مسافة لليلٍ عابر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد ممدوح

بعد أن مارَسَ عادته السرّية فى حمّام المبنى الفخم تهيّأ للانصراف من العمل. وعندما هبَطَ بالأسانسير إلى البيزمنت، كان عمّال الهاوس يغرقون الأرضية بماء تعلوه رغوة كثيفة لها رائحة حلوة، ويدعكونها بمسّاحات ذات عصا معدنية طويلة أحدثَ احتكاكها بالأرضية صوتاً اقشعرّ له بدنه.

وتحت أضواء البيزمنت القوية شعُر بارتياح غامض لأنه أغلقَ غطاء الباسكت المعدنىّ الملاصق لقاعدة الحمّام، على قبضة المناديل التى أفرغَ فيها حيواناته المنوية، لايترك طرف منديل أبداً خارح حافة الباسكت، ويتأكد أنه استقرّ تماماً فى القاع بجوار المناديل الأخرى.

بعد قليل سيفرغون الباسكت فى شنطة بلاستيكية كبيرة، ستصطدم رؤوس حيواناته المنوية ببعضها مذعورة وسَطَ حشد مناديل تحمل رائحة مؤخرات نتنة، وستدفع ذيول حيواناته لثَقب ِ الكيس والهرب إلى مكانٍ آخر.

مرّ للخارج من بين فراغ ذراعىّ “رامب” البيزمنت المُغلقين، ليباغته هواء ثلجىّ أدمع عينيه، فأحكَمَ غلق جاكت البدلة على وخزَات ثلجية بجسده، وعدّل شنطته التى انزاحتْ قليلاً عن كتفهِ الأيمن.

بعد اجتيازه البوّابة بحواجزها البلاستيكية الصفراء التى تنظّم تدفُّق السيارات عند مدخلها طوال اليوم، وقَفَ بانتظار عبور حارتىّ الطريق السريع إلى الجهة المقابلة.

ظهرتْ المبانى الزجاجية خلفه كسُفنٍ عملاقة طافية فوق محيط مظلم. نظَرَ غرباً باتجاه السيارات المندفعة بقوة، كان الطريق شبه مظلم، وانتظر حتى يخلو من السيارات ليعبر.

نادته بعفوية:

“إنت هاتعدّى الطريق؟”.

التَفَتَ؛ فاقتربتْ منه مذعورة ومرتبكة ووقفتْ بجواره: ترتدى بلوفر أخضر، جينز أزرق، وحذاء بنىّ اللون برقبة تصل حتى الركبتين، وشعرها ذيل حصان.

استأذنته:

“هاحط إيدى على شنطتك علشان أعدّى معاك، متأسفة”.

“ولايهمك، تحت أمرك”.

قالها مندهشاً. ووضعتْ يدها على الشنطة أسفل كتفه بقليل، وجانب جسدها العلوىّ الأيسر بالكاد لامَسَ حواف الشنطة.

لاتزال السيارات مندفعة من الغرب، قالت:

“الطريق ضلمة قوى، مش المفروض ينوّروه”.

” المفروض، ده إهمال”.

ووقف باص ضخم نزَلَ منه راكباً وصعَدَ آخر، فقالت فى غضب:

“ده قَفَل علينا الرؤية كده”.

فقلت مطمئناً:

“هايتحرّك دلوقتى”. وضحكت.

وعندما أصبح الطريق شبه خالٍ عبَرَ ثلاثة أشخاص إلى الحارة المقابلة، فقالت:

“ما فيه ناس بتعدّى أهو”.

” دول متهوّرين ومستغنيين عن حياتهم”.

قالها وهو يضيّق عينيه ليتبينَ السيارات جيداً، وخجلَ أن يُنزلَ شنطة الكتف ليخرج جراب النظّارة. أصبح الطريق خالياً فعبَرَا مُسرِعين إلى حافة الحارة المقابلة، ووقفا أسفل مسار المونوريل بين عمودين ضخمين.

بدّلتْ وقفتها بجواره، فأصبحتْ عن يساره بعيداً عن اتجاه السيارات:

“بخاف لما بأقف فى وشها، ممكن تنقل شنطتك لكتفك الشمال، لو سمحت”.

اندهشَ لطلبها وضحك عند تعثره فى تعليق شنطته على كتفهِ الأيسر بشكل صحيح؛ إلى أن ساعدته فى ضبطها.

وضعتْ يدها على الشنطة أسفل كتفه بقليل، وجانب جسدها العلوىّ الأيمن بالكاد لامَسَ حواف الشنطة.

“عبور الطريق ده خطر، المفروض فيه كوبرى مشاة هناك أهو منوّر”.

قالها وهو ينظر شرْقاً باتجاه السيارات المندفعة بقوة، كان الطريق شبه مظلم، وانتظر حتى يخلو من السيارات ليعبرا.

“دى محطة مونوريل، مش كوبرى مشاة”. صحّحتْ له المعلومة، فابتلع خجله وسكت.

السيارات تندفع بقوة ولا أحد يعبر.

” لو عنيك وجعتك من ضوء العربيات بص الناحية التانية، ريّحها شوية”.

وبصَّ فى وجهها الخمرىّ المُجهد، وسألها:

“حضرتك ساكنة هنا؟”.

” أيوه، بس لجوّه شوية عند البنك، هآخد أوبر يدخّلنى جوّه، باخبط كله يوم ساعة ونص فى الطريق”.

ابتعدتْ عنه وبكَتْ، عادت سريعاً ووضعتْ يدها على الشنطة أسفل كتفه بقليل. خلا الطريقُ من السيارات فعبرا إلى الجهة المقابلة عند البنزينة، شكرته لأنها حمّلته فوق طاقته.

مشى شرقاً بجوار سور صاج أزرق لموقع عمل بجوار البنزينة، تدفعه رغبة عارمة لينعطف عند نهاية السور ويُخرجه من مكمنه الدافئ.

مقالات من نفس القسم

ali reda zada
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قصة صورة