د.خالد عاشور
ما زلنا بصدد عرض لجدل نقاد نجيب محفوظ حول إشكالية مراحل الإبداع الروائي عند الرجل ، وقد عرضنا في الحلقة الأولى من هذه الدراسة للمرحلة الأولى التي اصطُلح على تسميتها “المرحلة التاريخية” .
وبالنسبة للمرحلة الثانية من مراحل الإبداع الروائي عند نجيب محفوظ (المرحلة الواقعية) ينشأ خلاف أكبر درجة من خلاف المرحلة الأولى بين نقاده (عرضنا له في الحلقة الأولى من هذه الدراسة).
ويبدأ الخلاف من عنوان المرحلة، فنجد ـ تقريباً ـ عنواناً لكل ناقد، بل قد تتعدد العناوين عند الناقد الواحد. ومن هذه العناوين على سبيل المثال: “المرحلة الاجتماعية”([1])، “مرحلة الواقعية النقدية”([2])، “مرحلة الاتجاه الواقعى الطبيعى”([3])، “المرحلة الواقعية”([4])، “مرحلة الرواية الاجتماعية المعاصرة”([5])، “المرحلة الاجتماعية الواقعية”([6])،”الواقعية التسجيلية”([7]). وهى كما نرى عناوين متقاربة فى دلالتها على سمات المرحلة الفنية رغم تباينها الظاهرى. فهى مرحلة جمعت أعمالها الفنية بين كل هذه العناوين من اجتماعية إلى واقعية إلى طبيعية إلى معاصرة، مما شكل السمات الفنية لتلك المرحلة، والتى لخصها النقاد فى الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة المتعلقة بكل شىء من الشخصيات وأوصافهم الداخلية والخارجية، إلى المكان، إلى الزمان، إلى غير ذلك. كذلك الاهتمام بتصوير الإنسان فى المجتمع المصرى قبل ثورة يوليو خاصة من الطبقة المتوسطة، والكشف عن عناصر مأساته، وما يستتبعه ذلك من فضح للمجتمع القديم. ولذا فإن روايات هذه المرحلة كما لاحظ بعض النقاد تتشابه شخصياتها، وتتكرر تجاربها ومصائرها، لأنها روايات تدور فى بيئة واحدة، وفى أزمنة متقاربة أو متكررة، وتحكمها رؤية اجتماعية واحدة لطبقات المجتمع([8]).
أما حدود المرحلة المتعارف عليها، والأعمال الروائية المكونة لها، والتى سبقت الإشارة إليها(“القاهرة الجديدة” عام 1945،”خان الخليلى” 1946، “زقاق المدق” 1947، “السراب” 1948، “بداية ونهاية” 1949، “بين القصرين” 1956، “قصر الشوق” 1957، “السكرية” 1957) فلدينا أكثر من صورة من صور الخروج عليها ومن ذلك:
- ما أثبته طه وادى فى كتابه “صورة المرأة” من تقسيم يفصل فيه الروايات الأربع الأولى ويعطيها عنوان “الواقعية النقدية”، ويضع الثلاثية وحدها فى مرحلة مستقلة بعنوان “الواقعية التسجيلية”. مع ملاحظة أن الناقد عاد ونقض هذا الرأى فى كتابه الأخير “أمير الرواية العربية” حيث ساير فيه التصنيف الشائع لهذه المرحلة بحدودها المعروفة، وأعطاها عنوان “الواقعية النقدية”.
- ما اتفق فيه كل من محمد حسن عبدالله ونبيل راغب من خروج رواية “السراب” عن الخط الفنى لروايات المرحلة. فيراها الأول تجربة فريدة فى منحاها، خارجة عن خط الواقعية، قاطعة لتسلسل رواياتها من القاهرة الجديدة حتى الثلاثية فى منحاه الاجتماعى لا الواقعى([9]). أما نبيل راغب فيذهب إلى أبعد من هذا ويرى الرواية تمثل مرحلة مستقلة بذاتها عنوانها “المرحلة النفسية المبتورة” استناداً إلى أنها أول رواية يخرج فيها الكاتب عن نطاق الرواية الاجتماعية إلى ميدان الرواية السيكلوجية([10]). ولأنها تجربة غير ملحوقة فهى تمثل فى نظره مرحلة مبتورة.
- ما ذهبت إليه فاطمة موسى من أن رواية “السراب” أسبق من رواية “زقاق المدق” من حيث تاريخ الكتابة، وإن كانت الثانية أسبق من حيث تاريخ النشر، وأن نجاح “زقاق المدق” هو الذى أغرى الكاتب بأن ينشر “السراب” 1948بعدما كان متردداً فى نشرها([11]). وهو رأى قد يكون صحيحاً لشذوذ الرواية عن الخط الفنى لإبداع المرحلة.
ومع ملاحظة عدم إثبات الناقدة دليلها علي هذا الرأى، ولا إشارتها إلى مصدرها فيه؛ فنحن لا نمتلك شيئاً مؤكداً عن تواريخ كتابة روايات نجيب محفوظ.
وما أورده غالى شكرى فى ذيل كتابه “المنتمى” من ثبْت بالتواريخ التى ألّف فيها الكاتب أعماله الروائية، وقال إنه اعتمد عليه شخصياً فى معرفتها؛ تبقى محل نظر، إذ لو أخذنا بها لأصبحت رواية “خان الخليلى” مثلاً مكتوبة قبل بداية أحداثها الحقيقية التى تعود إلى سبتمبر سنة 1941 كما ورد بالرواية على لسان الراوى، لأن الناقد يثبت تاريخ كتابتها من سبتمبر 1940 حتى أبريل 1941، ولأصبحت رواية “زقاق المدق” كذلك؛ إذ يدور زمنها الروائى بعد الحرب العالمية الثانية بخمس سنوات، ويعود تاريخ كتابتها كما أثبته غالى شكرى من سبتمبر 1941حتى أبريل 1942، أى أنها كتبت قبل أن يبدأ زمنها الحقيقى([12]).
وهو أمر ينسحب على بقية الروايات التى يثبت الناقد لنجيب محفوظ فى كتابتها تاريخاً مطرداً من سبتمبر إلى أبريل من كل عام على مدار السنوات من 1935 حتى 1952، أخرج فيها أعماله الروائية من عبث الأقدار حتى الثلاثية بواقع رواية واحدة كل عام. ولا شك أن عملية الإبداع لا تسير هكذا على نحو مستوٍ وآلى بحيث يتمكن نجيب محفوظ من أن يمسك بقلمه فى سبتمبر ليتركه فى أبريل من العام الذى يليه تاركاً لنا كل مرة رواية.
- ما ذكره على شلش وسبقت الإشارة إليه من أن رواية “خان الخليلى” أسبق من رواية “القاهرة الجديدة” فى النشر، وذلك عكس ما هو مشهور ومتواتر من أن “القاهرة الجديدة” سبقت “خان الخليلى” وتصدرت مجموعة رواياته الواقعية حتى الثلاثية. حيث ظهرت “خان الخليلى” فى النصف الأخير من عام 1945، وكان ظهورها منسجماً مع نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد عالجت وقْعها على إحدى الأسر القاهرية ضمن ما عالجت من مشكلات([13]).
أما رواية “القاهرة الجديدة” فقد ظهرت فى أواخر النصف الأول من عام 1946أى بعد أقل من عام على ظهور سابقتها.
ويستدل شلش على رأيه هذا بدليل سبقت الإشارة إليه ويبدو مقبولاً إلى حد كبير، وهو تواريخ المتابعات النقدية لتلك الروايات، إذ برصد المقالات والتنويهات الصحفية المواكبة للروايتين يتبين أن تاريخ نشرهما يدور فى الفترة التى ذكرها الناقد. ولو كانت “القاهرة الجديدة” أسبق كما هو شائع لما كان من المعقول أن تسبقها تنويهات ومتابعات صحفية ونقدية لـ”خان الخليلى” وهى لم تصدر بعد(·).
وربما حازت “القاهرة الجديدة” هذه المكانة فى ترتيب أعمال الكاتب لشهرتها دون “خان الخليلى”، وهو ما يؤيده شلش حيث يرى أن رواية “القاهرة الجديدة” تبدو أنضج فنياً وأكثر حيوية ودرامية من أختها على الرغم من اعتراف نجيب محفوظ نفسه بأنه كتبها قبل “خان الخليلى”. وكأن ظهورها بعد “خان الخليلى” طبيعى من حيث نضج الخبرة([14]).
وينبغى أن نذكر هنا أن الناقد الوحيد الذى نجا من هذا الخطأ فى وقت مبكر هو أنور المعداوى، حيث ذكر على نحو هامشى فى دراسته عن الثلاثية ترتيباً لأعمال الكاتب التى سبقتها، على النحو الصحيح، مقدماً “خان الخليلى”على “القاهرة الجديدة”([15]).
ويعضد أيضاً من الآراء السابقة ما وجدته فى ذيل الطبعة الثانية من رواية “رادوبيس”، وهى طبعة مندثرة، يعود تاريخ نشرها إلى سنة 1947(طبعة لجنة النشر للجامعيين) حيث يثبت الناشر قائمة بأعمال الكاتب التى نُشرت حتى ذلك الحين، وهى كالتالى: “عبث الأقدار”، “رادوبيس”، “كفاح طيبة”، “خان الخليلى”، “القاهرة الجديدة”. كما يذكر أن للكاتب تحت الطبع: “زقاق المدق”، “همس الجنون”؛ مما يحسم إلى حد كبير ـ فضلاً عن قضية “خان الخليلى” ـ ما سبق وأثرناه متعلقاً بالخلاف حول المجموعة القصصية الأولى للكاتب، من أن تاريخ نشرها يعود إلى سنة 1948 ( وهو ترجيح على شلش أيضاً) وليس إلى سنة 1938 كما درج على ذلك نقاد نجيب محفوظ، ولا إلى سنة 1947 كما أثبت ذلك حمدى السكوت نقلاً عن الكاتب نفسه.
………………………….
([1]) عند محمد حسن عبدالله: الإسلامية والروحية، محمود أمين العالم: تأملات فى عالم نجيب محفوظ
([2]) عند طه وادى: صورة المرأة فى الرواية العربية
([3]) عند: محمد زغلول سلام: مصدر سابق
([4])عند كل من: عبدالمحسن طه بدر: مصدر سابق، فاطمة موسى: فى الرواية العربية، محمد حسن عبدالله: الواقعية فى الرواية العربية دار المعارف. القاهرة 1971، فاطمة الزهراء محمد سعيد: الرمزية ص 257
([5]) عند: يوسف الشارونى: مصدر سابق
([6]) عند: نبيل راغب: مصدر سابق
([7]) عند: طه وادى: صورة المرأة في الرواية
([8]) انظر عبدالمحسن طه بدر: مصدر سابق ص238 وانظر “الواقع والتجربة” من فصل النقد الأيديولوجى من كتابي البحث عن زعبلاوي
([9]) الواقعية فى الرواية العربية ص468، 475
([11]) فى الرواية العربية: مصدر سابق ص 56
([12])انظر تعقيب عبدالمحسن طه بدر على ما قاله غالى شكرى ص 238 من الرؤية والأداة.
([13]) علي شلش : نجيب محفوظ الطريق والصدى. كتاب الثقافة الجديدة ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة. القاهرة. ديسمبر 1993ص105
(·)فى ضوء هذا الرأى يصبح حديث عبدالمحسن طه بدر عن صلة كفاح طيبة بالقاهرة الجديدة من حيث اشتراكهما فى الحديث عن مصر..إلخ؛ يصبح هذا الكلام فى حاجة إلى مراجعة.
([15]) انظر دراسة أنور المعداوى بعنوان: ملحمة نجيب محفوظ الروائية فى كتاب فاضل الأسود: الرجل والقمة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1989 ص 85