أسامة جاد
في مقال للناقد الموسيقي وجيه ندى بعنوان “مرسي جميل عزيز قرصان الأغاني” يورد وقائع معركة طريفة وقعت أحداثها في العام 1961.
ففي 28 أكتوبر من ذلك العام، نشر الشاعر الغنائي السيناريست جليل البنداري مقالا حادا يتهم فيه الشاعر الغنائي الكبير مرسي جميل عزيز (شاعر الألف أغنية، وفكهاني الأغنية كما اشتهر) بالسرقة والقرصنة الفنية. وحدد البنداري 12 أغنية اتهم مرسي جميل عزيز بسرقة كلماتها، وكان ذلك اتهاما غير مسبوق.
مقال جليل البنداري الذي نشر في جريدة أخبار اليوم حمل عنوان: “من هو قرصان الأغاني الذي سرق أجمل كلمات الموسم ؟” وفيه يوجه إتهاما لشاعرنا بأنه سرق مطلع الأغنية الوطنيّة “أنا شفت جمال والنبّي يمّه أنا شفت جمال” من كلمات أغنية للشاعر أحمد شفيق كامل: “قولوا للأجيال أنا شفت جمال أنا عشت معاه في زمان واحد ..” وهو الاتهام الذي أيده الشاعر الغنائي مأمون الشناوي ودعمه.
كان النقد اللاذع، الذي يصل إلى حد التجريح أحيانا، معروفا عن جليل البنداري، الذي كتب سيناريو فيلم “شفيقة القبطية” للمخرج الكبير حسن الإمام، وهو الفيلم الذي اتهمه النقاد بتحريف السيرة الحقيقية لأشهر راقصات النصف الأخير من القرن التاسع عشر في مصر، لأجل الحبكة الدرامية.
غير أن مرسي جميل عزيز كتب ردا عنيفا نشرته الأخبار بتاريخ 11 نوفمبر 1961 بعنوان “أغاني الشعراء وأغاني صبيان العوالم!” شن فيه هجوما على الكاتب جليل البنداري وعلى مأمون الشناوي أيضا، وقال عنه: “أتحدّاه أن يقف أمام لجنة من النقاد والأدباء تمتحنه في أبسط قواعد الكتابة الفنية!” ولم ينسَ مرسي جميل عزيز بدوره أن يوجه اتهاما إلى مأمون الشناوي بأنه سرق أغنيتين من أغانيه لليلى مراد من شاعر آخر، معلقا بقوله: “واخذ بالك يا مأمون”
ولكن مأمون الشناوي يكتب ردّا على مرسي جميل عزيز بتاريخ 18 نوفمبر من العام نفسه بعنوان “إشاعة كاذبة في جوّ الأغنية .. منطق البطيخ ومنطق الفن والأدب!” حاول فيها تأكيد اتهام السرقة، كما حاول أن يغمز تجارة الفاكهة التي ارتبطت بها أسرة الشاعر قائلًا: “وتجارة البطيخ التي يزاولها مرسي جميل، والتي يجني من ورائها دخلا ضخما، هذه التجارة عمل شريف لايحط من قدره كمؤلّف أو مواطن، ولكن لاينبغي أن نستخدم منطق البطيخ في النقد الأدبي أو النقاش الفني، وإلا أصبح المجال الأدبي شادرًا تختلط فيه نداءات الباعة بطلبات الزبائن، ويختلط فيه الحلو بالمائع، والطازج بالحامض، والسليم بالمكسور، والطيّب بالأقرع!”
وفي نفس العدد 18 نوفمبر واليوم الذي يليه، يكتب جليل البنداري مقالا عنيفا من جزءين بعنوان “إنت وبس اللي حرامي!” يتهم فيه مرسي جميل عزيز بأنه سرق 12 أغنية من أشهر أغانيه، ومن بينها “يمّه القمر ع الباب”، التي غنتها فايزة أحمد. قال البنداري إنها مأخوذة من أغنية للست توحيدة، صدرت عام 1922 وتقول كلماتها: “يابا القمر ع الباب نور قناديله / أردّ يابا الباب ولا أنادي له”. وأغنية “حبك نار” التي أدّاها عبدالحليم حافظ، قال البنداري إنها مأخوذة من أغنية للمنولوجست سميرة عبدة ونظم عبدالفتاح شلبي، ومطلعها هو: “حبك نار / قلبك نار / طبعك نار / خلّيت عيشتي مرار في مرار”. ثم “بتلوموني ليه” لعبدالحليم حافظ، وذكر أنها مأخوذة من مطلع أغنية لرجاء عبده يقول: “يتلوموني ليه / روحوا لوموه هوّه”. وأغنية “شفت بعيني محدّش قال لي” لمحرّم فؤاد، وقال إنها مأخوذة من أغنية: “شفت بعيني وقلبي قال لي”.
