في أثر الكتابة والوحدة

نورا ناجي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

  أحمد جاد الكريم

يحكي الكاتب سيد الوكيل أنه ذات مرة، وهو خارج من ندوة في نادي القصة بالقاهرة، وبينما يستقل أتوبيسا ليعود إلى بيته، شاهد مشاجرة بين الكاتب عبد العال الحمامصي، وأحد الركاب، أغلظ ذلك الرجل للحمامصي، ووصل به الأمر إلى توجيه الإهانة له، يقول الوكيل بحسرة إن الحمامصي كان منذ قليل في الندوة، يتحدث في الأدب، يناقش هذا، ويرد على ذلك، يحظى باحترام الجميع، ثم تحول الشخص نفسه المعدود من النخبة إلى واحد عادي من آحاد الناس، لا يُعرف قدره، ولا تُحفظ كرامته، يقول: إنه بعد هذه الحادثة فكر في أن الأدباء رغم أنهم يكتبون عن أناس آخرين، ويفكرون في آلامهم، وربما يتألمون من أجلهم، يحولون حكاياتهم ومآسيهم إلى قصص وروايات، لا يفكر أحدٌ في حيوات أولئك الكتاب، ولا تُعرف قيمتهم إلا في الدوائر الأدبية الضيقة، فيترحم زملاؤهم على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي عندما يموتون، وينتهي الأمر عند هذا الحد، فكر الوكيل بعد ذلك في الكتابة عن المبدعين، جاعلا منهم شخصيات تتحرك وتعيش داخل الورق، فكتب روايته “فوق الحياة قليلا” وعندما أوجعته مآسي الراحلين من أصدقاء الأدب كتب عن الموتى في رواية أخرى بعنوان “الحالة دايت”

خارج الوطن/داخل الذات

ومن الموت رجوعا إلى الألم والمرض إلى تلك الذوات المعذبة بالوحدة أو المستعذبة لها، الراجية من خلالها الانزواء داخل فقاعة سميكة، تحمي الشخص المعتزل من تفاهات أشباه البشر، وسطوة أنانيتهم، وأياديهم التي لا تمتد إلا بالصفع، وقلوبهم التي لا تحمل إلا الأحقاد والضغائن يأتي كتاب الكاتبات والوحدة للروائية نورا ناجي الصادر عن دار الشروق عام 2020م، لينقل بعضًا من أوجاع أولئك الكتاب الذين عكف سيد الوكيل على سرد سيرة حيواتهم وميتاتهم في روايتين، حصرت الكاتبة حديثها على الكاتبات فقط، ليسهل لها التماهي بين شخصها هي وشخوصهن، فبدأت كتابها بما يمثل البوح والاعتراف والتطهر من أجل التخلص من قبضة الأحزان الخانقة، في بلدة “إنتشون” بكوريا الجنوبية، خارج الوطن، حيث الغربة تضخم الأحزان، تتضاءل نفس الكاتبة أمام البنايات شاهقة الارتفاع، هي التي لم تعتد إلا على العمارات والبيوت متوسطة الارتفاع في مدينة طنطا حيث كانت تعيش.

تتحرك الساردة/الكاتبة جغرافياً من خارج الوطن إلى داخله، وشعوريا من داخل نفسها هي إلى دواخل نفسيات أخرى لكاتبات يُشبهنها، وتتوحد معهن، وكأنها في حكيها عنهن، تحكي عن نفسها، وفي بوحها عن نفسها، تُعطي لهن فرصة الحديث، فيما لو كن على قيد الحياة، وسمحت لهن الحياة لكتبن عن تلك المآسي التي تعرضن لها.

“الكاتبات والوحدة” كتاب ليس عن الكِتابة فقط، ولا عن العزلة، إنه عن الحياة بكل تفاصيلها الموجعة، ربما تغيب السعادة هنا عن حيوات هؤلاء الكاتبات اللاتي حكت نورا ناجي قدرا يسيرا من سيرتهن، رابطة ببراعة بين حياتها هي وحياتهن.

خارج التصنيف

 الكتاب من الكتب الـ  non fictionالخارجة عن التصنيف أو هي التي تجمع بين عدة فنون أدبية، فالسيرة الذاتية، والغيرية أيضا حاضرة، أسلوب الكاتبة الروائي، وذلك النفس القصصي حاضر بقوة، حتى خُيل إليَّ وأنا أقرأ أني أمام رواية ترويها الكاتبة بنفسها تتكون شخصياتها من أبطال حقيقيين.

