معجزة إيمان مرسال

معجزة إيمان مرسال
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسن عبدالموجود

احتجت فترة طويلة حتى أفهم أنها ليست قاسية، أو بشكل أدق أنها من نوع الأشخاص الذين لا يميلون إلى "تزويق" الكلام. ما تفكر فيه ستقوله بدون حسابات، وربما تحرجك بشكل واضح، كما قالت لي مرتين هنا "هو ده سؤال؟"، وحذار من لسانها، فربما يُفلت كلمة صعبة، تُعبّر ببساطة عن أنها "مخنوقة" مما تطرحه، أو منك شخصياً، والصعوبة ليست في رأيها، ولكن في الطريقة التي صاغته بها، وأيضاً الطريقة التي نطقته بها، لتوصله إليك بإحساسها بالضبط. كلمات لا لبس فيها، وإحساس عال جداً، وأداء قوي مرعب، يليق بشخص حاد، ولكن كل هذا يشكّل قشرة بسيطة أسفلها وجه آخر لإيمان مرسال.

حسن عبدالموجود

احتجت فترة طويلة حتى أفهم أنها ليست قاسية، أو بشكل أدق أنها من نوع الأشخاص الذين لا يميلون إلى “تزويق” الكلام. ما تفكر فيه ستقوله بدون حسابات، وربما تحرجك بشكل واضح، كما قالت لي مرتين هنا “هو ده سؤال؟”، وحذار من لسانها، فربما يُفلت كلمة صعبة، تُعبّر ببساطة عن أنها “مخنوقة” مما تطرحه، أو منك شخصياً، والصعوبة ليست في رأيها، ولكن في الطريقة التي صاغته بها، وأيضاً الطريقة التي نطقته بها، لتوصله إليك بإحساسها بالضبط. كلمات لا لبس فيها، وإحساس عال جداً، وأداء قوي مرعب، يليق بشخص حاد، ولكن كل هذا يشكّل قشرة بسيطة أسفلها وجه آخر لإيمان مرسال.

كانت تنتظر سؤالاً عن “سلاطة اللسان” وضحكت: “أنا مقتنعة بكلام أسامة الدناصوري، أنني الشخصية الأكثر حماقة وخجلاً في العالم، وطول اللسان دفاع عن هذا الخجل، أو محاولة لإخفائه”، مستدركة: “مع الاعتراف طبعاً أنه يحزُّ في نفسي أن أكون خجولة”!

تقول إيمان في ديوانها الجميل “جغرافيا بديلة”: “ما تعلمته هنا لا يختلف عما تعلمته هناك/ القراءة كتذكرة مرور إلى تغييب الواقع/ تخبئة الخجل تحت ألفاظ بذيئة/ إخفاء الضعف عبر إطالة الأظافر”، وهذا المقطع يُعبّر عنها بصدق، تعلّق: “لا أعرف السبب في الحقيقة في طول اللسان، ولكني أعلم جيداً أنني أعبّر عن مشاعري بأقل عدد من الكلمات، سواء بالمدح أو الذم، والحدّة ليست بنت قوة، وليست دليلاً على (وحشنة)، وربما تكون نوعاً من الخيبة، أو تخفي ضعفاً ما”.

لم تحظ إيمان بفرصة صداقة بنات حتى سافرت إلى كندا. وليس شرطاً بالطبع أن تكون الصديقات الجديدات كاتبات: “فكّرت في لحظة ما في هذا الأمر، أقصد ما الذي يعنيه تحرك بنت في محيط أصدقاء من الرجال فقط؟ كان لا بد من مراجعة هذا، وعلى قدر أن التجربة مُلهمة، إلا أن فيها شيئاً محزناً، فأنت تتحول إلى صديق، ولو حاولت أن تصبح صديقة فإن الأمور تتداخل، وتصبح غير جيدة”، وتضيف: “أصبحت لدىّ صديقات، ليس شرطاً أن الواحدة منهن تعرف الأخريات، نلتقي في أرض محايدة، بمعنى أن الصداقة يمكن أن تقوم على أنكما زميلتان في الجامعة أو أن ابنك وبنتها في نفس السن، ومن المؤكد أن الصداقات الجديدة أثّرت في علاقاتي بأصدقائي من الرجال، وجعلت هناك لمسة حنان”.

