مصهور الفنون وقوالب المشاعر…عباس كيارستمي بين الكادر والقصيدة

عباس
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

في البداية هناك شيء يمكن أن نتوقف عنده بحديث أجراه المخرج الإيراني الراحل عباس كيارستمي عام ١٩٩٧ عن الرقابة ببلاده وعلاقتها بتغير نظام الحكم. حيث صرح بأن أعماله لم تتأثر بمقص الرقيب. بمعنى أن ما يفرضه عليه هي بمثابة قواعد عليه تعلمها بسرعة، ليضبط حركته وطريقة تعبيره عن قضاياه. لا ليتحايل عليها، فيفقد -حسبما يشير- الإيمان بالفكرة، ومن ثم يرى نفسه يقدم سلسلة ضعيفة من الأكاذيب لا ترقى لأن تكون حقيقة كاملة يتفاعل معها المشاهد.

وإذا تتبعنا سيرة المخرج ومواهبه المتعددة، لا نجد أنفسنا إلا أمام تفسير قادر على محو الأسئلة والشكوك القريبة للمنطق المنبعثة منا تجاه كلامه، كالتبرير لأجل التعصب للبلد أو محاولة الانسحاب من الجدل. يعرف التفسير عن نفسه بشكل مبدئي في مجال السينما، من خلال تصميم أعماله على نحو بسيط هادئ، يقترب بدرجة كبيرة من الواقع. أو بالأدق يذوّب ما يعرف ب”الجدار الرابع” أو المساحة الفاصلة بينه وبين المشاهد، فيرى بالتبعية نفسه محل الأبطال أو مساندا إياهم متشاركا قضيتهم، ومن ثم يحدد مصيره بالنهاية سواء متفقا أو مختلفا معهم. وهو ما تبلور أكثر بترك كيارستمي نهاية فيلم “طعم الكرز” مفتوحة بين روايتين، ليزيد وجود المشاهد وتفاعله أكثر. ومن ذلك يتفهم المشاهد-حسبما يشير اليوتيوبر المتخصص بمراجعات الأفلام عمر أبو المجد- عدم التركيز على حياة الأبطال ودوافعهم بشكل كبير، واتجاهه للتركيز على الطبيعة وشكلها، بجعلها تنطق بما في تفاعلات البطل النفسية -كما في توضيح الفرق بين الصحراء المصفرة التي تعبر عن البطل اليائس “بديعي” بفيلم “طعم الكرز ” وبين منظر الأرض المخضرة أثناء عرض الكواليس- مثبتا لكون الإنسان عنصرا أو أداة تساهم كبقية عناصر الكون في تصميم شكل نهائي، مما يزيده تجانسا مع المشاهد كذلك.

-يزداد ذلك التفسير تماسكا وقوة حين ننتقل إلى فنون أخرى برع فيها كيارستمي بجانب الإخراج والتصوير. فمربعاته الشعرية في ديوانيه “ريح وأوراق” و”بصحبة الريح” لا تختلف عن بصمته التصويرية. فإذن نحن أمام حقيقة ثابتة، فالمخرج لديه أدوات خاصة تحمل طريقة تعبير مربكة بين تصوير الوقائع اليومية والطبيعة والتركيز على قضيته أو ركيزة العمل، فلا يعرف مقص الرقابة من أين يقطع. علاوة على ذلك فإنها ثابتة وراسخة في أعماله الشعرية أو التصويرية، كأنها مصهور حر يستطيع كيارستمي أن يحوزه ويشكله بقوالبه الصلبة. وهنا يكمن للمتلقي الاستمتاع بمستويات عدة.

  • عدسة بلا مرسى “أين يتقابل الشعر بالتصوير؟”

❞ أغاني مزارعي الرز

‫ السعيدة والحزينة

‫ أنغام كلتاهما

‫ واحدة ❝

‏بصحبة الريح- عباس كيارستمي

-كما ذكرنا سابقا، يميل المخرج الراحل بشكل كبير إلى تصوير الطبيعة، أو التركيز على الملامح وتوظيفها بما يلائم المشهد. مستعيضا بذلك عن وصف كثير يحتاجه لإفهام المشاهد أو حوارات طويلة تكمل الصورة والانفعال لديه. فاستخدم منظر الطريق المتعرج والمنحدر من بعيد في فيلم “أين بيت صديقي” للدلالة على وعورة الطريق على الطفل -بطل الفيلم- من الوصول لصديقه وإنقاذه. وأيضا دقق في اختيار بطل فيلم “close up”، بكونه ذا ملامح مجهدة ومرهقة، تعضد موقفه في مشهد اعترافه في المحكمة، بانفعالات بسيطة واقعية.

-لكن بعض النقاد يشير إلى اعتباره سببا محتملا يجعل الفيلم باردا، ينفصل عنه المشاهد بسهوله. معللين ذلك لوجود أنواع مختلفة من الذائقة مسيطرة على فئة كبرى من المتلقين، كالوضوح والمدلولات السهلة. فضلا عن صعوبة وتوجيه دفتها إلى ما يريده المخرج، فما الداعي لها إذن؟

-يرجع ذلك إلى الاقتباس السابق من ديوانه، والذي ينير إلينا إيمانه بأن الكون عبارة عن أدوات تعاون بعضها البعض لتصميم صورة ما. بغض النظر عن العنصر الغالب في تلك الصورة، إذ أنها تعد مجرد حركة تصنع لنغمة على أية حال.

❞ لا شرق
ولا غرب
لا شمال
ولا جنوب
هناك حيث وقفت ❝

نستنتج أن رؤيته لشخصياته تحاول أن تضع الإنسان موطن التائه غير المعرف نفسه في أي اتجاه. وبفضل الومضات الشعرية القريبة من شعر الهايكو -والذي أشارت إليه الكاتبة بترا زيون في مقدمة كتابها “تراتيل” بأن الهايكو لا ينظر للإنسان باعتباره مركز الكون مع الاهتمام بالتنوع الفصلي-يتيح له ذلك الإنغماس والذوبان في المشهد والتغلغل به دون أن يهتم بوضع بصمة مميزة من عدمه. لأنه يعرّف نفسه بإحدى المقطوعات “أنا أنا” وفي أخرى “حائر بين الحقول” فيستطيع بهذا الترنح أن يقتسم شعور قرنائه الأحياء بتعاقب الفصول وحركة القمر والغيوم، والاستماع بحركاتهم كحركة الدودة أو سرب الجنود أو تهاوي أوراق الدلب.

“أتساءل دائمًا إلى أي مدى يهدف الفنان إلى تصوير حقيقة المشهد. يلتقط الرسامون إطارًا واحدًا فقط من الواقع ولا شيء قبله أو بعده”

-عباس كيارستمي- من مقدمة فيلم “24 إطار”

-بالتبعية، آمن الشاعر الراحل باتجاه مختلف -برأيي- للفن والتفرد. فلم يفضل أن يأخذ فقط لقطة واحدة أو لقطات متفرقة من الواقع تعكس ما يشعر به، أو يحس به شخصيات العمل. لكن يصنع إطار كامل مليء بحركة واقعية حرة تجعل المشاهد يركز أكثر على تفاصيل ذلك الإطار. وتثير فيه الدهشة والتأويلات عن دافع ونتيجة كل حركة. وهذا ما صنعه فعلا في عمله الأخير “24 إطار” قبل رحيله. فحاول أن يرد لوحات فنية شهيرة أو لقطات صورها بنفسه روحها المسلوبة، يضيف حركات بسيطة تسقط من العين لاعتيادها مثل الطيور بين رفرفة ورسو أو التقاء، وتمايل الأشجار المستمر حينا والتوقف حينا، وحركة تماوج البحر والغيوم، وسير الحيوانات ووقوفها متفرقة أو قطعان متجاورة. فيتجدد الإطار بوجود أبطال عدة، يجذبون المشاهد لكل زاوية بالإطار وفق حركتهم هم، بشكل حر لا أظنه يبالي بإغفال المخرج أو دورة الكاميرا -موضحة في إطار الرجل النائم أمام شاشة تعرض مشهد قبلة لحبيبان في فيلم- وفي كل حركة ينبع سؤال لديهم عن أصلها أو الاسقاط المراد.

❞ من ظلم الدهر 
‫ نلوذ بالشعر
 من ظلم الحبيب
 نلوذ بالشعر
من الظلم العلني
نلوذ بالشعر ❝

ريح وأوراق- عباس كيارستمي

 

ولأن مخرجنا الراحل كان يعتبر الشعر الملاذ الوحيد من الظلم بكافة أنواعه، فقد أولى قصائده بعضا من رسالته وطريقته بالسينما. ففي ديوان “ريح وأوراق ” استخدم تتابعات شعرية موجزة، بتشبيهات تنسج ما يشبه الإطار في ذهن القارئ، فتعبئ بصور متعددة “مثل القمر أو ندف الثلج أو حالة الشهور الشمسية”كأردبيهشت أو دي” أو الأشجار” تصنع بدورها زوايا رؤية مختلفة، تتعدد فيها الرؤى والنسب، والعلاقات كذلك، فتجعل الأمر له حيوية مكتسبة مماثلة للمرئي في جذب المتلقي وتفاعله معها.

ربما يبقى سؤالا يشغل بال بعض النقاد والعامة على سواء: لمَ كل هذا العناء؟ فالمتلقي لا يحب أن يرهق نفسه في تأويلات كثيرة، فيفضل أحيانا الرسالة بطريقة واضحة -ولا يعني بذلك التعامل بمباشرة ساذجة- وبعضهم يعلو بذاته فيحب الغموض الخفيف أو الاسقاط المفهوم القريب. فضلا عن ميل سوادهم منهم للمتعة والتسلية من أيامهم العصيبة

تحل تلك العقدة-بحسب قول المراجع السينمائي عمر أبو المجد -بمعرفة أن الكاتب متبع لمنهج الكاتب المسرحي الألماني “برتولد بريخت”، المؤمن بالمسرح التحريضي، والذي يرى بأن العمل ليس وجبة يلتهمها المتلقي أو يعزف عنها، بل أوركسترا يتناغم فيها الأبطال والمشاهدون. وكل في دوره: الممثل بحركاته وتفاعلاته المحسوبة، والمستقبل بانفعاله لتلك الحركات، ومن ثم ترجمتها بما يعيشه. كأنها ومضة خاطفة تنطلق من الجدار الفاصل بينه وبين خشبة المسرح تدفعه لمعاناة نفسية لذيذة بين الأسئلة والإجابة، سواء عن الأبطال أو ذاته، أو بحال أفضل تسحره لينطلق، فيعبر بما يملك.

مقالات من نفس القسم