أحمد غانم عبد الجليل
انتصف رابع نهار على غيابه، عربة إعداد وبيع الشطائر لم تشغل مكان وقوفها المعتاد منذ الصباح الباكر حتى وقت الغروب تقريبًا، يختفي معها صوته المنساب عبر الشارع كله بلا كلل، ببحته المميزة عن كل الأصوات المتداخلة الأخرى، خاصة عندما يطيب له إطلاق موٌال، أو بعضٍ منه، من حنجرة قوية لا يدركها ضعف، كما لو كان مطربًا اعتاد تقديم عروضه على أكبر المسارح، كذلك اعتاد أن يبث البهجة لدى أصحاب المحال والمارة وزبائنه بنكاته وسخريته المحببة، رغم ما فيها من تجاوز وتلميحات ينتاب النساء خاصة الخجل منها، ألومه، أحذره، وأذكره بآية كريمة أو حديث شريف ينهانا عن هذرٍ مثل هذره، لكن الملعون يعرف كيف يحيل كل شيء إلى مزاح قد تباغتني كلماته حتى وأنا أصلي فأزم شفتيّ لمواراة ضحكةٍ منفلتة من خشوع الركعات.
شيطان بحق، رغم ما يدَعي من إيمان قوي واجه به الموت في مواقف عدة، أتعجب لحكاياتها فعلًا، لكنني لا أستطيع تكذييه، فمن قاسى مرارة الأسر أكثر من عشرة سنوات يكون كمن عاش ومات مرات لا حصر لها، وهو يروي ما حصل معه بذات الأسلوب الضاحك، المبتلِع الحسرات، مع شيء من الخيال المفضوح، والمتواطَأ عليه، عندما يُقحم فاتنات خياله في زنزانات الأسر الموحشة، تشاركنه صرخات العذاب بغنج تأوهاتهن حتى تكل أذرع السياط من كي جسده بلهب لسعاتها، ثم لا يلبث أن بسترسل في الكلام عن مغامراته هنا وهناك، بينما أواصل الاستعاذة بالله من شهوة تتراقص كالنار بين أحرف كلماته.
يلمح رغبة خبيثة تكمن داخلي أن أكون مثله، أعيش شيئًا من حريته التي يستمتع بها بكل طمأنينة وثقة، فيبتسم ابتسامته الماكرة ذاتها التي يرميني بها كلما لاحت لعينيه نظرة مني نحو أي امرأة، أو حتى فتاة قد تكون في عمر ابنتي، ولو كانت في كامل زي حجابها الفضفاض أو ملتفة بعباءة لا يظهر منها سوى وجهها، يعرف كيف يقتنصها فلا يفوِت الفرصة دون أن يستفزني بتعليق لئيم يلقيني ضمن إطار الشيخ المتعبد، المداوم على الصلاة وقراءة القرآن والكثير من الكتب والعديد من المجلدات في الفقه والتفسير ومختلف شؤون الدين، والباحث عن الشهوات، ولو عبر نبرة صوت أستشعر فيها بعض الرقة غير المقصودة.
منافق وازدواجي الشخصية، يخادع نفسه قبل مخادعة أي شخص آخر، هكذا أنا في نظره، محدود الأفق، منذ أن تركت دراستي ورحت أوزع وقتي بين أشولة المكَسَرات التي ورثت تجارتها عن جد الجد وبين الاجتهاد في طلب العلم، ولمّا بلغت السابعة عشر عامًا انتعشت فحولتي بالزواج من بيت أحد الأقارب، تزوجت بعد ذلك عدة زيجات تباعًا ممن أبهرنني بجمالهن المثير في ليالٍ كادت تُزهق روحي، إلا أن أيًا من تلك الزيجات لم تستمر طويلًا، لأنها من حماقة اختياراتي، كما كان يردد والدي ـ رحمه الله ـ في شماتة من شراهتي الباحثة عن دلال الأنثى قبل حسبها ونسبها ودينها، كنت أعرف أنهن طامعات بثروة الرجل المتشوق دومًا لدفء أجسادهن الناعمة كالحرير، فتظن كل منهن إنها تمتلك سلاحها الخاص لإخضاعي بالكامل، وأنا كنت ألين كثيرًا حتى تكاد تتيقن من استمالتي بالكامل وإني صرت مثل العجينة الطيّعة بين يديها، إلا أنني كنت أنتفض فجأة على ذلك الشيخ الضعيف الذي يسمح لامرأة باقتياده كما تشاء، بمنأى عن كل ما وعي عليه وألف تلقينه منذ الصغر، والعيش حياة غير حياة والده وأجداده المتوارثين طاعة الله والحرص على اتباع أوامره.
“مشتهي ومستحي”
كثيرًا ما كان يردد هاتين الكلمتين السخيفتين، كأنه يود تعريتي بهما، فاغتاظ منه كثيرًا واستمر في دفاعي عن خلف السلف الصالح بانفعال يكاد يتحول حنقه إلى ضرب موجع يحطم وجه من يتجاسر على التهكم من مهابتي بين الناس، رغم أنفه وكل تلميحاته الماجنة، فأذَكره بما يتعمد تناسيه، أنني الشيخ الجليل الذي يسعى إليه الكثيرون لحل مشاكلهم أو للفصل في منازعاتهم…
المحتال عندما يجد أنني قد وصلت إلى تلك الدرجة من الغضب يبدأ يهدئ من روعي، كما لو أنه يهدهد طفلًا أنهكه البكاء، لكنني أهجس جيدًا تواصل سخريته المقيتة في سره، فأكظم غيظي منه ومن تحدٍ كامن تحت روح الدعابة ومزاح الأصدقاء الخالي من التحفظ والعقد، تحدٍ قاده إلى حتفه في النهاية.
طلبتُ منه السكوت مرارًا، إلا أنه استمر في قهقهة عربيدة، أثقلتها الخمرة التي كانت تزاحم كلماته برائحتها الكريهة، وهو يواصل الصياح، كأنه كان يريد إيقاظ كل ناس الشارع والحي والمدينة بأسرها من نومهم في تلك الساعة المتأخرة من الليل لكي يتفرجوا على الشيخ الوقور الذي أسعده الحظ بضبطه متلبسًا بالرذيلة.
أبدًا لا أصدِق بمصادفة مثل تلك اللقيا أبدًا، فقد كان يترصدني بالتأكيد كي أبدو أمامه عاريًا بالكامل، دون أن يسترني عن حملقة تبجحه شيء، فلا أستطيع النطق بكلمة عن دنيا المجون التي ينغمس فيها، بلا أن يفكر في تأدية فرض من فروض الله الذي يذكره كثيرًا بكلمات لا يعي من رهبة قدسيتها شيئا.
حاولتُ كتم صوته بباطن كفي بعد خروجنا من تلك الدار الدنسة، لكنه دفعني بقوة وراح يزداد سفاهة، كأنه عثر على ضالته التي ستغير له كل حياته العابثة والماضية بلا هدف، مثله مثل حيوان لا يسعى سوى لسد جوعه، لكن دون أن يجد وسيلة للشبع، ثم أخذ الأخرق يركض ويهلل وأنا أسعى ورائه لإسكاته كي نستطيع التفاهم على نسيان ليلة الشؤم تلك، ولو مقابل مبلغ من المال، لا يأتي بمثله خلال سنوات عمله على العربة التي ساعدته بشرائها وتهيئتها كي تكون وسيلته لعيشٍ مستقر، فلا يبقى أجيرًا تحت إمرة أحد في هذا العمل وذاك، على أن لا أبصر وجهه بعد ذلك، ولتذهب الصداقة المغلولة بالحقد إلى الجحيم الذي أستجير برحمة الله منه ومن أهله في كل وقت.
لحقتُ به عند منعطف قرب أرض خلاء، شددته من ذراعه ليقف ونتكلم، فلا نظل نتراكض مثل صبية شهدوا النشوة لتوهم مع أحط نساء الأرض، لكنه أخذ يهذر بكلام يلعنني ويلعن أمثالي ممن يتاجرون بجنة الخلد لصالحهم فيما يقذفون الآخرين في نار الدنيا قبل الآخرة، فبينما كان الشاب الجامعي المثقف ينزف سنة تلو الأخرى من عمره في جبهات القتال ومن ثم غياهب الأسر كنت أنا أراكم الثروة وأتشدق بكلام أحفظه عن الكتب المصفرة وأردده كالببغاء من فوق المنابر المطَعَمة بالعاج والمكَسَرات ونظراتي مصوَبة نحو صدور وأفخاذ وعجائز الأخوات المؤمنات…
ثرثرة سكارى ما كنت لأحتملها أكثر في ذلك الهجيع من الليل وهو يتفنن برميي بأثقل كلمات الاحتقار دون أن يدركه الوهن، لم أنفجر في وجهه كما تحداني أن أفعل وأرد على وقاحة لغوه بما أحفظ من حلو الكلام، فلم أجد فائدة تُرجى من جدالٍ وهرفطة قد يستمران بنا إلى ما بعد انبلاج الصبح.
تركته ممددًا هناك، مفجوج الرأس بأقرب صخرة ناشتها يدي، وركضت نحو سيارتي التي كنت أركنها على مسافة بعيدة من بيت المومسات.
متأكد إن أحدًا لم يلمحني، لكنني رأيت نفسي كما لم أفطن إليها من قبل.
17 ـ 1 ـ 2022 عمّان
………………………….
*كاتب من العراق