طارق إمام
لا تنفصم قصص “تقرير عن الرفاعية” لمحمد الفولي (الكتب خان، القاهرة) عن عقد نصوص سالفة عرفها الأدب المصري، انطلاقاً من حقبة الستينيات بالذات، حتى صار “أدب المهمشين” علامة على تيار أدبي واتجاه في رؤية العالم، يدير ظهره لبورجوازية النص المحفوظي وما تلاه، ويجعل من عالم الصعاليك والمتشردين والمنسيين متناً، وهو التيار الذي يتربع على عرشه مصرياً اسم خيري شلبي.
“مادة” العالم القصصي لمحمد الفولي تعلن ذلك، حيث حي قاهري شعبي، وخطِر، هو المطرية، ينهض مسرحاً ثابتاً لحلقات الكتاب الإثني عشر، وحيث يكفي حضور أسماء مثل “عنتر عضمة” و”أيمن حلاله” و”علاء بوكس” و”حسام سوسته” وغيرها لتحقق إدهاشاً أوّلياً من مواقعها الغريبة في عالمٍ يحيا تحت أرض المدينة المضيئة. غير أن الفولي يقرر في كتابه الإبداعي الأول أن يعيد تعريف الهامش، والهامشيين، بنصوصٍ تُغاير قدر ما تأتلف وتأتنس بميراثها، ذاهبةً للتجريب، الذي يبدأ من تكوينها الشمولي كمتتالية، متأرجحة نوعياً بين تركيز المشهد القصصي وبانورامية العالم الروائي ما يفسر دعوة المؤلف بأن “قراءة هذه المجموعة لا تتأتى إلا عبر الترتيب الذي كُتبت به”، وهي دعوة تعني أن ثمة خطية ما تمسك بمجمل النص، ولا ينبغي كسرها.
الفولي يجعل من نصوصه ساحةً للتلاعب الفني بدءاً من المراوحة النوعية، بانفلات محسوب من “وصفات” القصة القصيرة المرعية، بوصفها “لقطة خاطفة” أو “مشهد منتزع من محكيةٍ أكبر”، لحساب مد حكائي يجعل من بعض مرويات الكتاب مواداً روائية يمكن فيها للزمن الروائي لقصة أن يتجاوز الربع قرن وللمصائر أن تتحقق على عتبة المقبرة.
كذلك تختبر المتتالية طرائق تجريب جديدة كالمعارضة الأدبية، حتى أن القصة التي تحمل المجموعة عنوانها تمثل معارضةً لأحد نصوص إرنستو ساباتو. فضلاً عن ذلك، ثمة توظيفٍ مهيمن لـ الميتاسرد، حيث النص الواعي بذاته، وحيث ما وراء التخييل هو مادة التخييل، وحيث الكتابة نفسها هي موضوع الكتابة.
تكوينياً، تنفتح المتتالية على جناحين سرديين متكاملين. “أبطال منسيون”، هو عنوان القسم الأول، و”ثلاثية الأفاعي” التي تشكل القسم الثاني. وبين الإفساح للمحكي، ثم تأمل هذا المحكي وإعادة تقليبه من أجل تحويله لنص، داخل النص، تنهض اللعبة السردية الأشمل لكتاب الفولي.
ويصل النص الأخير، والذي يحمل الكتاب اسمه، بالمغامرة إلى ذروتها، مخاطراً بوصف نفسه بالتقرير. التقرير خطاب غير تخييلي، يدّعي تقديم الحقيقة، وتنحو لغته نحو الجفاف والتقشف ويمثل “الإحصاء” جوهره والتوثيق مبتغاه. هذا ما يحافظ عليه الفولي كقوام مخادع لنصه، ليحقق من خلال ذلك، للمفارقة، أعلى درجات التخييل، محولاً الواقع كله إلى وهم أو اقتراح كاذب. إنها طريقة بورخيسية أيضاً، أصبحت مناخاً أدبياً في تشكيل المتوهم عبر الإيحاء بتاريخيته ومقاربته بحسٍ تسجيلي، وهو ما يجربه الفولي على طريقته في أكثر من نص.
احتضان الموت لا مصارعته
السارد في متتالية الفولي هو البورجوازي الصغير، طبقياً وعمرياً أيضاً، لكنه مكرس لكشف عالم الهامش وجعله متناً سردياً شبه مطلق.