وهكذا في بقية الأغاني التي زعم أن مرسي جميل عزيز سرق مطالعها وأفكارها من الآخرين، كان يورد المطالع والكلمات المتشابهة، ويحاول توثيق ذلك بإثبات تواريخ الإذاعة لكل الأغاني والمقارنة بينها.
يومها ما كان من مرسي جميل عزيز سوى أن أرسل إلى جريدة “أخبار اليوم” شيكًا بمبلغ 500 جنيه، مقابل أن تعقد الجريدة محاكمة علنية تستدعي لها مجموعة من كبار النقاد والأدباء للتحقيق والتحري عن صحة اتهامات جليل البنداري، وهو الأمر الذي تم بالفعل، وانعقدت تلك المحاكمة في عدد يوم 9 ديسمبر 1961 من الجريدة، وكان من أعضاء هيئة المحكمة الأدبية كل من د. علي الراعي ود. لويس عوض ود. عبدالقادر القط ود. محمد مندور والشاعر صلاح عبدالصبور.
وبعد التحقيق وفحص الأدلة والمستندات أصدرت المحكمة حكمها بتبرئة مرسي جميل عزيز من تهمة السرقة في عشر قصائد على الأقل، وجاء منطوق الحكم وحيثياته على النحو التالي:
– أولا : يميل الرأي العام للنقاد إلى تبرئة مرسي جميل عزيز من تهمة السرقة في عشر قصائد على الأقل، وهناك رأي آخر يميل إلى اتهامه بالاقتباس في قصيدتين هما “يا ابو رمش بيجرح” و”يمّه القمر ع الباب”.
– ثانيًا : يُجمِع النقاد تقريبًا على أن موهبة مرسي جميل عزيز لاشك فيها، كما أن هناك شبه إجماع بين من يسلّمون منهم بأن مرسي جميل عزيز قد استعار شيئا من الآخرين على أن مرسي تفوق على الذين أخذ منهم تفوقا كبيرًا وملحوظًا.
– ثالثًا : قاموس الأغاني عندنا محدود، والكلّ يأخذ من التراث الشعبي، وهذا سبب كبير من أسباب التشابه والالتقاء بين المؤلّفين.
توم الخزين يا توم
والحقيقة إن هذه المعركة، وتلك المحاكمة كانت شاهدا مهما على واحدة من أشهر القضايا المطروحة على الأدب في مختلف العصور، وأعني قضية السرقة الأدبية، التي كثيرا ما ثارت في حوادث متنوعة ومختلفة، ربما كانت أطرفها معركة الثلاثي مرسي جميل عزيز، وجليل البنداري، ومأمون الشناوي.
ففي لقاء إذاعي للشاعر الكبير مرسي جميل عزيز مع عدد من طلاب الجامعة في الأسكندرية في يناير 1974 في برنامج “بين جيلين” الذي قدمه الإذاعي الكبير خميس الجيار، أجاب عزيز على سؤال حول استفادته من نداءات باعة الفاكهة المغناة بقوله إنه استفاد منها بالطبع، لأنه بشر، ومثل بنداء لفاكهة المشمش يقول: “لما دخلت الجنينة عيط الياسمين، والسيسبان اختشى، والورد قال ده مين، قالت عنيبة افتحي له ده الغريب مسكين” وقال إن تلك النداءات وغيرها من الفلكلور الشعبي أثرت فيه وفي غيره من شعراء الأغنية، بل وفي شعراء اللغة العربية الرسمية عبر تاريخها الممتد. وقال عزيز إن أغنية “توب الفرح يا توب” للمطربة أحلام، مأخوذة من ريتم شعبي لنداء “توم الخزين يا توم”.
والشاهد أن الفلكلور الشعبي منهل كبير يمنح نفسه لكل شاعر لينسج منه ويغزل عليه، وما تشابه بعض مطالع الأغنيات التي اتهم مرسي جميل عزيز بسرقتها سوى اشتراك أكثر من مؤلف في النهل من ينبوع واحد هو التراث الشعبي، وإلا كانت أغنية “يا عزيز عيني” التي قدمها خالد الذكر سيد درويش مسروقة من صرخة أم على ابنها الذي أخذته الجهادية، فصرخت: يا عزيز عيني”، ومثلها “يا بلح زغلول” وغيرها.
بل ورد في الأثر بيت الأعشى الشهير:
وكأس شربت على لذة/ وأخرى تداويت منها بها
وهو المعنى الذي جاء في بيت أبي نواس الأشهر:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء/ وداوني بالتي كانت هي الداء
وهو البيت الذي قال عنه ابن قتيبة “إن أبا نواس زاد فيه معنى اجتمع له به الحسن في صدره وعجزه. فللأعشى فضل السبق عليه، ولأبي نواس فضل الزيادة عليه.”
بل لقد ورد عن الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور في هذا المعنى قوله “إن الشاعر العظيم سارق عظيم”، وإلا أين نضع سطر عبد المعطي حجازي “هذا الزحام لا أحد” في مواجهة بيت المتنبي الأشهر: “وأفتح عيني حين أفتحها/ على كثير ولكن لا أرى أحدا”؟
حداثة شعرية:
والحق إن صاحب الأغنية الوحيدة التي سجلتها فيروز للإذاعة المصرية “سوف أحيا” كان أحد رواد الحداثة الشعرية في مفهومها المركزي، الذي انتقل من المحاكاة بالفهم الأرسطي إلى الموقفية الإنسانية والدرامية الكاملة، متجاوزا أشكال الدور والطقطوقة والموشح وحتى المونولوج إلى الموقف الدرامي الأقرب للسرديات القصصية. كيف لا، وقد كتب شاعرنا الكبير القصة القصيرة والسيناريو، وحفظ القرآن الكريم والمعلقات السبع في طفولته المبكرة، وقرأ الأغاني ونفح الطيب وغيرها من أمهات الشعر العربي القديم. ألم يكن ذلك ما أهله لكتابة أغنيات ما يزيد عن 22 فيلما كاملة، منها “حكاية حب”، “أنا وبناتي”، “المرأة المجهولة”، “أحبك يا حسن”، “أدهم الشرقاوي”، “الزوجة رقم 13″، وغيرها.
ومع كون بداياته الشعرية كانت باللغة العربية الرسمية إلا أن التفاته إلى اللغة العامية وطاقتها الإيحائية، على حد قوله، كان مدخله الأهم في تقديم آثار شعرية خالدة تبنت المفهوم الفرداني الذي نجا من أسر “المحاكاة” الأرسطية في سؤال “الماهية” إلى الحداثة الجديدة وأسئلة “الموقفية السببية”، وهو أمر قد تلزمه مساحات أخرى لتحليله.
بلاغة العامية:
في كتابه “خطوات فى النقد” يكتب يحيى حقى تحت عنوان “الأغنية جديرة بالدراسة الأدبية”: من الظلم ألا يُدرس مرسى جميل عزيز كشاعر مرهف الحس، بارع الإشارات، حلو العبارة ويعنى أشد العناية بوحدة الأغنية وضرورة احتوائها على معنى جديد. إنه يعبر عن الحب أدق تعبير، وعن الجنس بأجمل الكتابات.
وكان حقي يشير إلى أغنية “يمة القمر ع الباب” التي تعرضت لهجوم كبير وقت إذاعتها بسبب اتهامها بأن “كلماتها فيها خطورة على البنات الصغيرات والمراهقات لما تحمله من معانٍ تفتح عيون البنات وربما تخدش الحياء العام بما تحمله من جرأة فى التعبير.” الأمر الذي نافحه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد ودحضه بقوله: عندما أذيعت أغنية مرسى جميل عزيز الشهيرة “يمه القمر على الباب” حققت نجاحًا وانتشارًا كبيرين، ولكنها تعرضت للهجوم من البعض بدعوى أن فيها جرأة. ولكن الحقيقة أن فيها من البلاغة أضعاف المئات من قصائد الشعر العربى. وإذا لم تفتح الأبواب لهذا الصوت الجديد “فايزة أحمد” بتلك الكلمات فبأى كلمات ستفتح!
أخيرا لعل إشارة إلى سطرين من أغنيته “يا خلي القلب” في مقابل مقطع لشاعر الحداثة الأهم صلاح عبد الصبور كافية لمقارنة البعد التصويري ومساحة المجاز الرومانتيكي الذي استخدم فيه الاثنان خلاصة نتاج الرومانسية العربية متمثلة في مدرستي أبولو والمهجر.
يقول عزيز:
“لما نوصل نجمة مالهاش أي جار
ولا نسكن لؤلؤة في أبعد بحار”
ويقول عبد الصبور:
“لو أننا كنا بشطّ البحر موجتينْ
صُفِّيتا من الرمال والمحارْ
تُوّجتا سبيكةً من النهار والزبدْ
أَسلمتا العِنانَ للتيّارْ
لو أننا كنا نجيْمتين جارتينْ
من شرفةٍ واحدةٍ مطلعُنا
في غيمةٍ واحدةٍ مضجعُنا
نضيء للعشّاق وحدهم وللمسافرينْ
وحين يأفلُ الزمانُ يا حبيبتي
يدركُنا الأفولْ
وينطفي غرامُنا الطويل بانطفائنا
يبعثنا الإلهُ في مسارب الجِنان دُرّتينْ
بين حصىً كثيرْ”
……………..
عن “مجلة الهلال”