“مقهى سيلينى”.. وجوه الحلم والواقع

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تشحن هذه الرواية قارئها بثراء المشاعر الإنسانية حلما وواقعا، وتمنحه فرصة لتأمل الماضى والحاضر معا. "مقهى سيلينى" الصادرة عن دار الآداب اللبنانية هى أولى روايات أسماء الشيخ، وقد فازت عنها بجائزة محترف نجوى بركات للعام 2014 (الدورة الثانية).  مؤلفتها لم تنجح فحسب فى استعادة ملامح الإسكندرية الكوزموبوليتانية فى الأربعينات من القرن العشرين، وفى ذروة الحرب العالمية الثانية، ولكنها نجحت أيضا فى أن تنتقل بسلاسة بين أحلام الشخصيات الحية النابضة وواقعها اليومى. صنعت أسماء عالمين متوازيين ومتقاطعين فى نفس الوقت: عالم أسرة مصرية تعيش فى منطقة شعبية، وعالم أسرة إيطالية فى شارع مجاور، واختبرت مع بطلتيها، رقية المصرية وبيتا الإيطالية، وبتنويعات مختلفة مع شخوص أخرى، أهمية أن يعادل سحر الخيال، وأن تعادل أطياف من نحب، قسوة الواقع ورتابته. جاءت الرواية مؤثرة، وممتلئة باللحظات الإنسانية، ومغلفة بروح متفائلة، حيث تحتفى مؤلفتها بالمدينة، وبالخيال، وبالذكريات، وتجمع أبطالها فى لوحة واحدة، وتعتبر أن ما يجمعهم من أحلام، أقوى بكثير مما يفرقهم من حروب.

 

 لا يمكن أن نتصورفى البداية أن هناك شيئا مشتركا يجمع  بين أسرة الشيخ حسين الحجّام النازح من رشيد، والقاطن فى منزل بشارع ثانوى فى العطارين، مع عائلته الصغيرة، وأسرة الإيطالى ألبرتينى، وهو صاحب مقهى سيلينى الذى كان من قبل مطعما معتبرا، وجذور زوجته الراحلة من قرية كالابريا الصغيرة. ولكن الخطوط سرعان ما تتقاطع مؤطرة بلحظات الشهد والدموع، سرعان ما سنكتشف جسورا قوية بين العالمين اللذين يفصلهما شارع صغير. سيحاصر الواقع رقية ، ابنة الحجّام، فتعيش واقعها الموازى مع  أبطال السينما، وستعمل بيتا فى المقهى، فتستعيد عالم أمها الراحلة، من خلال خطابات أحضرها خالها بوليتشى، ستلون أطياف الأفلام، وأطياف الأم عالم الفتاتين، وستمدان خطوطا تنسج علاقة جديدة.

اتسق بناء الرواية مع معناها، فانتقلنا بالتدريج من التوازى الى التقاطع، استخدمت الكاتبة ببراعة كل التفاصيل لتحقيق ذلك، من دون افتعال، استوعبت الإسكندرية الجميع: الرجل النازح من رشيد باحثا عن نفسه بعيدا عن صيت والده العالم الأزهرى، والمرأة الإيطالية التى جاءت مع والدها لتشتركا فى عروض الأوبرا. أصبح الشيخ حسين حجّاما يخفف آلام الجسد، وهواجس المرضى، وصار مطعم سيلينى عنوانا على فن الحياة، ولكن الواقع لا يقدم السعادة دائما، الشيخ حسين لم يستطع أن يجعل من رقية وريثة لمهارته فى العلاج الشعبى، ولم ينجب غيرها سوى عبد الله، الصبى المنغولى الذى سيصبح طفلا أبديا، وألبرتينى صاحب المطعم، سيفقد زوجته التى ستغرق عند عودتها فى نوبة حنين الى إيطاليا، كما أن ألبرتينى الذى كان عازفا للكمان، سيصاب مبكرا بمرض الشلل الرعاش. يتشكل واقعان يحتويهما مكانان مميزان : منزل من طوابق ثلاثة تقيم فيه عائلة رقية، ومقهى تعلوه شقة تقيم فيها عائلة بيتا، والمكانان أقرب مما يتصور أصحابهما، خلف المنزل يوجد المقهى، والإثنان فى الإسكندرية الخالدة.

