شهوة اليد اليسرى

أحمد عبد المنعم رمضان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

  لست سارقا بطبيعتى، بالعكس فأنا أكره اللصوص، ولكن بروز حافظة النقود الجلدية من جيبه الخلفى وهو يقف أمامى مباشرة فى العربة الضيقة كان مثيرا، كانت حافظته نحيلة وخاوية، تآكلت أطرافها بفعل الزمن وتساقط جلدها غير الطبيعى، إلا أن حدها الممتد خارج إطار الجيب الخلفى بدا كصيد سهل، مغرٍ، ومستفز لمدى سهولة اقتناصه، وددت فى تلك اللحظة أن أمد يدى وألتقطها بخفة من جيبه، تملكتنى تلك الرغبة وسيطرت على، إلى حد أننى شعرت بيدى اليسرى تتحرك بشكل لاإرادى نحو هدفها، تزحف نحو بنطاله ببطء وانتظام، دون قدرة منى على إيقافها، خرجتْ عن طوعى وكفّتْ عن الاستجابة لإشارات عقلى، غير أن يدى اليمنى، التى لازالت تطيعنى، استطاعت منعها، أمسكت بها قبيل اللحظة الحاسمة.

  ربما كانت الرغبة فى كسر الروتين، فعل شئ مختلف، غير اعتيادى، الخروج عن نمط الحياة الرتيب وتكرارها المستمر، هى دوافعى اللاواعية لهذا الشعور، وخصوصا أن اليوم ثلاثاء طويل وحار، لا مساحة فيه لمزحة صافية أو نسمة عابرة، وأنا رجل اعتدت الالتزام بالقواعد والروتين، اعتدت الانتظام فى الجداول والمواعيد، لا أسرق ولا أكذب، لا أشرب الخمر ولا أقبّل إلا زوجتى، أدفع الضرائب وأوتى الزكاة، ولا أسب إلا علنا وعلى رؤوس الأشهاد، وهو ما لا أعتبره خطيئة على أية حال.

  دب الملل إلى نفسى، وعادت يدى اليسرى إلى الامتداد نحو صيدها، ولكن ماذا إن شعر بى هذا الرجل أو لمحنى أى من المحيطين؟ حينها سيتجمع كل الركاب والمارة وعابرى السبيل لينهالوا علىّ ضربا، كنت مكانهم ذات مرة وأعرف مدى النشوة والحماسة المصاحبتين لتلك اللحظة. يومها لمحت مجموعة من الرجال يتكدسون فى دائرة ويكومون شابا فى منتصفها، ينهالون عليه باللكمات والضربات دون هوادة. قال لى مارُّ خرج لتوه من قلب الدائرة أن ذلك الشاب لص محترف، سألته عما سرق، أجاب أنه لا يعرف، فهو لم يكن موجودا عندما وقعت الحادثة. لم أتأكد ولم أشاهد لادعاء ذلك العابر دليلا، ولكنى قررت أن أصدقه، كنت غاضبا، والشمس كانت أكثر قسوة من الآن، فأفسحت لنفسى مكانا فى دائرتهم الآخذة فى الاتساع، وشاركت فى لكم الرجل وتسديد الركلات لجسده الضئيل وبطنه العارى. بعد أول ضربة شعرت أننى أريد أن أوجه إليه المزيد من الركلات، كان وقع اصطدام ساقى المندفعة بجسده المهتز يمدنى بطاقة أكبر للاستمرار، تلت الركلة الأخرى دون أن أسمع استغاثاته وتأوهاته المتتالية، لم تأخذنى به أى شفقة، حتى ظن الواقفون أن ثمة معرفة سابقة تجمعنا، انكفأت فوق جسده المسجى بيننا وسددت مجموعة من اللكمات المتتالية إلى وجهه، بقبضتى اليمنى ثم اليسرى، وكأننى ملاكم يتدرب أمام حاوية قطن، تهشم وجه الشاب تماما، اختفت ملامحه خلف الكدمات والانتفاخات المتزايدة والدماء المتساقطة من كل بقعة فى جسده، بدت دماؤه أكثر دكنة ولزوجة مما توقعت، لطخت يدى والتصقت بجلدها، ولكنى اندفعت لمزيد من اللكمات حتى أن الرفاق الذين كانوا يضربونه إلى جوارى منذ حين، تحولوا إلى منعى عنه، حاولوا إيقافى إلا أنهم لم ينجحوا إلا بإزاحة جسدى بعيدا عنه.

