، أنت ببساطة تغادر العالم الذى تَكَلَّمنا عنه، الليل والنهار والشمس والشوارع والشجر والمطر والصحرا، وكل قصصك المُحْتَمَلَة، هل تعرف كم قصة تنتظرك؟ ها، هذه القصص، لوحدها، هى صاحبة الحزن الحقيقى عليك”.

 “أنا صاحب الحزن الحقيقى”، تقول لى.

 أقول لك: “كلامك صَحّ جدًا، أنت أولاً صاحب الحزن الحقيقى، لكن لا تَنْسَ قِصَصَك المُحَتَمَلَة، أنت تُحْزِّنها عليك وعلى نفسها بانتحارك، ويا صديقى.. آه أعتذر، لسنا أصدقاء.. أ.. اِنتِظْر لحظة.. أنت تبتسم الآن؟ هذه ابتسامة.. صَحّ؟ شكرًا، هذا لُطْف منك.. لُطْف منك لنفسك بالدرجة الأولى”.

“لُطْف منى لنفسى؟.. حلوة”.

“شكرًا.. أَرجع لكلامى.. لن أقول لك أنى أحسّ بما تحسّ به تمامًا، ولا أنى أعرف كل ما بداخلك، لكن.. شوف.. لو أنك تعتبر العالم مُهِمًا، فهو فى هذه الحالة يستحق تبقىَ معه، ولو تعتبره تافهًا فهو لا يستحق تُضَيِّع روحك لأجله، إلا لو كنتَ تعتبر روحك أكثر تفاهة منه”.

“العالم تافِه، وروحى أعلى من أن تبقى فيه”.

“طيِّب.. وروحك العالية.. ماذا تستحق منك؟ تقتلها بنفسك؟ هذا كل ما عندك؟ ولا أىّ ابتكار أو فكرة جديدة؟”.

“خلاص.. اعتبرى روحى تافهة”.

 “لا تُغَيِّر كلامك، قُلْتَ بنفسك أن روحك عالية، لا تطلب منى الآن أن أعتبرها تافهة بالكذب لتُبَرِّر لنفسك أىّ شىء ضدها، كما أنى أعرف أنَّ لا أحد ينتحر لأنه يعتبر روحه تافهة.. أىّ شىء غير أن تكون تافهة”.

نَسْكُت ثوان، أنا وأنت، نتأمَّل كلامنا.

وبعد الثوانى، أنت تتساءل عن الألم، ألَمَك.

تقول لى: “أنا أتألم”.

أقول لك: “الألم.. وهل تظن أنك وحدك مَنْ يتألم؟ لو سألْتَ أىّ أحد سيقول ما قُلْتَه أنت حالاً، أو ممكن يقول لك أن ألمه أعمق أو أشَدّ أو أقسى.. كلمة بنفس المعنى تقريبًا”.

“وأنا من حقى أنهى ألمى”، تَرُدّ أنت.

“طبعًا.. حقك، لكن ما تفعله ليس طريقة لتُنْهى ألمك، أنت تُنهى حياتك، ومن جديد أسألك، هذا كل ما عندك؟ ولا أىّ ابتكار أو فكرة جديدة؟ لا تستطيع أن تنهى ألمك إلا بإنهاء حياتك؟ لماذا تربطهما معًا، و.. لماذا أنت مُتَعَجِّل أصلاً؟ ستموت على أىّ حال، ولا تقلق، أضْمَن لك أنك لن تبقى هنا طويلاً مهما بقيت، لا أحد منا يبقى طويلاً لو لم تُلاحظ، أوعِدك حياتك تفوت فى رمشة عين، أنت نفسك ستُفَاجأ، حتى 100 سنة ليست إلا رمشة عين.. بالضبط.. مثلما رمَشْتَ الآن بعينيك”.

نَسْكُت ثوان، وأرمش لك بعينى مُتعمِّدة، وأنتظرك، تُعاندنى ثوان قبلما تَرُدّ برَمْشَة بطيئة واضحة.

أبتسم وأسألك:” أقدر أقول لك يا صديقى؟”.

تقول لى: “اممم.. ممكن..”

 “شكرًا.. هذا لُطْف منك”.

 تبتسم وتقول: “لُطْف منى لنفسى بالدرجة الأولى..”.

“هاها.. أنت تستعمل جُمْلَتى، لا مانع عندى، لكن لو تنوى استعمالها عليك أن تكون على قيد الحياة”.

نَسْكُت ثوان.

أتوقَّع أنك تفكر فى الحياة.

وأنا أفكر فى طلب بسيط.

