أليس في إقبال “محمود حميدة” على أداء هذه المغامرة/الدور الصعب دليلا قويا على قدرته الخاصة في الحضور أمام عدسة الكاميرا؟
لقد كانت تلك الجثة هي البطل الأساسي والأول في الفيلم، بل كان “طبل” هو المحرك الرئيس لكل أحداث الفيلم بالرغم من كونه ميتا لم ينطق بكلمة واحدة، ولم يؤد أية حركة طوال أحداث الفيلم؛ مما يدل على قدرة “محمود حميدة” في الأداء حتى ولو كان هذا الأداء صامتا دون الإتيان بأية بادرة فعل.
ولعل بداية “محمود حميدة” السينمائية كانت من القوة بمكان مما سمح له فيما بعد من فرض طريقة أداؤه ومن ثم إثبات وجوده في الوسط السينمائي، فبالرغم من أن فيلمه الأول “الأوباش” الذي قدمه فيه المخرج الراحل “أحمد فؤاد” 1986 لم يحقق له النجاح المأمول، ولم يلفت إليه الأنظار كثيرا، إلا أن فيلمه التالي “الإمبراطور” – مع المخرج العائد من أمريكا- “طارق العريان” 1990 كان بمثابة الانطلاقة الحقيقية لفرض وجوده في السينما المصرية ومن ثم إثبات كونه ممثلا بارعا يستطيع الوقوف أمام ممثلين آخرين لهم تاريخ طويل في الأداء القوي بل يمتلكون “كاريزما” مميزا مثل الفنان الراحل “أحمد زكي”.
ولربما كان أداء “محمود حميدة” أمام “أحمد زكي” في فيلم “الإمبراطور” هو شهادة انطلاقه الفعلية بل واعتماده كفنان كبير بالرغم من أنه كان لم يزل ثاني فيلم له، ولكن قدرة “محمود حميدة” على الوقوف أمام “أحمد زكي” ومحاولة التباري معه في فن الأداء، بل ومحاولة إثبات ذاته كممثل له قدراته التمثيلية الخاصة والتي لا تقل كثيرا عن إمبراطور تمثيل مثل “أحمد زكي، أقول أن كل ذلك أدى إلى أن رأينا مباراة رائعة في فن الأداء وكأن كل منهما يقول للآخر أنا هنا، ولكن الأمر مع “حميدة” كان مختلفا؛ لأنه مازال في بداياته ومن ثم فهو يحاول إثبات جدارته كفنان.
ربما يذكرني هذا الفيلم دائما وللوهلة الأولى بالفيلم الأمريكي heat للمخرج “مايكل مان” 1995 والأداء البارع القوي الذي كان بين كل من “روبرت دي نيرو”، و”آل باتشينو” ؛فلقد كان كل منهما يجتهد بالفعل لإخراج وتقديم أفضل ما عنده كي يكون هو الأفضل والأقوى والأبدع أداءا نظرا لمعرفة كل منهما قدرة من أمامه في الأداء.
ولذلك رأينا هذه المباراة الرائعة بين “حميدة”، و”أحمد زكي” مرة أخرى عام 1993 مع المخرج “طارق العريان” مرة أخرى في فيلم “الباشا” ، ليعود “حميدة” لنا مرة أخرى كي يقول بثقة أنه فنان يعرف جيدا كيف يؤدي دوره بجدارة.
ولكن ربما كان ما يحيرنا بشكل جدي مع الفنان “محمود حميدة” هو طريقة خياراته لأفلامه ومن ثم نقف حياله دائما موقف المندهش من تلك الخيارات، فمما لا شك فيه أننا جميعا واثقين من كون الفنان “محمود حميدة” من الفنانين القلائل المثقفين والمحبين كثيرا لفن السينما، بل هو يحرص تماما على النهوض بها والاهتمام بقضاياها، ولعل الدليل على ذلك مجلته السينمائية “الفن السابع”، وإنتاجه لبعض الأفلام الهامة والتي لم يكن ليقبل على إنتاجها من المنتجين سواه، بالإضافة إلى تقديمه العديد من الوجوه السينمائية الجديدة، والوقوف إلى جانبهم حتى أثبتوا أنفسهم في تيار الفن السينمائي؛ فإذا ما تأملنا بدايات “محمود حميدة” سنجد أنه قدم عام 1991 سبعة أفلام سينمائية تلاها بأربعة أفلام عام 1992 ،ثم يقفز العدد قفزة ضخمة بحق ليصل إلى أحد عشر فيلما عام 1993 كي يعود مرة أخرى للانخفاض ويصل إلى خمسة أفلام عام 1994 ،وأربعة عام 1995، وفيلمين في 1996، ليصبح فيلما واحدا كل عام فيما بعد حتى عام 2000، وهنا تبدأ فترات اشتراكه في أفلام سينمائية تقل لتصبح فيلما واحدا كل عامين أحيانا.
علّنا إذا ما تأملنا هذه المسيرة الفنية لالتمسنا له العذر في البداية؛ حيث كان لم يزل بعد في فترة البداية والانتشار ومن ثم الرغبة في إثبات وجوده وقدرته الجيدة على الأداء؛ مما جعله يشترك عام 1993 في أحد عشر فيلما يتفاوت فيهم المستوى السينمائي الجيد من أفلام جيدة جدا وعلامة من علامات السينما المصرية مثل “حرب الفراولة” للمخرج “خيري بشارة”، “فارس المدينة” للمخرج “محمد خان”، “الغرقانة” للمخرج “محمد خان” أيضا، إلى أفلام أخرى تجارية متوسطة القيمة الفنية مثل “بوابة إبليس” للمخرج “عادل الأعصر”، “الذئب” للمخرج “عبد الحليم النحاس”، “الثعالب” للمخرج “أحمد السبعاوي”.
ولكن بعد مرور حوالي سبع سنوات على بداية “محمود حميدة”، وبعد تقديمه 25 فيلما سينمائيا نراه لم يزل بعد على نفس القدر من عدم القدرة أو التشوش في خياراته السينمائية؛ مما يجعلنا في حيرة حقيقية حينما يشترك مثلا عام 1994 في فيلم بديع مع المخرج ” محمد خان” مثل “يوم حار جدا”، “المهاجر” مع المخرج “يوسف شاهين”، “ديسكو..ديسكو” مع المخرجة “إيناس الدغيدي”، ثم لا يلبث أن يشترك في نفس العام مع المخرج “أسامة الكرداوي” في فيلمه “كارت أحمر” الذي لا يمكن أن يرقى إلى مستوى ذات الأفلام التي شارك فيها في نفس العام.
وهنا نرى أن “محمود حميدة” يظل سائرا على ذات النهج حتى اليوم بالرغم من تقديمه العديد من الأفلام التي تعد من قبيل العلامات في تاريخه الفني وتاريخ السينما المصرية مثل “جنة الشياطين” للمخرج “أسامة فوزي” 2000، “بحب السيما” للمخرج “أسامة فوزي” أيضا 2004، “ملك وكتابة” للمخرجة “كاملة أبو ذكري” 2006، “قليل من الحب.. كثير من العنف” للمخرج البديع “رأفت الميهي 1995 وغيرها، إلا أنه في المقابل يشترك في أفلام مثل “صراع الزوجات” للمخرجة “نعمات رشدي” 1992 والذي لا يمكن أن يعدو أكثر من سهرة تليفزيونية لا علاقة لها بالسينما، “ليلة البيبي دول” للمخرج “عادل أديب” 2008 بكل سوءاته وأخطاؤه السينمائية، “دكان شحاتة” للمخرج “خالد يوسف” 2009 الذي كان من أكثر الأفلام إتخاما بالأخطاء الفنية حتى أنه كان من الممكن أن يصنع أحد المخرجين الجدد تجربته السينمائية الأولى أفضل منه.
علّ مثل هذه الخيارات تحيرنا حيرة قصوى لأمر هام، وهو أننا رأينا الفنان “محمود حميدة” في معظم أدواره السينمائية قادرا على الأداء بشكل جيد، بل ويعرف كيف يمسك بزمام أمر الشخصية جيدا لدرجة أننا نكاد أن نصدق أنه يعيش حياة طبيعية ولا يقتصر الأمر على كونه مجرد مؤديا لدور ما مرسوم له في السيناريو، حتى ولو كان الفيلم المشترك فيه متوسط القيمة الفنية أو غير مخلص لفن السينما.
ولذلك نتساءل، لماذا يشترك مثل هذا الفنان في فيلم متوسط القيمة؟ هل يرى “محمود حميدة” أن أداؤه الدور بشكل جيد كاف بالنسبة له؟ وإذا كان هذا كافيا لبناء مجده وتاريخه السينمائي الحقيقي، ألا يرى أن اشتراكه في مثل هذه الأفلام يعد من قبيل عدم الاهتمام الكافي بالسينما المصرية ومن ثم ارتقاءها وتقدمها ودفعها نحو الأفضل؟
ولذلك أعود متسائلا مرة أخرى عن رجل بمثل هذا القدر من الثقافة والاهتمام الحقيقي بالسينما، بل ويحلم دائما بتقديم كل ما هو مخلص للسينما كفن ثم يقدم بعض الأفلام التجارية والتي لا تخلص للسينما كسينما، أو بعض الأفلام المليئة بالمشاكل الفنية والقلقة المستوى الفني.
بالتأكيد لا أنكر أن دور “محمود حميدة” مثلا في فيلمه “دكان شحاتة” كان من أكثر أدواره نضجا فنيا، ولعلّي كتبت عنه أن غياب “محمود حميدة” في النصف الثاني من الفيلم جعله يكاد يكون خاويا، غير متزن لولا محاولة “غادة عبد الرازق” الاجتهاد في أدائها ومن ثم تعويض غياب “حميدة”، ولكن أن يشترك “محمود حميدة” في مثل هذا الفيلم يكاد يكون أمرا محيرا بالفعل؛ لأنه بالتأكيد قرأ السيناريو ويعرف أن به العديد من الأخطاء والسطحية والمباشرة، كذلك الأمر بالنسبة لفيلم “ليلة البيبي دول”.
أليس هو المنتج والفنان الذي اندهش فعليا حينما قال عنه المخرج “أسامة فوزي” (أعتبر نفسي مرفها لأن المنتج لم يبخل عليّ بشيء)؟ ألم يكن سبب اندهاشه كما قال هو( أنه إلى هذا الحد بلغت بنا الأمور؟) ومن ثم يتساءل( هل من المعقول أن يتصور أحد العاملين في الصناعة أن البخل هو سيد الموقف اليوم، وأن المنتج لابد أن يكون بخيلا لكي يساير السائد؟) ألم يقصد “حميدة” من ذلك أنه كي يقدم لنا قطعة فنية رائعة- كما أطلق على جنة الشياطين- لابد أن ينفق عليها كيفما ينبغي وألا يبخل عليها لا بالمال ولا بالجهد والتفكير؟
على أية حال، ربما يغفر “لمحمود حميدة” هذه الخيارات أفلامه السينمائية البديعة التي قدمها مع مخرجين آخرين، بالإضافة لقيامه بإنتاج فيلمين من أهم أفلام السينما المصرية تقريبا وهما “جنة الشياطين”، “ملك وكتابة” من خلال شركة “البطريق” للإنتاج الفني والتي كان حريصا من خلالها على إجراء العديد من المسابقات الفنية لاختيار أفضل سيناريو مكتوب، ومن ثم التكفل بإنتاج السيناريو الفائز من خلال الشركة لدفع السينما المصرية إلى ما هو أفضل، كما لا ننسى حرص “محمود حميدة” على تقديم العديد من الوجوه السينمائية الجادة ورعايتهم للوصول بهم إلى النجومية، ولعلنا لا ننسى “عمرو واكد”، “سري النجار”، “صلاح فهمي”، “كارولين خليل”، “صفوة” الذين قدمهم “حميدة” كممثلين للمرة الأولى في فيلمه البديع “جنة الشياطين” عام 2000 كما لا ننسى حرصه على أن يكون أداءهم بارعا للوهلة الأولى ومن ثم اهتم بتأسيسهم وتعليمهم جيدا كيفية الوقوف أمام عدسة الكاميرا بتدريبهم في ورشة إعداد الممثل تحت رعاية “محمد عبد الهادي” في ورشته.
ربما لكل هذا التاريخ الهام الذي يميز مسيرة “محمود حميدة” من إصدار مجلة هامة جدا حملت على عاتقها تبسيط وتوضيح الثقافة السينمائية، مرورا بإنتاجه فيلمين هامين من أفلام السينما المصرية، وصولا إلى اهتمامه بإعداد العديد من الشباب للسينما ومن ثم تدريبه جيدا من خلال ورشة إعداد الممثل التي تخصه حاليا، فنحن نأمل أن يكون فيلمه الجديد “تلك الأيام” للمخرج “أحمد غانم” من الأفلام العلامات كأفلامه السابقة، كذلك فيلمه مع المخرج “أحمد يسري” “ميك آب”، وفيلم “الأستاذ إحسان” مع المخرج “محمد خان” الذي اشترك مع “وسام سليمان” في كتابة السيناريو عن الروائي الراحل “إحسان عبد القدوس”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد سينمائي مصري
خاص الكتابة