  بدأ بعضهم فى تهدئتى وسألنى من بدا وكأنه قائدهم، أو قائدنا، “هل تعرفه من قبل؟”، هززت رأسى بأن لا، فقال لى ” إذن لابد أنك شاهدته وهو يسرق.” سكتُّ. لم نعرف أبدا ماذا سرق الشاب ومِن مَن، تركناه شبة جثة متكورة على الرصيف ورحلنا.

  لم أرد أن أسرق حافظة الرجل، ولا طمعت فيما تحويه، ولكن ما المانع؟ هه؟ مجرد دعابة تخفف من وطأة اليوم، أحكيها لزوجتى على العشاء أو لرفقة المقهى، مزحة بسيطة لن تكلفه الكثير. ربما لم يكن الشاب الذى أوسعناه ضربا سارقا أيضا، ربما تملكت منه الرغبة نفسها التى تتملكنى الآن، الأمر أشبه برؤية نهدين عاريين نافرين أمام نظرك وفى متناول يديك، حتى تسرى فى ذراعيك الرغبة لقطفهما، شكل من أشكال الشهوة، وإن كان غير معتاد.

  طالما شعرت أن العديد من الأيدى تمتد لتسرقنى، ولكنى فشلت فى الإمساك بأى منها. فى أثناء وقوفى فى عربة المترو أو فى طابور السجل المدنى أو فى سوق الخضروات، أشعر بيد تتسلل إلى جيبى، تعبث به، فأنتفض من مكانى، وألتفت خلفى فى غضب وذعر مادّا يدى لتمسك بالسارق، إلا أننى لا أجد أحدا خلفى، أمسك بالفراغ، وأطبق يدى على لا شئ. ينظر إلىّ المجاورون بتعجب وارتياب، أشعر بالخجل، تحمرّ وجنتاى كطفل صغير، أترك مكانى وأغادر فى صمت. الغريب أننى فى كل مرة أكتشف عند وصولى إلى المنزل أننى فقدت بعض النقود أو الكثير منها.

  ظلت يدى اليمنى قابضة على ساعدى الأيسر مانعة إياه من التقدم نحو حافظة الرجل والتهامها، بقيت على ذلك الوضع المريب طوال الطريق، كابتا رغبتى ومانعا شهوتى المفاجئة حتى وصلت إلى محطتى، حينها أزحت الرجل عن طريقى بغلظة، كاد يقع أثر اصطدامنا، لم أعتذر، ألقيتُ جسدى خارج العربة وتقدمت فى خطى سريعة.

  عندما دخلت إلى غرفة النوم، وفى أثناء خلعى لملابسى، هممت بالحكى لزوجتى عما حدث فى العربة، وتلك الحالة الغريبة التى أصابتنى، ولكنى لاحظت وأنا أتحسس جيوبى أن شيئا ما بات ناقصا، جيبى الخلفى أخف من المعتاد، استغل أحدهم انشغالى بالتفكير ومد يده إلى جيبى وسرق محفظتى دون أن أشعر. انتابتنى نوبة من الغضب وظللت أسب وأصرخ، إلا أننى تحولت فجأة إلى الضحك، ضحكت بصوت عال، قهقهت، وظلت زوجتى تنظر إلىّ فى صمت بعيون مشدوهة وكأننى مختل أو مجنون.   

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون