محمد فيض خالد
معارك الطُّهاة
في ممرٍّ ضيق ترَاصّت موائد الطّّبخ، تهدِرُ فوقها آنيةٍ مُختلفة الأحجام، بشعة المنظر، تَهبّ منها روائح نافذة حريفة، نكهات باردة وحارة، دسمة وقليلة الدَّسم، بين آنٍ وآخر تَقتحمُ هدأت المكان “طشّة” عنيفة، تعبق ما حولها، ينُبئك أزيزها المكتوم، أنّ صاحبها من أمهرِ الطُّهاة، فهذه الجَرأة غير المعهودةِ، وذَاك الصّدى المتأرجح في مكانٍ كهذا، لا يصدران إلّا عن صاحبِ حِنكةٍ ودراية بأصولِ الطّبخ ودروب الأطعمة ومشتهياتها.
يهزني الفضول كعهدي مُذ أتيت، يجذبني لاتتبّع الجَلبة، اجدني وقد امتدّت يدي، امسكت مقبض الباب بيدٍ وجلة، اندفعت على عمايةٍ في الخارجِ، لا أدري السَّبب، أهو الفضول؟! لا أظن، فكثير ما استفزتني أصوات، واقتحمت خلوتي مناوشات مريبة طرفي النهار وزُلفا من الليلِ دونما استجابةٍ، فمعارك الهنود والبنغال لا يهدأ أوارها، تنتظم وتيرتها، ثم تتلاشى كأن لم تكن، وقد تستمر ساعاتٍ طوال، تبدأ عالية النبَّرة حامية محتدمة، يتخللها رطانة كريهة، كلمات وجمل تخرج من بينِ شفاه لا تتحرك، مضعضعة الأحرف، فيها مسّ عربية خفيف، لكنّه لا يشبه عربيتنا.
تتثاءب الأبواب عن أهلها في دقائق معدودة، يتراصّ القومُ في وجومٍ، يراقبون الحديث المحتدّ، هزّات رأس عنيفة، إشارات طائشة، أياد مشرعة بالشّرِ، أفواه تقذف بمحتوياتها، نخامةٍ صفراء مُقزِّزة، دقائق وتتباطأ الفورة، تسري في القوم همهمة سريعة، يقدم مستر ” فواز ” راعي البيت كعهده، في خطواتٍ ثابتة لا تخلو من افتعالٍ، لكنَّها لا تمنع كرشه المُلتف في استدارةٍ عجيبة من أن يهتز، فوق جسد حنطي نحيف، يدكّ الأرض بقدمين دقيقتين، يضرب الأبوابَ بيد بضّة كثيفة الشعر كقردٍ أفريقي، يهزّ رأسه الأصلع في حنقٍ، يشيح بوجهٍ فاقع السُّمرة، في خلسةٍ يُعَافِرُ كي يرغم خصلة شعر طويلة انتصبت في مُؤخرةِ رأسه أن تعود مكانها، يتقدّم من جهةِ الممر المُظلم، وقد ورم أنفه، وصَعدَ الدّم في خديهِ، يتنحى الخصوم في ذُلٍّ وتصاغرٍ، رويدا تهدأ ثائرة المكان، يتململ “فواز ” في وقفتهِ قليلا، قبل أن تُطلِق حنجرته وابلها، على ما يبدو أنّها نوبة توبيخٍ وتقريع، يشير بيدهِ في زَمجرةِ القط العجوز، لينفضّ الحشد، تعود أسراب النمل إلى جحورها، ولا يُعرف إلى الآن أسباب العراك.
رَاقَ لي أن أجِدَ لنفسي مكانًا قصيا إلى جوار حائط، مددت قدمي المُتصلِبة في تكاسلٍ، اُطالِعُ مبهورا خيال ” فواز”وقد تَصلّب في جهامةٍ وخُيلاء، يتَألّق في عينيهِ بريقٌ أخاذ، مشى نحوي وقد اشرقَ وجهه ببعضِ بشاشةٍ، قائلا بصوتٍ متحشرجٍ: ” مُشكِل..؟! ” هزّ يده في الهَواءِ وتَحرَّك رأسهُ حركته المعهودة، ثم مشى في انتظامٍ جهةِ البابِ الرئيسي، يَحكّ الأرض نعله الخشن، يقتحم في مروره أبواب الغرف المغلقة مُتنمرا دونما تحفّظٍ، بعد قليل رنّت في الأجواء ضحكات أنثويةٍ رقيقة، احتواها السّكون السّخيف، وكأنه ينفض عنه كآبته وجموده، أُفرِغ المكان من شحنته المُلتهبة، تعالى صِياح زوجة جارنا ” محمد صادق” البنغالي العجوز، تلك الأربعينية النّحيفة كعودِ الذُّرة، على ما يبدو أنَّهما قد مدّا بساط أُنسهما مُبكِّرا، لم يخرجا مع الخارجين، تعوّدت المرأة تجهيز طعامها قبلَ الشّروقِ بساعاتٍ، على فتراتٍ تخرج المرأة عن رزانتها، فتطلق نعيرها في تَغنجٍ مُقلِق، ينفتح بابها، تخرج مُتعثرة في أسمالها، تضع حلة فوقَ الطبَّاخ، ثم تَعودُ سريعا، لتتركه وقد انسابَ وشيشه المُزعِج، وسط أكداسِ الوسخ، وفضلات قطتها ” موكي” البيضاء ذات الوبر الأشعث، بعدما اتخذت أمام الباب مُستَقرا لها.
طاردتُ الفأر العجوز الذي تسلّل مزهوا من تَحتِ ركامِ الأخشاب المُتراصة على جانبيّ الممر، غَابَ عن عيني، ابتلعه جوف الظَّلام الكَثيف، تلك إذا هي منابع السّذاجة في أبهى صورها، سَادَ صمتٌ مطبق، يقطع وحشته أصوات اصطدام المَلاعِق الحَاد بالأطباقِ، ورنات الهاتف الزاعقة، وكركرة مِزاحٍ سخيفٍ متواصل لا يخلو من فجاجةٍ، تلفت من حولي فلم أجد من بُدٍّ إلّا أن أعود أدراجي ثانية، احمد الله على فضلهِ، مُستعَيذا من وساوسِ النّفس، ومعارك البنغال
أبو الأنوار
باتَ في ليالي الصَّيف الطّويلة، مصدر إسعادٍ وبهجة، ما إن يَحلّ الليل، وتتقدّم جحافله، إلّا وتراهُ قد توهّجَ توهج الثِّمار اليانعة فوقَ الحائطِ، كأنّ خيوطه قد نُسِجَت من الإشراقِ والنّقاء، مُشعِّا كثغرٍ، يفتح صوته في عنفوانٍ صَاخب، يَفح فحيح الواثق، يكاد يجيبُ بغيرِ لسان، يلقي في نفوسِ من حوله الطمأنينة، ليقضوا ساعات سمرهم في أنس وارتياح.
يختلف الناس إلى هالةِ نوره اختلاف الفراش وهوام الليل، في قريتنا ظلّ “عبدالرازق ” المَلهى الوحيد الذي يستقبلُ زبائن التَّسلية في دكانهِ، تبدأ وصلة الانبساط والفرفشة من بعدِ صلاة العشاءِ، وحَتّى ساعات الفجر الأولى، في دربةِ الخبير، يعمد قبيل المغيب في ملء خزان ” الكلوب” بالسبيرتو الأبيض، يطلق عليه في خُيلاء ٍ” أبو الأنوار”، في عَبقٍ أثير، تَعجّ رائحته نفاذة، لكنها تنعش الأنوف التي تَحلَّقت، وقد اضطرب الأمل في قلوبها الغضة، جاءوا خصيصا كي يحضروا هذه المراسم، وتلك عادتهم عند كُلّ مساء، إيذانا ببدءِ ليلةٍ جديدةٍ من اللّعبِ.
ساعتئذٍ تأخذُ صاحبنا الجلالة، يبدأ في دنَدنةٍ خافتة، تقطعها تنهيدة خفيفة مُفتعلة، يَهرش رأسه مُتَهلِّلا، يُطلِقُ عقيرته ثانيةً في تَلطّفٍ:” الرتينة زي الفل بالصلاة على النبي “، يعودُ لعملهِ في صمتٍ، قبل أن يخرج من جيبهِ علبة الكبريت، يحكّ العود بقوة، يسلم اللهب لتلك الزبالة الرقيقة، سريعا تطلق لسانها بالنور، يتلألأ المكان من حولهِ غارقا في ونسٍ، كَشمسِ الضُّحي.
يتغامز الصغار في ريبةٍ، يكتمون ضحكة ثقيلة، تفيض بها حنوكهم الممتلئة بطعامها، يبدأ صاحبنا في سردِ حكايته المملة، يُردِّدها في استعبارٍ وتأثر، يقول في انفعالٍ:” الكلوب دا خطر.. عايز واحد صاحي!”، في كل حينٍ يذكر تفاصيل قصته الرائجة، عن ” صادق مدكور ” الذي التهمت نيران ” الكلوب ” ذراعه في توحشٍ، يواسيه قليلا في مأساتهِ، قبل أن ينفجر مُوبِّخا رعونته لاعنا استهتاره، في ابتسامٍ وبشر، يَهرش شعرات صدره مُنتَشيا، ثم يرفعه في جرأةٍ، يُعلِقهُ في خُطافٍ تدلى من سقفِ الدُّكان، تهشّ في وجوهِ الزَّبائن الذين تهافتوا الفرحة، يطالعون نوره الأبيض لتَتدفق حكايا السّهر، وسط أكوابِ الشّاي وقد علت رغوتها الصَّفراء الساحرة، وخيوط الدخان المُتَصاعِد من أعناقِ “الجِوزة” كما الأفاعي، تتلاقى أصوات تكسير قشور الفول السوداني واللب مع وشيشه، فتسيل على الدرب والقرية جميعا، روحا طيبة لا توصف.
ظَلَّت قريتنا طويلا أسيرة طيَّعة لكلوبِ “عبدالرازق “، عن قناعةٍ تتَلذّذ لفتنةِ أنواره السَّاحرة، مُنفَرِدا في غرورٍ، يرسم ملامحَ الحياة فيها، لا يجرؤ أحد أن يُعلن عصيانه، معه يُولدُ النهار، ويموت الليل، وبهِ تنشط حركة الدروب وتخمد، وعلى وقع أنفاسه الملتهبة تغوص الدُّور بأهلها، ومع غيابهِ تنَزع عنها الحياة، فتعود هامدة كما القبور،
لكنّ الدَّهر لا يبقى على حالهِ، وما أسرع مرور الأيام ودورانها، بعد هنيهةٍ سيطرَ كبرياء الغنى وبطر الثروة، بعض نفرٍ من الأُجرية، الذين ابتسم لهم الحظ وغرّّتهم الأمانيّ، فعادوا بعد غربةٍ طويلة قَضوها في ليبيا والخليج، لتغزو أضواء “الكلوبات ” بيوت القرية، تفكّ عنها طلاسم أعوام طويلة قضتها أسيرة ” أبو الأنوار “..
لم يبق لعبدالرزاق، غير الكلام وحسرة تملأ نفسه الأسيفة، يجلس على عتبةِ دكانه، يحكي للمارة حكاية ” أبو الأنوار ” عندما سَافرَ بصحبةِ حكيم الصحة ؛ لتهنئة ” أبو العزم ” باشا، بمناسبةِ زفاف كريمته، كيف عادَ بهِ محمولا فوق الأيدي مهدهدا، لكن وجهه يعود مُسودَّا وهو كظيم، يُطاِلعُ “الكلوب” وقد داهمَ الصّدأ جسده الواهن، يطأطئ رأسه في خذلان، تتلوى ثعابين الذكرى من أمامه، تُحَاول لملمة كبرياؤه الجريح لكن دونما فائدة..
بياع البلابل
سَلخت الشَّمس فضلةٍ من نورها الفاتر، تغَسل وسَن الصّباح الوليد، تتراقصُ مُلحّة في الخارجِ خيالات اللّهب، تلقي بوعيدها جَمرا مُلتَهِبا، تَشقّق بصري عن إرهاقٍ غريب، يسري وَهَنا وضَعفا، ربَّما بُرودة المُكَّيف تكون السَّبب، لم يتَعوَّدها جسدي بعد، أجواء مُثلجة تَتساقط كِسفا من فوقي، كنتُ في ماضي وأنا القروي الغرير، تكفيني نسَمات المساء الرَّقيقة، تتلاعب فوق أسطح البيوت، ساعات نومي حين اتخذ من سطح بيتنا مهجعا، مُمددَّا فوق حصيرِ الحلَفاء المَنضوح بالماءِ، أو اتخذ لنفسي مكانا قَصيا استَظلّ فيه بظلِ نخَلةٍ وارفة الظِّلال، أو احتضن جذع صفصافة تهَدَّلت فُروعها، فبدت كجنةِ المأوى ساعة القيلولة.
أمَّا الآن وقد تبَدَّلت الأرض غَير الأرضِ، فقد أُذِن لهذا الجَسد المُضنَى بأثقالِ الماضي القريب، أن يهَنأ بعد شَقاءٍ، وأن يجد لنَفسهِ برَاحا، ينفض عنهُ غبار شقوته.
قَضيتُ دقائق اُطاِلعُ مبَهوتا آلة التَّكييف، اطلقت بعفويةٍ دعوات أن يرحمَ الله صاحبَ هذا الاختراع السِّحري، تَفلتت مني نَهنهة آنست لها، تَواردَ على خاطري في هاتهِ اللحَّظات، صوت الشَّيخ ” بلال الحدق” مُجلجِّلا، في حُمرةٍ مُفزِعة يشَيبُ لمرآه الولدان، صَادِحَا بفتواه، حَالِفا أغلظ الأيمان:” إنَّ هؤلاء الكُفار مُخلَّدون في نارِ الجَحيم، حتَّى وإن اخترعوا لنا ما يُحيي الموتى، لأنَّهم كَفروا واشركوا “، لم أكن يوما أركنُ لفتَواه، بعدما عَلِمت أنّ رحمة الله وسعت كُلَّ شيء، وهو القَادر على أن يُغيَّر ولا يَتَغيَّر، اطرقتُ قَليلا مَأخوذًا بسكونِ المكان كان الجو هادئا لينا كعادتهِ كل صَباح، ثوانٍ وتَسلَّل لمسامعي ما شَدَّني إليهِ، امتلأت الغُرفة بأصواتٍ عذبة، ما كنُتُ أظنّها يوما، إذ كَيْفَ لهذا الجُحر الحَقير أن تَسكنه مثل هذه الأرواح الرَّقيقة، وكيف لمَخبأ القَسوة وموطن العَذاب، أن ينَقَلِب فيَحتضن ملائكة الرَّحمة، مدفوعا بغريزة الفضول اطلقتُ مسَامعي، تعترض الصَّوتُ القَادِم في استَحسانٍ، في صَمتٍ بَاكٍ تحركتُ صَوب الباب، عندها اختلطت الأصوات وتَداخلت النَّغَمات، في تجَانسٍ عجيب مُحَّبب، تركتُ لأفكاري الحَبلَ على الغَارِب، تمرح في ونَسٍ على مَهلٍ، جذبت مقبض الباب، انفتح لأجدني وجها لوجهٍ مع لوحَةٍ بديعة التَّراكيب، صُفوفٍ طويلة ممُتدَة من الأقفَاصِ الحديدية منوعة الأحجام، متراصة في نسقٍ بديع، فَجَّ النُّورُ الهَزيل سريعا فوق الرِّيشِ في بهُرجٍ فتَّان، ببغاوات وعصافير، وطيور مختلفة الأصناف، تتلألأ أصواتها في تغَريدٍ لطيف، تترَاقص وتتَشاكس في عفويةٍ مُضحكة، نظرت نظرة حيرى في جنباتِ المكان الغَارق في خُمولٍ مُخيف، مَددّت بصري حتى نهايةِ المَمر، باغتت رائحة العَفن أنفي، فاستغفرت الله مُحَوقلِا، بدى المكان حول الأقفاصِ على غيرِ مَألوفِه،لوحة جميلة، ضَربتُ كفا بكف، إذ كيف لموطنِ الفئران والحشرات من كل نوعٍ، أن ترتع فيه مثل هذه المخلوقات الرَّقيقة، وكُلما علت تغاريد الطيور، وتَصَاعد صداها في المكان امتلئ بالبهجة، اظن والله اعلم أن لا مكان للفئران والقطط الضَّالة بعد الآن، تخيلت الجدران وقد استحال لونها ورديا جميلا، والعطن القاتل تبدّل بغيرهِ زكيا طيبا، في تلك الأثناء تَقدَّم مني فتى هندي مُتَهلّل القسمات، يَشعُّ وجهه ببسمةٍ فاترة، وعلى فمهِ ابتسامة رخيصة، يتقافز في فرحٍ يَلهو، يُردِّد نغمات أسيوية طنانة،يهمز أصابعه السُّوداء الرفيعة بين الأسَلاكِ، ينَثرُ حبات الطعام، اعتدل قائلا بصوتٍ مشروخ:” صديق هذا طير حقه عشرة دينار “، ثم تغافل عني مع طيورهِ، تفَلّتت مني ابتسامة مُحتَقِنة، أردد ضاحكا من قوله، اُطالِعُ في تأثرٍ أقفاصه، اقولُ في دَخيلِة نفسي:” لقد شططت في عرضك يا صديقي، عشرة دنانير يا بلاش؟”، هَز َّرأسه مُستَغرِّبا، وكأنَّه سمعَ نجواي، تضاحكت مُجبَرا، عُدت ثانية للغُرفةِ، اغلقت الباب، جلست على الأرضِ هامدا، وصوت العصافير والبلابل يهزّ الأرجاء، كَرَّت أسئلة مُستَفِزة تحاول أن تجد إجابة:” كيف تساوي زرازير الحقل، وأبو فصاده كل هذه الثروة الطائفة؟!، اطلقت ضحكة عالية أضاءت ظلمة المكان، قلت في حَسمٍ:” لابُدّ أن تكون خطوتي القادمة جادة، عليَّ الحُصول على وكالةٍ لتصديرِ عصافير الحقول لهذا البلد “، راقبتُ في مَرارةٍ الفضاء السَّاجي في رقدتِه، تَقدَّمت ساعات النهار جافلة، وانتشرت مع مجيئهِ ذرات الغبار، التي تتحلق في الجو مُتكاثِفة أمام زجاج ِالناَّفذة، حَدجتُ الصورة الكئيبة في فَزعٍ، يقطعه أحيانا صوت البلابل..
أيام في سكن العُزّاب (١)
زلت قدمي وتلك تصاريف الأيام، لأجدني وقد توطنت سُكناي في بيتٍ متواضع، من ثلاثة طوابقٍ يضم أجناسا شتّى، هجره أصحابه بعدما أوكلوا إجارته لرجلٍ من الهنودِ يُسمّى ” فواز”، هو الآمر المُتصرِّف، هبطت من السيارةِ التي اقلتني من المطارِ مباشرة، نحنُ الآن ضحايا شمس الظهيرة الحارقة، تحت نيرها الذي لا يرحم، لم تطاوعني نفسي النّزول، إذ كيف لي المجازفة، وأنا أهنأ في دعةٍ تحت برد المُكيّف الذي يلفحني، وفي الخارجِ تتماوج مُتلمّظة شياطين جهنم، طالعت الشّمس فوجدت نظرات الحقد وقد انصبّت على الأرضِ ومن فيها، لم يكن من بُدّ غير مغادرةِ السّيارة، وقد تململ السّائق “البنغالي “قائلا في تأففٍ: ” ليش ما تنزل صديق “،، وبدأ يبرطمُ ضجرا، وقعت عيني أوّل ما وقعت على واجهةِ البيتِ، القابع في سكونهِ راضيا مُستسلما لمصيرهِ، يجتر همومه في صمتٍ كصمتِ الموتى، شعرت بوخزة اللّهب تحرِق جلدي، لحظتها انفتح الباب الخارجي، لأجد من خلفهِ عوالم أخرى، لأسرابٍ من بُنيّ الإنسان في مملكةٍ مخفية، شخوصا في هيئتنا، غير أنّ لَهم رطانة غريبة لم تتعهدها أذني، اللهم إلّا في أفلام العيد التي سحرتنا صغارا، لم اميّز من لكنتهم غير كسارةٍ من لسان العرب، هالني جرأتهم على الحياةِ في هذا الوسط المشتعل، وكأنهم في فلكٍ يسبحون، أشار عجوز منهم نحونا مُلقيا بالتحيةِ في ابتسامةٍ بشوشةٍ، أزاحَ لحظتئذٍ عن وجههِ سمرة قد تلبّدت، من طلاءٍ غامق يُشبه منقوع ” الكركديه “.
صَرَبَ ابن خالي بكفهِ فوقَ كتفي مُرحّبا: ” أهلا بك يا نجم في فندق النجوم الزُّرق “، وانخرط في عفوية في ضحكة طويلة، وقد توزّعت عينه ما بيني وبين المكان الذي غَامَ من أمامي، تمالكت نفسي تدريجيا وأنا أغالِبُ هياجَ أعصابي وانفلاتها، مُكتَفيا بمطالعةِ خليط البشر الذي حَام من حولي، كأسرابِ النّمل التي خرجت من تحتِ أطمارِالمكان، انجذبت أنفي طوعا لرائحةٍ نفاذة، لم تمهلني طويلا، بعدما اقتحمت الأجواء ” طشة” قوية لاذعة، تناثرت كالقنبلة، لأول مرةٍ في حياتي أجد لرائحةِ الطّبخِ أثرا يحرِق الوجوه ويكوي الجلود، مزيج مُرعِب، سريعا سالت مدامعي، واحتَقنَ أنفي، وتلبّدَ مدخل البيت في لمحِ البصر، بسحابةٍ داكنةٍ دسمة تحلّقت حول موائد الطّبيخ التي توزّعت بين أروقةِ المكانِ في عشوائيةٍ مقلقة، وبعد انجلاءِ الغارة واستقرار الأوضاع، اشتبكت عيني مع الفاعل، الذي وقفَ مُبتهجا، يُردِّد مسرورا مقطوعات لأغانٍ هندية حماسية على ما يبدو، يُحرِّك مغرفة خشبية تآكلت أطرافها يمينا وشمالا، قد كسى خشبها العتيق جِنزار مخيف، تتابعت نظراتي السَّاهمة وكأنّ الزّمن قد توقّفَ عن الدورانِ، اعتدلَ صاحبنا قبالتنا فَتبدّى كالماردِ العجوز، خَرجَ لتوهِ من القمقمِ، يتصبب منه العرق يَحكَ جسده البضّ في الحائطِ مستسلما لخشونتهِ، وقد لَفّ وسطه بخرقةٍ مزركشة بالية، تداخلت ألوانها فبدت في بُهرجٍ يستفز العين، تضيء محاجر عينيه في وهجٍ أخاذ، هزّ رأسه في حركةٍ نصف دائرية هاشا مُردّدا في لطفٍ محيّر: ” هلا صديق “،، عرفت لاحقا من أنّها تحيتهم المعهودة، اصفرَ معها وجهي، وتداعت قواي، وأنا أرى مستقبلا واهيا، وقد تَجسّدَ مجهولَ الملامح أقف على أعتابهِ مُرتَبكا، داعيا الله القدير أن يهيئ لي من شدتي مُرتفقا..