وتضيف: “أنا عموماً قابلت عدداً كبيراً من الأشخاص وكان من الممكن أن نكون أصدقاء ولكن لم تكن عندي الطاقة لأفعل ذلك. لا أتذكر أن صداقاتي القديمة وهي الأهم في حياتي كانت حنونة، كأنك حينما تقابل صديقاً، أو تتناقش معه فلا بد أن تضربه بالبوكس في وجهه، وعليك أن تقول له إن ما تكتبه زبالة. كأن الدم هو دليل الصداقة، كأن العنف يثبت عدم تواطؤك مع الصديق أو حتى مع ما يكتبه، لقد نشأنا في عالم مليء بالتواطؤ وكان ذلك مقززاً، ولأنك تفكر في نفسك باعتبارك مختلفاً فربما تُقدم على ارتكاب تصرفات حمقاء. أحياناً أفكر أن الشخص لو استفتى قلبه لم يكن ليقسو على الناس. طظ في الكتابة التي تجعلك عنيفاً إلى تلك الدرجة. نعم.. لحسن الحظ ومع وجود صديقات ومع تجربة الأمومة ربما أكون أصبحت أكثر رقة، أصبح هناك شىء أفضل، ربما أذهب مع صديقة لنشترى فستاناً، أو لنشرب واين، وفي تلك الحال لن يكون مطروحاً فكرة ورشة تطوير الذات أوالكتابة التي كانت هناك عندما كنت صغيرة”.

نشأت صداقات صاحبة “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص” التاريخية، إذا جاز التعبير، في التسعينيات. تطور الأصدقاء معاً، ولكن حدث أن ذهب كل واحد منهم إلى مكان، وانفتح على أشخاص آخرين، ولكن تلك اللحظة هي التي كوّنت فكرتهم عن الصداقة، تقول: “كلنا تغيرنا، وعموماً لا يمكن أن تستمر صداقة بين مجموعة، ربما يحدث ذلك في لحظة تكوين، ولو استمرت ستكون هناك مصلحة، حزب سياسي، أو جماعة. كل صديق تتطور وتتعقد علاقتك به ويجعلك تكتشف شيئاً مختلفاً في نفسك أو في العالم. في النهاية أعرف جيدأً أنني أحب أصدقائي وأفكر فيهم رغم أنني لم أر بعضهم مثل أحمد يماني منذ حوالي عشر سنوات”.

محمد خير قال بعد صدور ديوانها الأخير “حتى أتخلى عن فكرة البيوت” إن قصيدتها تبدو نثرية تماماً، وإن صاحبتها تبدو كأنما هي محملة بمسؤولية قصيدة النثر. تعلّق: “أنا أفهم ما يقصده خير، ولكن على المستوى الشخصي لا أشعر بتلك المسؤولية ولا أفكّر فيها. عندما تكتب تكون وراء ما تريد الإمساك به فقط.. ولهذا لا توجد ضمانة أنك تغيّر في النوع الأدبي أو تطوّره. الكتابة مثل الرسم في الظلام ولصابت لخابت”.

كيف ترى إيمان فكرة الجيل؟ هل هي مهتمة بفكرة انتمائها إلى جيل التسعينيات، أو بالخطوات التي قطعها إلى الآن؟ تجيب: “لا يوجد لدىّ كلام جديد في هذا الإطار، ورأيي لم يتغير، وهو متضمن في حوار أجراه معي محمود الورداني في 95. كنت أرى أن مسألة الجيل تستخدم دائماً كـ”شروة”، أنت تصف مجموعة أشخاص بالجيل فتحلّ مشكلة بالنسبة لك. تفكيرك في مسألة الجيل يجعلك بكل تأكيد تبحث عن المتشابه لا المختلف، وهذا خطير، وضد الفن. فكرة الجيل مهمة لو أنك تريد أن تفهم كيف تطورت مجموعة من الأشخاص في الكتابة؟ أو كيف كان تأثير معطيات ومزاج لحظة تاريخية محددة في إنتاج أدبي ما، ولكن علينا في الأساس أن ننظر إلى المختلف في كتابة أي شخصين لا المتشابه بينهما. أنا لست مهتمة أصلاً بفكرة الجيل أو الجندر. هناك فقط شخص يقرأ القصيدة وعليه أن يقيم علاقة معها ويتبناها أو يرفضها”.

صاحبة “المشي أطول وقت ممكن” تلبسها ادّعاء لفترة طويلة بأنها ليست مهتمة بالقارئ. وعلى سبيل المثال كان هناك سؤال نقدي يتردد في فترة سابقة مُوجَّه إلى الشعراء على وجه التحديد: أين قراؤكم؟، وهي “بشكل عيالي”، كما تقول، لم تكن تهتم، ولكن جرت حادثة غيّرت تفكيرها وطريقة نظرتها فيما يتعلق بهذا الأمر. القصة جرت في 2008، كان لديها مكتب ملحق بالمنزل في كندا، مجهز بشكل جيد، ويضم كل الأفلام والكتب التي تحبها. كانت تجلس في المكتب لتقرأ وتكتب أو تشاهد بعض الأفلام. في يوم أيقظها زوجها وقال لها إن التلفزيون ليس موجوداً في المكتب. كان شيئاً غريباً، وهرول الإثنان إلى هناك، واكتشفا أن المصيبة أفدح من اختفاء التلفزيون، فقد تأكدا أن الكمبيوتر اختفى أيضاً، و”نوت” بقصائد كتبتها بعد “جغرافيا بديلة”، وفلاش ميموري تضم كل شىء تكتبه، وأيضاً فصلاً من رسالتها للدكتوراة، كما كانت تكتب عن صديقها أسامة الدناصوري بشكل دوري، وما كتبته عنه كان من جملة الكتابات التي اختفت. تعلّق: “لم أفكر في اختفاء فصل الرسالة، ولا شغل الجامعة، وإنما نصّ ما كتبته عن أسامة، والقصائد الخاصة بي”. نشرت إيمان إعلاناً في جريدة المدينة تطلب فيه إعادة “النوت” مقابل ثلاثة آلاف دولار: “شعرت بأنه تم تدميري، والحادثة أثرت فىّ جداً، وسألت نفسي: لو أنني غير مهتمة فعلاً كما كنت أظن بأن يقرأني الآخرون فلماذا حزنت؟ ولماذا شعرت بتلك المأساة وتأثرت بهذه الطريقة؟”. اكتشفت إيمان في هذه القصة كيف كان “الشخص يضحك على نفسه”، و”أننا لا نكتب لأنفسنا”. تعلّق: “ولكنّ هناك فرقاً بين كاتب يبحث عن جمهور، وآخر يدرك أن الشعر فردي تماماً، ما يعني أن من سيقرؤونه قليلون ومهمون. لقد شعرت بالحزن والضيق لأنني أدركت أن أصدقائي لن يقرؤوا القصائد التي ضاعت”.

ترى إيمان أن الغربة ليست موضوعاً للكتابة، ولكنها مكان وجودي، قد يكون اختياراً، وأنت ترى الأشياء من خلاله. لا تستوعب إيمان فكرة غرق شاعر أو روائي في الحنين. تضحك: “هناك أشخاص قد يذهبون إلى أمريكا لمدة أسبوعين ويكتبون في الحنين”. وتضيف: “قابلت أحد أقربائي من “ميت عدلان” وقال لي: “أنا أحب شعرك ولكن كيف ترين قريتك في الديوان الجديد هكذا؟ والحقيقة أنني لم أعرف كيف أرد عليه؟، ولكن لم يكن يصلح سوى أن أراها هكذا من مكاني. الغربة مكان تنظر منه إلى الأمور بشكل مختلف، عدم وجودك في مكانك الأول يجعل الذاكرة تنشط وتعمل بشكل مختلف. بدون أن تكون مأزوماً بفكرة الغربة”.

بالتأكيد إيمان شديدة التنظيم، وبالتأكيد لديها عزيمة تمكّنها من صعود قمة إيفرست، فهي بشكل عملي بدأت تعمل من لحظة التخرج، ووصل بها الأمر إلى العمل في ثلاث وظائف دفعة واحدة حتى تستطيع أن تعيش، والتنظيم بالنسبة لها ليس أن يكون باستطاعتها امتلاك وقت خاص بالكتابة، كما هو الحال بالنسبة لمعظم كتّاب أمريكا الشمالية، ولكن معجزتها أنها لو قررت البدء في شىء ما فلن تتركه قبل إكماله مهما كان نوع التحدي: “في صيف 2011 لم آت إلى مصر، وكان هناك أكثر من كاتب أريد قراءة كل أعماله، على كثرتها، ورغم أن المسألة بدت لي صعبة، إلا أنني أنجزتها في النهاية. أنا من هذا النوع”.

سألت إيمان عن شعورها بمسألة تقدمها في السن، فأجابت ببساطة، أو هكذا ظننت، فقد وبختني أكثر من مرة، وسخرت من فكرة أنني اسأل أنثى هكذا، وسألتني إن كنت وجّهتُ هذا السؤال للآخرين، وأخبرتْ كل من قابلتهم بالسؤال: “أحد أسباب محبتي للتدريس في الجامعة أنني أحب البشر في سن الطلاب. هؤلاء لديهم شىء غير واقعي سواء في الطموح، أو حجم غضبهم من العالم، أو عدم تكيّفهم معه. أنا أحب أن أكون بجوار هؤلاء، ولكن بالنسبة لتجربتي الشخصية أقول بأمانة شديدة أنني كنت تعيسة تماماً خلال فترة التسعينيات، لم تكن سنوات بهجة”، وتضيف “أنا أعشق فكرة وجود هؤلاء الأشخاص الذين لديهم قدرة على الاندهاش، والذين يستطيعون أن يجعلوك تعيش نفس الحالة، وعلى سبيل المثال قد تفاجأ بقصيدة قادرة على إدهاشك لشاعر أو شاعرة مواليد 84”.