لكن هذا “البورجوازي الصغير” لا ينطلق من موقفٍ طبقي يوجِّه نظرة استعلائية أو دونية أو يحرك صراعاً، بل نحن بصدد سارد لا يملك سوى التساؤل، باحثاً بالتحديدعن هويته الوجودية الأشمل. لذا لن نعثر في نصوص الفولي على تلك “الغصة” الطبقية المتوقعة، حتى وهو يراقبها في وعي أشخاص آخرين به، يدركونها وينبهونه لها. نحن أمام بطلٍ يجيد الالتفاف حول منظومة قيمية لا ينتمي لها، يتماهى معها لبعض الوقت، قبل أن يغادرها وقد حصل على ما يكفيه من المعرفة لتحويل الواقع إلى نص.
ثمة سارد واحد في تقديري لجميع النصوص، سارد متكلم، وهو ليس سارداً شاهداً أو مراقباً، بل فاعل في الحدث وناهض في بؤرته ومحرك له. هذا السارد تبدأ به المتتالية القصصية طفلاً، مروراً بكافة مراحل النمو، نمو السارد والحكاية معاً. إنه الطفل الذي يتأرجح فوق سطح بناية لضبط هوائي، أو الصبي الذي ينتقل من مدرسة خاصة إلى مدرسة حكومية مع بدء المرحلة الثانوية، هو المراهق في قصة حب عبثية، ثم المجند العشريني الذاهب إلى دارفور “لحفظ السلام”، ثم الثلاثيني الواقف على عتبات النضج، مريضاً بالقلب، وهو، في النهاية، الكاتب الباحث عن نشر ترجمته الأولى وكتابه القصصي الأول، المعنون، للمفارقة بـ “تقرير عن الرفاعية”، عنوان هذا الكتاب نفسه.
“محمد الفولي”: هذا بالمناسبة هو الاسم الفني للسارد، المتطابق مع الاسم الفعلي للمؤلف الواقعي، في خلخلة عنيفة للإيهام الفني، تنقل النصوص لمساحة من الذاتية، دعمها بالطبع الضمير الأول للسارد، فضلاً عما يمكن أن يتوفر للقارئ من تفاصيل حقيقية تخص الكاتب مبثوثة هنا.
يوفر الفولي لسارده لغة سرد بسيطة، تدلف مباشرةً إلى الحدث القصصي. لغة شفافة، تفسح الفرصة الكاملة لسيولة المحكي، ولا تتعالي أبداً على “الحدوتة” في شكلها المتماسك وطبيعتها “المسلية”، غير أنها من خلال هذه البساطة الظاهرية، تمارس لعبتها الأعمق، وهي اختبار “موتيفة” تبدأ صغيرة، وما تلبث أن تكبر وتتوحش حتى تبتلع كل شيء، وتجعلنا في النهاية راغبين في العودة إلى البدء لنعيد القراءة تحت ضوء جديد.
الموتيفة هنا هي “الأفعى”، التي تظهر في القصة الاستهلالية كمحض صورة في برنامج “عالم الحيوان”، كومبارس صامت في شاشة تليفزيون آمنة: “في الخلفية يتردد صوت جلجلة ذيل الأفعى ذات الأجراس”. هذه الأفعى نفسها تنتهي بها القصة الأخيرة بطلاً مطلقاً، وعنواناً للتجربة كلها: “تفتح درج المكتب وتخرج رزمة هزيلة اصفرت أوراقها بالكامل. تقلبها حتى تصل إلى الصفحات المنشودة، تلك التي تبدأ بواحدة تصدرتها عبارة تقرير عن الرفاعية”.
المفارقة، أن السارد الطفل توكل إليه مهمة ضبط الصورة لتتضح صورة الأفعى وتصبح قابلة للفرجة على الشاشة، مثلما يوكل إلى نفسه المهمة ذاتها حين يغدو كاتباً، ليضبط صورتها أيضاً في خطابٍ قصصي، كي تغدو قابلةً للقراءة.
بالتواشج مع الأفعى هناك اسم الشارع الذي يقطع العالم القصصي كله، بحيث تبدو جميع القصص بيوتاً وأبنية تطل على يافطته: “إبراهيم الرفاعي”، وفيما نظن في البداية أنه مجرد اسم شارع، نكتشف أن الاسم منذور لما هو أكثر من لافتة منسية على أحد شوارع المطرية.
بطل مُراوِح
“الانتقال” ربما هو كلمة السر في بطل الفولي، انتقال دائم من عالم لعالم، وبطل مراوح بين بيتٍ يحاول التشبث برميمٍ من قيم طبقة وسطى مندثرة أصلا، تغدو ممحوة في قيم سياق شعبي سائلٍ ومخيف، وبين شارعٍ مفتوح على قيم عالم آخر. لا يكف السارد عن محاولات تلخيص موقعه من العالم وهدفه من خوض الحياة: “حيث يمكنني تحقيق رغباتي في التعرف على العالم الحقيقي والقضاء على حماقتي في وسط لا يعرف أنني في الحقيقة أحمق منذ الصغر”.