أقول لك: “لو سمحت فَكِّر فيما سأقوله.. هل كثير أو صعب لَمَّا أطلب منك تعيش قِصَصك المُحَتَمَلَة، تملأ ورقتك ولا يهمّ تكون إجابتك صحيحة، لأنه لا توجد إجابة صحيحة، هل كثير لمّا أطلب منك تكون أنت نفْسَك قصة حبك؟ كن أنت قصة حبك، يمكنك حتى أن تُفَوِّت كل القصص، لكن قصة واحدة لا يمكنك تَفْويِتها وخسارتها: أن تكون أنت قصة حبك”.

مكان للحب، مكان للانتحار:

كيف تَتَشَكَّل أماكن مُحدَّدَة ومعروفة للانتحار وأخرى للحب؟ مكان عادى، ممكن يكون نقطة فى جسر فوق نهر أو بحر، يتحوَّل مكانًا شهيرًا للحب، تُثَبَّتُ به أقفال الحب، وتُكتَب رسائل، أو يكون مكانًا مُخَصَّصًا للانتحار، يأتى أشخاص ويرمون بأنفسهم منه للماء، كيف يعرفه المُنتحرون بدِقَّة، لا علامة موجودة، أو لافتة مكتوب فيها “للانتحار اقفز من هنا”، كأن مكانًا ما بداخل المنتحرين يعرف هذا المكان حتى قبلما يفكرون فى الانتحار، هل يأنَسون بأرواح مَنْ سبقوهم، ويحصلون منهم على طَبْطَبَة أخيرة، هل تجعلهم هذه الأرواح يحسُّون بطمأنينة فلا يتراجعون؟

 متى يتحوَّل مكان مجهول عادى إلى مكان شهير مُخَصَّص للانتحار؟ بَعد أول حالة انتحار؟ كأن المُنتَحِر الأول يجعل منه، وللأبد، مكانًا مُخَصَّصًا للانتحار، هل يختاره المُنْتَحِر الأول بعشوائية، أم شىء خاص فى روح المكان يُؤهله للمهمة، ويجذب إليه روح المُنْتَحِر؟

عجيب.. بعض الأماكن مُخصَّصَة للمنتحرين بسبب الحب.

هل حدثَ وتَحَوَّلَ مكان من كَوْنه نقطة للانتحار إلى نقطة للحب؟ أو العكس؟ ممكن؟ أظن صعب، مُتَوَقَّع أن كلاً منهما يحمل شيئًا خاصًا فى روحه، لكن.. ممكن.. خيط خَفى.. أو شىء خاص جدًا مشترك بينهما، لا أحد يعرف، مع ملاحظة أن أماكن الانتحار لا تكون قبيحة، أو أقل جمالاً، تكون وتظلُّ جميلة، شفافة، ومَحَلّ تعاطف، مثلما يجب أن يكون الحال مع مُنْتَحِر.

الرائعون صغار السِّن:

لماذا مُعظَم المنتحرِين صِغار السِنّ؟ ممكن لأنهم لم يصلوا لمرحلة تبسيط العالم، وتقدير فرصة الحياة؟ لأنهم يعرفون أن عندهم أشياء رائعة يمكنهم تقديمها للعالم ليكون أجملَ وأذكى، ولا يطلبون منه فى المقابل غير أن يفهمهم ويُعاملهم بلُطْف، لكن لأنه لم يفهمهم ولم يكن لطيفًا معهم فَهُم يُعاقبونه بانتحارهم، ويحرمونه أشياءهم الرائعة، وحقيقى، عندهم فِعْلاً ما يحرمون العالمَ منه، لكن هل يعرفون أنهم قَبْلها يحرمون أنفسَهم من أنفسِهم؟

لا ينتحر كبار السِنّ فى مُعْظم الأحوال لأنهم، أتوقَّع، عرفوا من مكانهم أن الحياة سهلة، أبسط من الانتحار، لا ينتحرون لأنهم صاروا خِفافًا، أما صِغار السِنّ، ما زالوا مُثقَلِيِن بأحلامهم وأسئلتهم، وللمفارقة.. بحبهم للحياة، وللمفارقة مرة أخرى.. هذه الأشياء نفْسَها يُفْتَرَض أن تجعلهم أخَفّ من الريشة، أو.. أظن أن الآخرين يجعلونها أثْقَل عليهم من الصخر، فيتخلَّىَ هؤلاء الصغار عن حياتهم مقابل التخلُّص من الصخر، أو ما حَوَّلَه الآخرون صَخْرًا.

 أفكر.. لو يتعامل صغار السِنّ مع أثقالهم، ريشتهم، برشاقة أكثر، لو يُهَوِّنون على أنفسهم، هم أحيانًا لا يرغبون فى التهوين على أنفسهم، وأحيانًا لا يعرفون كيف يفعلون، لكن.. لو يفهمهم العالم، لو يُعاملهم بلُطْف، لو أنه لا يحرق ريشتهم، أو يُحَوِّلها صخرًا.. أحسَن له وأحسَن لهم.

…………….

مقطع من رواية “لا تمت قبل أن تحب” ـ قيد الإصدار

مقالات من نفس القسم