كان هاجس الموت يسيطر عليها لأسباب شخصية، فهي لم تقابل أحداً فقد عدد الناس الذين فقدتهم، رحلت والدتها، وهي في الصف الثالث الابتدائي، كما رحلت صديقتها الأقرب سهام وهي تجري عملية استئصال اللوزتين البسيطة قبل ذلك بعام، رحل وائل رجب ومجدي الجابري وأسامة الدناصوري، وهكذا كان هاجس الموت قريباً منها طوال الوقت، ولكن حدث أن أصبحت أمّاً، ولم تعد مهتمة بفكرة موتها هي، بقدر خوفها على آخرين: “في البداية كان هاجسك شخصياً، أنك ستموت قبل الخامسة والعشرين، ولكن صار أكثر تركيباً وثقلاً، ويخص الناس الذين تحبهم”.

لا يوجد لدى إيمان هواجس أو وساوس أخرى، ولكن بعض الأمور التي تبدو غير منطقية، بتعبيرها هي، فلديها نوع من الإحساس الشخصي بأن العالم ليس إنسانياً: “أنت ترى الناس يتساقطون طوال الوقت، على سبيل المثال في بلد مثل سوريا. هذا يشكل أحد كوابيسي، أقصد أنك تحب العالم، وترغب في أن يعيش أولادك في عالم آمن، ولكن ليس في يدك شىء لتغييره، وعموماً الأمومة تجعلك تشعر بالذنب وبأن العالم من حولك قاس”.

لا تحب إيمان الاستماع إلى الموسيقى وهي تكتب أو تقرأ. حاولت أن تجرب هذا وفشلت، وتشعر دائماً أنها “مود” يحتاج الشخص إلى أن يمنحه نفسه بالكامل. تحب إيمان الجاز، كما أن لديها شغف بتتبع مدارسه. كيف انتقل إلى أفريقيا، وأوروبا؟ من هم المغنون الذين تميزوا فيه؟، ولحسن الحظ أن زوجها مهووس بالموسيقى: “بكل تأكيد وجود مايكل أتاح لي فرصة كبيرة للتعرف على أنواع من الموسيقى، وبالتأكيد لم أكن سأصل إلى موسيقى من جنوب أفريقيا أو من غانا بدونه. مايكل مصدر للمعرفة بالموسيقى بالنسبة لي”.

“تعشق” إيمان السينما، ولو أنها لا تستخدم مثل تلك الكلمات الكبيرة، وهي تفضّل السينما الأمريكية، وأحياناً تجلس للفرجة على فيلم “زبالة” بتعبيرها، فلا يوجد لديها مشكلة على الإطلاق في هذا، باعتبار أنها قد تكون وسيلة تسلية، ولكن فيما يتعلق بالأفلام التي تفضلها بعيداً عن التسلية فاسأل عن أفلام تارنتينو. لديها استعداد لتشاهد كل فيلم له مالا يقل عن خمس مرات. ستستمع في المرة الأولى. ستلاحظ تفاصيل غائبة في المرة الثانية. ستبحث عن فنيات في المرة الثالثة. عن مزيد من الخافي في العلاقات خلال الرابعة.. وهكذا. تقول “لا أدري كم مرة شاهدت أفلام الأخوة كوهين، (فارجو) على سبيل المثال، يشدني جداً مشهد الثلج وفرم بني آدم بتلك الطريقة. لم أكن أعرف هذا قبل 98، أقصد أنه يمكنك أن تشاهد أفلاماً من كل العالم بتلك السهولة. قد تبحث عن أفلام لمخرج إيراني أو ياباني، وما عليك سوى النزول فقط وقيادة سيارتك ثلاث دقائق إلى أقرب مكتبة وتعود بما تريده. كنا في التسعينيات نذهب بصحبة أصدقاء إلى الجامعة الأمريكية، ونستخدم كارنيهاتهم لندخل ونشاهد فيلماً ما، ويحدث أحياناً أن يتم إمساكنا، وأذكر أنني ذهبت في إحدى المرات مع مصطفى ذكري لنشاهد فيلماً في جوته، وتم حبسنا في الخارج(!) ولم نجد أمامنا سوى الجلوس في مقهى”.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم