خطوات متباعدة

موقع الكتابة الثقافي art 10
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

لم يكن لهما نفس طول الخطوة أو إيقاعها، لذلك كان عادة ما يسبقها أو تسبقه، لم يكن لديهما الرغبة في المشي متجاورين، لم يفكر أحدهما في أن يمسك بيد الآخر أو حتى النظر إليه، كان كلاهما ينتبه لخطواته جيدا أثناء المشي، خاصة في تلك الليالي التي يذوب فيها جليد مونتريال مخلفاً وراءه مياها وأرضية زجاجية زلقة.

كان يتقدمها ببضعة خطوات، وكانت هي تتأخر مع ذكرياتها عن حبها القديم، ونظريته في اختلاف طول الخطوة بينهما، والذي يؤدي عادة إلى أن يجذب أحدهما الآخر إلى مكان جديد.

 كانت تتأخر.. لأنها اكتشفت أن اختلافها معه لا يؤدي بها إلى أي مكان، ولكنه يزيد الرغبة بداخلها في النفور منه والابتعاد عنه، تخونها قدمها فيهتز جسمها وتحاول التماسك.. ينزعج لظنه أنها ستقع، ولكنه بعيد كفاية لأن يستطيع مساعدتها ولو بلمسة، تفرمل جسدها وتقف قبل السقوط بلحظة، يعاود السير وكأن شيئا لم يحدث.

يصعد أمامها بضعة سلالم تؤدي إلى محطة الأتوبيس، يكتفي بتحذيرها من الانزلاق، تتلاشى كلماته في الهواء وهي تستند إلى السور المائل للسلم، فهي رغم اختيارها له مازالت تؤمن في الحائط أكثر من ايمانها بظله.

تفكر كم تكره طريقته في الاهتمام بها، ذلك الاهتمام الظاهري الذي يقف عند حدود الكلام والنصائح والتحذيرات، ولا يصل أبداً لمرحلة أن يمد لها يده، فتقسم أنها لن تتزوج مرة ثانية، عندما تتخلص منه، وإن تزوجت فلن تتزوج رجلا لا يقرأ ما تكتبه، فهذا كان معيار الاهتمام الذي تقيس عليه كل شئ، رجل يهتم بأن يقرأها، على الأقل لكي يعلم، أن لمسة يده ليدها في الطريق أهم عندها من ممارسة الجنس، حتى لو كان لا يعتقد في أنه لا يمكن مقارنة هذا بذاك، فعلى الأقل كان سيمنحها من آن لآخر لمسة يد، تزيد رغبتها فيه وتخرجها من الاعتياد، فتمارس معه الجنس في وضعه المفضل.

يقف على بعد عدة أمتار من المحطة، تتخطاه وتقف ملتصقة باللافتة التي تحمل رقم الأتوبيس، تصعد هامسة بفرنسية مكسرة: “مساء الخير”. تخترق الصفوف ثم تجلس على كرسي مخصص لشخصين، يصعد وراءها وبصوت أعلى وبفرنسيته الباريسية التي لطالما تفاخر بها يحي السائق، وكأنه يثبت حضور.. هي  لا تشعر به، أو ربما تتجاهله، يخترق الصفوف باحثا عن مكانه بجانبها، يجلس.. فتلصق وجهها بالزجاج، يلاحظ تكاثف البخار نتيجة تنهيداتها العميقة، يعرف أنها غاضبة، فيخرج من جيبه ورقة وقلم ويغرق في لعبة السودكو المفضلة لديه.

تفكر أنه لا يمكنها أن تحيا معه لآخر العمر، وأن أشياء كثيرة تنقصها معه.

يقف ويدق الجرس منبها السائق الى رغبته في النزول بالمحطة التالية، تتأنى في الوقوف وتتمنى لو تتركه ينزل وحده، في اللحظة الأخيرة يرمقها مندهشاً، تتذكر أن ليس هناك مكان آخر تذهب إليه.

تمد خطواتها هذه المرة وتسبقه، يحاول أن يحاذي خطواتها الواسعة الغير حذرة رغم الثلج، وبصوت واهن يحاول أن يستدرجها لحديث يرقق قلبها قليلا، فيسألها: “هل أنت غاضبة مني”؟  

بصعوبة تستدل أصابعها العمياء على مفتاح البيت الغارق وسط فوضى حقيبتها، تخرجه وتضعه في باب المنزل، تدخل فيدلف ورائها، تقف لتخلع حذائها فتلمح السؤال مازال معلقا في عينيه، فتسبقه إلى الداخل بعدة خطوات، وتغرق في دفء مقعدها المفضل بجانب المدفأة.

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون