مقبرةٌ ستحفرها
الأصوات التي نسمعها كل صباح لن تتوقف عن مطاردتنا.
لم يكن ملحوظًا بين السرب، كان سريعًا مثلهم، لكنه الأضعف والأقل وزنًا، وربما كان أيضًا صاحب القلب الأخف. عندما توقف لثوانٍ لم يفوته السرب فحسب، لكن فاتته فرصة الحياة فسقط أرضًا دون ثمن، ودون أن يلاحظه أحد.
هي الوحيدة التي لم تبخل عليه بنظرة أولى وأخيرة.
لم تتردد في السير تجاهه رغم توترها، عندما اقتربت منه لم تكن تعرف في حياتها سوى الجثث، كل من عرفتهم وإلتقطت معهم صور فوتوغرافية تحولوا بمرور الوقت إلى موتى وأصبحت أفعالهم تحمل صفات الماضي. حملته في يدها وقبضت عليه بكفها ورفعته برفق كما اعتادت أن تقبض على حلوى الكراميل، كأن لمستها له ستمنحه حياة جديدة.
عبثًا نتصور أننا أنبياء مخلِصِين في الأوقات الخاطئة.
لم يساعدها الصمت المحيط بها على اتخاذ القرار المناسب، في أي الاتجاهات ستتحرك في هذه الساعة المبكرة من الصباح وبيدها جثة، كانت في منتصف الشارع عند مفترق الطرق، والاتجاهات تحيطها من كل اتجاه، لا فارق بين كل اتجاه سوى الإظلام والنور، فإختارت الأخير لتبصر طريقها. بعد عدة خطوات ليست بالقليلة اقتربت من حدائق واسعة تفصل بين كل واحده والأخرى أسوار أسمنتية لمقابر بدون لافتتات لأسماء أصحابها. تنفست بهدوء وأحكمت قبضتها عليه من جديد، ثم خفضت رأسها وهمست له بكلمات أو ربما أغنية. كانت تتجول بعينيها بين اللافتات، كل سور لا يكشف عن ما وراءه، فقط تنبعث روائح تشبه العفن المكتوم وجزع مائل لشجرة تتساقط أوراقها.
كان الباب مفتوحًا، لم تتردد في الدخول، شخص مثلها يرحب بالغرباء لن يخجل أن يكون غريبًا في مقبرة، فكرت في الإستئذان لكنها عدلت عن الفكرة وضحكت. ألن يرحب الموتى بضيف جديد؟
مجموعة من النسوة متشحات بالسواد كنّ يجلسن على كراسي بلاستيكية في وضع شبه دائري يلتفون فيه حول مقبرة صغيرة لم يجف الاسمنت من عليها؛ المقبرة الوحيدة التي وجدت بابها مفتوح، بها نساء لا تبكي، ولا تنبعث منها رائحة الموت. انتبهت امرأة عجوز لوجودها، مالت على امرأة أخرى بجوارها وهي تشير إلى هذه الغريبة التي دخلت المقبرة فجأة، رمقتها بنظرة أخيرة لاحظت فيها يدها التي تقبض بها عليه. سألتها العجوز إن كانت تريد مكان للدفن فهزت رأسها خجلاً، سكتت العجوز ثم عادت لتسألها من تريد دفنه؟ فتعجبت صاحبتنا ورفعت حاجبها، ظنت أنها عجوز مخبولة. "ألم تلحظ الجثة التي أحملها؟!". ردت عليها بعصبية أن اسلوبها غير لائق وأنها ستخرج فورًا من هذا المكان. في هذه اللحظة التفت لها الجميع، كل هؤلاء المتشحات بالسواد تعرفهن، هذه الوجوه تحفظها جيدًا، وهذه الأيادي التي تمسك فناجيل القهوة كانت في وقت ما في الماضي تصنع لها الجدائل وتمرر الصابون على جسدها وتهدهدها عند النوم وتمسكها من كتفها الصغير لتلتقط معها صورة. كلهن من تحولوا إلى موتى.
لم تفهم صاحبتنا ما الذي يحدث لها، وكيف اجتمع كل من كانت تعرفهن هنا. أعادت إحكام القبضة على يدها فوجدتها خاوية. ازداد توترها. "ألم تروا أني كنت أحمل بين يدي جثة؟"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصّة وروائية مصريّة