“هوايتي الدائمة هي قتل نفسي ببطء”: عبارة مركزية أخرى تمثل عصب رؤية السارد لموقعه في العالم، في قصة “الحاوي”. السارد نفسه، في موضع آخر (وأنا هنا أتعامل مع تقرير عن الرفاعية كنص سردي واحد موزع على اثنتي عشر حركة) يمنح السارد علاقته بلعبة المصارعة بعدها الوجودي المتجاوز: “تتميز علاقتي بالمصارعة بنفس خصوصية صلتي بالموت، فقد كانت أحد سبل الاستمتاع والهروب في ومن طفولتي”.
من هنا سيبرز مسرح آخر موازٍ لمسرح الحياة، هو المقابر أو “القرافة”، التي تنهض بدورها موضوعاً موازياً لعالم الحياة، لا يقل عنه زخماً، أو تهديداً بالخطر.
هذا البطل لن يخلو من نزعةٍ تدميرية، موجهةٍ لنفسه قبل أي شخص آخر، تقربه من البطل التراجيدي، حيث لحظة المعرفة والإدراك هي لحظة الزوال والنهاية. وحتى وهو يعيد تعريف نظرة الآخرين للموت، فإنه يصبغ عليها تصالحاً غريباً: “لن أقول إنه يصارع الموت بل يسعى لاحتضانه”. إنه بطل يحمل قدراً من اللامبالاة الوجودية، تترجمها لغة سردية تحتفي بالسخرية وتحويل كل ما هو شديد الجدية إلى هزلي يلامس تخوم العبث.
يسمي السارد محكياته “الأساطير الحضرية”، وهو يفعل ذلك بإصرار حد أنه يكرر “المصطلح” في أكثر من نص، كأنما ليؤكد على نمط خاص يميز أساطير شخوصه، النابعة من فردية الذات المدينية وليس من موروث الوجدان الجمعي. ليس أبطال الفولي الأسطوريين سوى أشخاص عاديين، استمدوا أساطيرهم الهشة من ضربة مطواة أصابت هدفها أو انتصار بائس في مشاجرة، وليس أسهل من تجريدهم من ثوب الأسطورة على يد مخبر أو أمين شرطة.
السارد نفسه، يمنح نفسه “أسطورة هزلية” بنجاحه في قتل فأر، حد أنه يحولها لمنشور على صفحة فيسبوك، وحيث “تنهال إخطارات الإعجاب، التعليقات، الرموز التعبيرية المبتسمة من الجميع”، ليتحوّل إلى بطلٍ عبثي في صفحةٍ افتراضية.
بالتواشج مع الأساطير الحضرية للشخوص، تؤسس “تقرير عن الرفاعية” أسطورتها الحضرية للمطرية. ففي نصوص مثل “الحقيقة وراء المطرية” و”إبراهيم الرفاعي”، يجري إعادة كتابة تاريخ المكان ورموزه، بتحريفٍ هزلي يردد أصداء ساراماجو في “تاريخ حصار لشبونة”، وحيث السارد، الذي يمتهن الكتابة، هو أداة اختراع التاريخ أو إعادة تأسيسه كمتخيلٍ سردي.
زمن مُدمج
بالتقاطع مع انتقالات الشخصية، يشهد الزمن السردي قفزات واسعة تترجم فكرة الانتقال وتبرزه، يدعمها المزج بين مشاهد يستدعي بعضها بعضاً ويشير إليه.
أغلب نصوص “تقرير عن الرفاعية” تنهض على الاسترجاع، حيث ينتمي الموقف القصصي للماضي، وما إن تحكم القصة إيهامها، حتى يوقظك السارد منبهاً أن هذه المحكية تقطن الذاكرة لا الحاضر. وفضلاً عن ذلك، هناك نصوص تشمل الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، بحيث يمثل الاستباق أو الاستشراف، كقفزةٍ زمنية نحو الأمام، آلية في استقراء المجهول، المشبع رغم ذلك بيقين وقوعه لا محالة. في “ذكريات هوائية” على سبيل المثال، ينهض المزج بين الطفل، ثم الشاب الشاهد على موت الأب، ثم نفس الشاب في عجزه القادم أمام عيني ابنته، طفلة الحاضر وامرأة المستقبل.
وفي “قصة حب رعب آهات” يقع المزج بين السارد الطفل ابن الحادية عشر، والمراهق، والمجند في الهايكستب استعداداً للسفر إلى دارفور، والحاصل على منحة للدراسة بمدينة ملجا الإسبانية.. وهي القصة التي تقع في 21 صفحة ويمكن بيسر أن تُقرأ كرواية مختزلة في خطوطها العريضة، فيما تمثل سيرةً مكتملة.
إنها نصوص التحول: تحول الوعي وتحول المجتمع وتحول العالم. هناك دائماً المفارقة بين البداية والنهاية: الأب القوي أمام عيني الابن/ الطفل ثم الأب الممدد على سرير في لحظة النهاية أمام نفس العينين وقد انتقلتا إلى النضج، البلطجي الملوح بسكينه، وهزيمة نفس “البطل” أمام الجميع تحت بيادات “الميري”، ثم ظهوره في النهاية كهلاً يلوّح بسكينه القديمة مثل دونكيشوت وقد هزمته كافة طواحين الهواء. إنها أفكار روائية، ولا أقول هذا مجاناً، لكن هذه القصص تغطي كل منها مساحة زمنية واسعة، ولا تبتر المصائر أو تكتفي بالمشهد القصصي الخاطف، وتقدم شخصيات ذات سمات مكتملة، بل تبسط في كل مرة قماشة سردية واسعة جرى اختزالها وربما قمع إمكاناتها في التوسع.
أطياف السلطة
في جميع قصص “تقرير عن الرفاعية” ينهض سؤال السلطة الأبوية، محاولة مشاكستها والانفلات من قبضتها والتألب عليها، حتى لو كان ذلك عبر تعمد عدم ضبط الهوائي ليحقق الأب رغبته في الفرجة على برنامج تليفزيوني. وهناك أيضاً ذلك التصالح الأخير، المشفوع بالندم. ترفض السلطة الأبوية أن ينزل السارد لمشاهدة الحاوي، مصرةً أن يطل عليها من عليائه، كأنما تأكيداً على تلك المسافة الرمزية التي لا ينبغي أن تخدش بين موقف المتفرج وموقف المشاهد، وبين قيمة “الأعلى” التي تمثلها “الشرفة” و”الأدنى” التي يمثلها الأسفلت. بالمقابل ترحب السلطة الأبوية بصعود ابنها للسطح لضبط هوائي حتى لو انطوى ذلك على خطر، لكنه يظل صعوداً نحو طابق أعلى. الصعود يستحق المخاطرة أما النزول فلا. بالخروج من البيت، تقدم السلطة وجوهها الأخرى، لكنها أيضاً تشهد قوى مناوئة، تحتفي بدورها بالهيراركية نفسها.
لنلحظ توظيف مفردة “المؤسسة”، بكل حمولاتها الإيديولوجية، لتصبح هنا محض مكان يمارس فيه طلبة المدرسة الهاربين لعبة البلاي ستيشن في شكلها البدائي، ربما مطلع التسعينيات. لكن ذلك المكان رغم ذلك يحمل قوانينه وهيكله التنظيمي، وبطريركية “عم زينهم”.
السلطة أيضاً تعيد تعريف نفسها هنا، فما يمنع طلاب المدرسة الثانوية من القفز فوق السور والهرب ليس الخوف من سلطة المدير أو التهديد بالفصل، بل الخوف من “عنتر”، الذي ينتقم للنظام، ربما دون أن يدري، بـ”تثبيت” الطلبة وسرقتهم، وهو هنا، وبينما يمثل شخصاً خارجاً على القانون كونه لص وقاطع طريق، فإنه، وبالقوة نفسها، يقدم خدمة كبرى لـ”النظام” بحفاظه على استتباب الأمن المدرسي، الذي هو بداهةً صورة للأمن بشكله الأشمل والأوسع. لكن حامي السلطة لن يلبث أن يصبح هدفاً لها، حين يتجاوز الدور المرسوم له، أو حين يغدو خطراً على هذه السلطة نفسها.
سلطة التاريخ أيضاً، وسلطة الذاكرة ذلك “النصل القديم” بتعبير الشاعر الإسباني أنخل جونثالث والذي استعار منه المؤلف تصديره للقسم الأول من الكتاب. قطيع سلطات يتخبط بينها السارد محاولاً الإفلات، وكلما قشّر طبقة ظهرت له تاليتها. ربما هو سؤال عميق، يطعن جميغ قصص “تقرير عن الرفاعية”، أو ربما هو أفعى هذا الكتاب الرمزية، التي تجد لنفسها في كل مرة طريقاً للخروج، مهددةً بضجيج أجراسها، وبخطر سمها المدّخر.