هنا تحضر كاتبات مصريات مثل عنايات الزيات ومأساتها المروية في كتاب “في أثر عنايات الزيات” (الكتب خان 2019م) للشاعرة والكاتبة إيمان مرسال، وتطل هنا علامة استفهام كبيرة، ما الذي يربط بين الكاتبة وعنايات الزيات وإيمان؟ إن المأساة نفسها تتكرر، الإنسان الذي عانى قديمًا، وصوَّرته الأسطورة، يفعل الشيء نفسه مرات، ثم يعود ليكرره مرات أُخر، هذه هي الإجابة، الدوائر الثلاثة؛ كاتبة انتحرت في الستينيات، وشاعرة تتبع أثرها، ونورا ناجي تحصد المرارة نفسه التي عانت منها الكاتبتان، تقول الساردة: “شعرتُ بأن عنايات قريبة جدًا وكأنها تحت جلدي، ربما تجسد لي طيفها في هذا الصباح البارد البعيد في إنتشون وأنا جالسة على مقعد الحديقة الخشبي بين ناطحات السحاب، لتدفعني إلى الكتابة، لتنقذ حياتي، أو ربما كانتْ تحتاج لفرصة أخرى، علها تشعر بالانتصار، بالظهور، والتحقق، ولو في حياتها الأخرى”

خذلان الكتابة

أنهتْ عنايات الزيات حياتها بنفسها، لم تتحقق في حياتها، ولم تنجح في بناء عائلة صغيرة، تتكئ على جدرانها، كتبت سيرتها في رواية، وظنت أن الملاذ قد يأتي بالتخفف قليلا مما تعانيه، فوضعته على الورق، لكن ما كتبته رُفض ولم يُنشر، فصار الدواء سما، يقتل لا يشفي، فاختارت الرحيل مفضلة أن تبقى سيرتها بعد موتها، رافضة أن تنزوي بين دفاتر النسيان.

 إن خذلان الكتابة الذي عانت منه الزيات، وكذلك الكاتبة، وربما كل كاتب لم يسلم أيضا منه، كان محور حياة الكاتبة الأمريكية فاليري سولاناس، لينتهي بها الحال من السجن إلى مرض الالتهاب الرئوي إلى الموت، منتصرة على هزائم الحياة، ثائرة على المجتمع الذكوري الذي عانت منه.

 المأساة تتكرر مع كاتبة عربية شبه منسية هي “مي زيادة” تُحيَا سيرتها مرة أخرى، لعنة الجمال والموهبة كما تقول الكاتبة التي قد تفضي في آخر العمر إلى الإهمال وربما إلى الجنون.

هناك انتصار آخر على الألم الذي سكن جسد الكاتبة رضوى عاشور قبل وفاتها بورم في رأسها “كانت تخفيه بتصفيفة شعر خاصة” لكن المرض كان أثقل هذه المرة من رضوى فماتت في العام 2014م.

ثمار العزلة

حكت نورا ناجي سيرة أخريات كفرجينيا وولف التي غرقتْ في نهر أوس الإنجليزي، لم تتوقف عن الحكي، كن يتحدثن على لسانها، تمزج مرارتها بأحزانهن، وشجنها بأشجانهن، ولوعة حاضرها بماضيهن، وكأن قدرَ الكُتَّاب- والنساء منهن على وجه الخصوص- أن يعانين من وخزات الحياة وأشواكها، فيلجأن إما للوحدة المُفضية أحيانا للانتحار وإنهاء الحياة كما فعلت الشاعرة والمناضلة اليسارية أروى صالح قافزة من شرفة شقتها في نهاية التسعينيات أو تواصل الحياة بعنادٍ مثل الكاتبة نوال السعداوي لكن خارج الوطن منفية مطاردة من حاكمية البشر على أفكار البشر.

لا تُعِد نورا ناجي الوحدة شيئا سيئا، ليست كل ثمارها مُرة – كما نظن-  تفتح الكاتبة صندوق أسرارها، وتبوح بما في قلبها من أسرارٍ، في لحظة كَشْف، واكتشاف للنفس عبر التداوي بالكتابة والتدوين، بدأتْ كتابَها بمشهد جلوسها وحيدة في المدينة الغربية، وأنهته بجلوس آخر في قلب الوطن، في غرفتها، هي ولوحة المفاتيح، في عزلة تامة، لكنها تحمل هذه المرة حرية الخلاص والانعتاق الذي حققته الكتابة لها، تقول في مقطع من أعذب ما كتبتْ:

“الوحدة شُرفة روحي، هي ما يظهر خارجي رغم امتلائي بالحياة من الداخل، والوحدة في نفس الوقت ونسٌ، ليست بالضرورة جافة ولا فارغة، أحيانا تكون الوحدة مليئة بالحياة والموسيقى والكتابة والقراءة وأكواب الشاي الساخنة التي أشربها وحدي فأشعر أنني محاطة بالدفء”.

 

مقالات من نفس القسم