مفارقات اللغة وأخيلة الشغف والاغتراب في ديوان “لا لغة للحب”

لا لغة للحب سليم العبدلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الكفراوي  

في ديوانه الأخير “لا لغة للحب” الصادر عن دار ميريت يبحر الشاعر العراقي سليم العبدلي في عالم اللغة ليكشف عن سر الحب وعن طبيعته الشفافة، وعن مظاهره المتنوعة وبصماته الراسخة داخل الروح.

يبدو الحب هو البطل الرئيسي لقصائد الديوان، لكن هناك بطلا خفيا يلعب دورا سريا هو اللغة، فاللغة تتحول من وسيلة إلى غاية حين يتم التعامل معها باعتبارها هاجسا مقيما ووسيطا روحيا، ليفهم الإنسان معنى وجوده في العالم وليعبر عن كل المشاعر التي تنتابه وأهمها الحزن والاغتراب والوحدة والإحساس بالزمن ووطأته.

الكثير من المفردات تشير إلى حالة روحية خاصة تتجسد في هذا الديوان وتعبر عن محتواه بطرق متنوعة حسب ثقافة ووعي وخيال المتلقي.

يتضمن الديوان العديد من المفارقات اللغوية والتخييلية، سواء في القصائد التي تتحدث عن الحب في البداية أو القصائد التالية التي تتحدث عن اللغة أو الغربة أو الوحدة أو النوستالجيا.

في القصيدة الأولى بمقاطعها المتتالية تأتي “القبلة” كمفردة وحالة مركزة تعبر عن الحب والاشياق بمعناه الحسي وكذلك بأبعاده الروحية، ومن المفارقات التخييلية في المقاطع الأولى “على ساحل البحر/ كانت قبلتي الأولى/ ومنذها / أتذوق في كل قبلة / طعم البحر”,

ليصبح البحر هنا معادلا موضوعيا وطبيعيا لفكرة القبلة، فالخيال  الرومانسي الذي يربط بين المكان والزمان والحدث ليشكل عاطفة مستدامة؛ هو ما جعل هذه الصورة تحمل مفارقة تجعل من البحر، وربما تحديدا رائحة اليود التي تميز البحر صورة ثابتة لدى الشاعر، الارتباط الشرطي هنا هو أساس التخييل والتصوير الفني الذي يمنح للقبلة بعدا آخر ليس حسيا بالضرورة، وإنما بعدا زمانيا أو مكانيا يستمر منذ اللحظة الأولى إلى ما لا نهاية.

وتتصاعد المجازات تلقائيا مع الصور البلاغية التي ترصد وهج المحبة وخلطتها السرية وما تعتمله في صميم الروح من خلال العديد من المقطوعات الشعرية، فالشاعر يعتمد على تقنية التكثيف والتركيز والمقطوعات القصيرة الأقرب إلى الدفقات الشعورية، ومن ذلك: ” بين أضلعي / بقيت قبلتك الأخيرة/ يقظة/ تعد نبضات القلب” في هذه الصورة المجازية يعتمد الشاعر على نقل الحسي إلى معنوي ليصنع حالة من التناغم بين العالم المادي والروحي الذي يتجلى في حالات العشق.

ينتقل الشاعر في الجزء الثاني من الديوان إلى شعرية اللغة والحرف والكلام، ووظائف الأبجدية وما تمثله من عنصر حميم راسخ في الوجدان.

 يبدأ هذا الجزء بجملة شعرية أقرب للأدبيات الصوفية “وصل الإبلاغ صحيحا/ وتخلف المعنى” فهي جملة لا تحمل فقط طابعا لغويا محكما، وإنما حسا صوفيا يرتبط بالوعي وعلاقته بالكلام.

وتتجلى اللغة كبطل في النص الشعري ليس على سبيل الرهان اللغوي ضمن السياق العام للجمل، ولكن كموضوع أصيل للنص في أكثر من موضع، منها مثلا: “للكلمات طعم يتلوى في الحنجرة/ قبل أن يترك أثره على اللسان/ مرا يمكن أن يكون أو غريبا/ حلوا غنيا بلذته/ حامضا، حادا، مبهرا، أو عبقا.” وهكذا تتوالى الصور التي يسقطها الشاعر على الكلمات وتحويلها إلى عنصر مادي ملموس، ويتصاعد هذا التصوير لربطه بحالة الحب التي تسيطر على بدايات الديوان “ثمة كلمات أعشقها/ لها طعم/ يشبه طعم اسمك/ ولذة كلذة عنقك على شفتي.” فتتحول الكلمات إلى موضوع للمفارقة التي تدخل في حالة الحب، بل وتعزز الحضور الحسي لتلك الحالة.

وفي التعامل مع اللغة بشكل كموضوع مرتبط بالعشق تأتي مقطوعات شعرية لترسخ هذا المعنى: “لغات وأبجديات ولهجات/ جمعتها على دروب الحياة” ليؤكد الزخم الذي تشكله اللغة في الوجدان وإحالة هذا الزخم أو إسقاطه على العشق بطريقة مباشرة.

ومن الاستخدامات الصرفة للغة في النص الشعري يأتي هذا النص: “ببلاغتها ومجازاتها / تطاردني هذه الأبجدية في الحاضر/ وترفض الكلمات أن تحميني من صيغة الماضي/ ولو بجملة مفيدة واحدة / ترشدني إلى مواطن المستقبل”.

تعدد المستويات الزمنية التي يطرحها الشاعر يشير إلى شمولية اللغة وإحاطتها بكل تاريخ الإنسان حاضره وماضيه ومستقبله.

وإن كانت مفردتا الحب واللغة اللذين يشكلان عنوان الديوان تحققتا بشكل كبير حقيقي ومجازي وتخييلي في نصوص الديوان؛ فهناك ملمح آخر مهم يتمثل في الغربة، ووطأة اللغة والشعور بالاغتراب بكل ما يمثله من ألم وحزن وحنين إلى الماضي.

“في الغربة/ تصاب الأبجدية بالبكم/ في منافي اللغات الأجنبية/ يندثر الكلام تحت تربة الماضي.” هنا تكمن قيمة اللغة كوسيلة للتواصل بل والحضور، فللغربة تأثيرها السلبي على كل شيء في حياة الإنسان حتى أنها تصيب الأبجدية أو اللغة الأصلية للغريب بالبكم، وتتحول اللغات الأجنبية إلى منافي، فهي بعيدة عن الروح التي تشكل الوجدان من مفردات الماضي، ذلك الماضي الذي يتحول إلى مدفن للغة تندثر.

وفي الجزء الثالث أو القصيدة الثالثة في الديوان – إذا اعتبرنا أن كل جزء يمثل قصيدة بمقاطع منفصلة – متصلة، يأتي الحس الصوفي واضحا من خلال العديد من الصور والتراكيب اللغوية التي تجعل من العشق حالة روحية صرفة” (قرب المعشوق حجاب) للنظر ” فهذه الجملة الشعرية أقرب للأمثولة التي يتم ربط التناص فيها بالحالة الخاصة التي يمثلها الشاعر.

وفي الجزء الرابع تبدو حالة النوستالجيا أو الحنين للماضي ومحاولة الإمساك بمعنى الأيام وحدودها لفهم ماهية العمر هي المسيطرة على الصور ومنها مثلا:” في خزانة العمر/ أجد أيامي تتسكع هناك/ وحيدة / تترحل بين رفوف سنواتها/ كيفما اتفق.” فالشاعر هنا يحاول أن يحصر العمر ويؤطره في خزانة، داخلها كل ما يخصه من أيام وتفاصيل كثيرة، ويبدو التسكع هنا كنوع من الملل أو محاولة تمضية الوقت، وهي صورة لما يمثله العمر من ثقل له وطأة كبيرة على روح الإنسان وخياله.

في القصيدة الخامسة يتابع الشاعر حالة الحنين والبحث عن معنى الزمان والمكان في أكثر من موضع، ويأتي مفتتح القصيدة ليعبر عن ذلك بجلاء: “لكل قول زمان / وللزمان مكان / كان يوما لي” هنا يأتي الربط بين الزمان والمكان باعتبارهما يمثلان حالة من الموائمة فيما بينهما، وفي النهاية ينتفض الحنين في أسى سري يوحي بملكية الذات الشاعرة للزمان والمكان في الماضي.

ديوان “لا لغة للحب” يعبر عن حالة إنسانية من العشق والحنين والاغتراب والنوستالجيا، كما يعبر عن روح خاصة وصادقة تتعامل مع اللغة كأنها كائن حي له خصائصه المميزة وآثاره الوجدانية.

مقالات من نفس القسم