رقية وبيتا تقرران أن تتجاوزا الواقع الذى تحيط به ظروف حرب مدمرة، وغارات متواصلة، تصنع رقية من نفسها أما بديلة لملاكها الحارس عبد الله، ترسم فى مملكتها الصغيرة على السطوح، وتسمع أغانى جرامفون الجار، تعجب بجارها الكمسارى، ثم تكتشف سحر السينما بعد أن وجدت تذكرة مجانية فى قطعة شيكولاتة أحضرتها لأخيها، تعشق الريحانى، وتعرف الفيل دامبو، وتكتشف كارول لومبارد،  أما بيتا التى تكاد تعيد سيرة أمها الغارقة، فهى شخصية قلقة، تجد نفسها وسلامها فى الموالد والأذكار، تندمج مع محيطها الشعبى، تستحضر لحظاتها مع الأم، ثم يحمل خالها الخطابات، التى تستعيد بيتا من خلالها تفاصيل الحكاية، وتظل علاقتها مع ماركو متأرجحة وضبابية. رقية وبيتا وجهان للحلم وللواقع، رسمت معالمهما بكثير من التفاصيل الحميمة، وخلاصهما فى اكتشاف أشياء أخرى أبعد وأعمق من العالم المحيط بهما.

ربما كانت رؤية رقية لجارها الكمسارى ، ورؤية بيتا لماركو فى حاجة الى تعميق أكثر، ولكن التقاء رقية مع بيتا، وانفتاح الطريق بين بيت الحجّام، ومقهى سيلينى، تم بمنتهى السلاسة، وبدرجة عالية من الذكاء، بل إن تحوّل المكانين الى سينما ضخمة، تنقل السحر الى المنطقة الشعبية، والى الشارع الكبير،  وبشراكة مصرية إيطالية، منح الرواية معنى مدهشا: لقد اقتحم الخيال الواقع، أعاد ترتيبه من جديد، وأعاد تأسيس العلاقة بين الأسرتين، كما مزج بين سحر السينما، وسحر المدينة، التى تطبع سكانها بروح التآلف رغم ظروف الحرب.

الواقع فى “مقهى سيلينى” ينتقل إليك بكل دقائقه، بألوانه، برائحة العطور والبخور والأعشاب وشجرة الريحان، بنكهة المكرونة والصلصة واللحم المفروم، بألوان الباصات والأقمشة التى تفصلها بهجة أم رقية.  تتجاور فى اللوحة المدهشة أصوات الكمان مع ابتهالات المولد، حفلات الرقص فى ميلانو مع كرنفالات لاعبى السيرك فى الأسكندرية، صيحات الجمهور فى قاعات العرض، مع صرخات المرضى الذين تسيل دماؤهم بعد الحجامة. تختلط أحلام بيلوتشى الباحث عن مكان لإقامة سينما، مع أحلام سيدة شعبية تريد أن يسترد زوجها مبيض النحاس عافيته، ونقرأ مغامرة زاهر صبى الفرن الذى عشق ممثلة شامية، مثلما نعيش أحلام عالية الراقصة التى تريد أن تكون فى شهرة تحية كاريوكا.

تنمحى أمام رقية المسافة بين الشاشة والواقع، بل إن الشاشة تبدو فى نظرها أقوى من الواقع: ” خرجت رقية من فيلم دامبو الملون وهى تفرك عينيها، لأنها رأت الشوارع والناس  بالأبيض والأسود، فالألوان الطبيعية فى داخل القاعة، وكل ما بالخارج تقليد”، وتهاجم الكوابيس المرصعة بصورة الأم الغارقة حياة بيتا، ولكنهما تنجحان فى البحث عن ميلاد جديد، بينما تلفظ الحرب أنفاسها الأخيرة.

تنتهى الرحلة بفوز الإنسان، بانتصار الحلم والفن، وبسيطرة المدينة على حياة عاشقيها، يصبح من الطبيعى أن تزول المسافة بين مقهى سيلينى ومنزل الحجّام. تغرق أم بيتا، ويموت مراهق منتحرا قافزا من منزله، ويترك حسين الحجّام العالم عاجزا عن علاج مرضه الخطير، وتفتقد بهجة ( أم رقية) البهجة، ولكن عبد الله ما زال يحتفل بالحياة، وما زالت دور العرض تنقل السحر والحلم، وتنقل رقية من الإسكندرية الى كازابلانكا،  ما زالت الطائرات الحربية نقاطا هزيلة بجوار قمر المدينة المكتمل (كلمة سيلينى تعنى  القمر باليونانية).

تظل الحياة ممكنة ما بقى الحلم والخيال، هذا هو المعنى ألأجمل فى الرواية الممتعة.

مقالات من نفس القسم