محطة أتوبيس
محمد صلاح العزب
وقفت في انتظار الأتوبيس أدخن، في الحقيقة لم أقف في انتظار الأتوبيس، وأنا أصلا لا أدخن، لكنني تخيلت أن عبارة مثل "وقفت في انتظار الأتوبيس أدخن"، هي مدخل جيد لقصة قصيرة.
ستلاحظ قطعا أنني كررت في الفقرة السابقة عبارة "وقفت في انتظار الأتوبيس أدخن"، في الحقيقة أنا لم أكتبها مرتين كما قد تظن، لكنني وقفت على أول الجملة بـ"الماوس"، ثم ضغطت "كليك شمال" وسحبت "الماوس" فظللها، ثم أخذتها "كوبي" و"بيست".
الكتابة على الكومبيوتر أسهل، لكنها تحتاج إلى تعود في البداية.
تأخر الأتوبيس الذي كنت سأكتب عنه في القصة، فشغلت نفسي عنه بمراقبة المارة الذين في القصة.
الكتابة تعطيني تنوعا أكبر في نوعية المارة، حيث يمكنني أثناء تدخين السيجارة أن أجعل شخصياتي كالتالي: رجل عجوز يسير ببطء ثم يبصق على الأرض ويسألني:
- أتوبيس 6 مجاش يا ابني؟
سأسخر منه في سري داخل القصة وأقول: "أتوبيس 6 اللي بيروح كل حتة؟"، لكنني سأرد عليه مانعا ابتسامتي وأنا أقول:
- لأ والله يا حاج مشفتوش، زمانه جاي.
يتركني ويجلس على المقعد بصعوبة ويخرج كيسا به خيار مغسول ويقضم واحدة.
في الحقيقة أشعر أن نكتة "أتوبيس 6 اللي بيروح كل حتة" قديمة وساذجة، وأنه ربما يكون من الأفضل أن أمسحها، لكنني سأقرر أن أتركها لأن الرجل العجوز أصلا لم يأت لي، ولم يسألني عن أتوبيس 6، لأنني في الحقيقة لم أقف على المحطة ولم أنتظر الأتوبيس، كما أنني لا أدخن، وفي الغالب أصلا لا يمكن للمسنين أن يأكلوا الخيار لأنهم فقدوا أسنانهم منذ زمن.
كثيرون يسألونني:
- يعني انت بتكتب ع الكومبيوتر على طول؟ ولا بتكتب الأول في ورق وبعدين بتبيض؟
هؤلاء تحديدا أحب أن أغيظهم:
- بكتب ع الكومبيوتر على طول، سهلة على فكرة، بس عشان انت مش متعود.
يخبرونني بأهمية التدفق الشعوري عبر القلم وأن تفكيرهم مرتبط بحركة أياديهم وهم يكتبون، وبعضهم يتحدث عن الحميمية، وعن شرائه أقلاما معينة من نوعيات فاخرة، وأنه من رابع المستحيلات أن يكتبوا على الكومبيوتر مباشرة.
لا أعرف لماذا يحكي لي كاتب ورقيّ قلميّ كل هذه الأمور عن طريقة كتابته وهو متأثر كأنه في لحظة نشوة؟ أقول له في سري: "ما تكتب بالقلم ولا ع الكومبيوتر ولا متكتبش أصلا أنا هعملك إيه؟".
لكنني أقول ربما يقول هذا الكلام كنوع من تمضية الوقت ونحن في انتظار الأتوبيس الذي تأخر فعلا، أتجاهل كلامه وأتأمل الفتاة الجميلة التي أتت من نهاية الموقف طويلة وممشوقة (لا أعرف معنى ممشوقة على التحديد، لكنهم يكتبونها في القصص القصيرة) وترتدي جيب كاروهات أحمر وقميصا أبيض وشعرها على هيئة ضفيرتين طويلتين، تماما كمراهقات الأفلام الجنسية التي يتم تصويرها داخل فصول.
أتأمل الفتاة متظاهرا بالتدخين وسماع حديث جاري الكاتب وجاري المسن، وقد اندمجا في حديث معا، يشكو فيه العجوز للكاتب من تشويه الأدب للمسنين، ويطالبه بقليل من الإنصاف، وأن الأمر ليس بهذا السوء.
ينظر له الكاتب متشككا فيخرج المسن خيارة رفيعة ويقضمها بسهولة ليثبت له أن المسنين قادرين على قضم أنشف خيارة بمنتهي اليسر، يميل المسن على أذن الكاتب الورقي القلمي، ويهمس له بأنه بحبة فياجرا واحدة بجنيهات يمكنه أن يقوم بالواجب مع أي امرأة حتى لو كانت فتاة صغيرة.
تمر الفتاة في نفس اللحظة أمام الرجل العجوز، فيقول للكاتب:
- عندك دي مثلا، أنا كفاءة إني أخليها تقول حقي برقبتي.
يستدير العجوز بوجهه عن الفتاة التي وقفت بعيدا، فيلمح نظرة شك في عين الكاتب، فيرتبك، ويقول له:
- تحب أوريك؟
هنا يمكن للقصة أن تأخذ أكثر من منحى، أولا: السيجارة قاربت على الانتهاء، ووصلت عدد كلمات القصة إلى 511 كلمة، وهذا معدل معقول لطول قصة قصيرة متوسطة، فيمكن أن أغلقها بأي طريقة ملفقة كأن أخبرك أن الأتوبيس أتى، فأطفأت السيجارة وعدت إلى البيت.
لكنها نهاية غير مقنعة.
السيجارة مشتعلة لا تزال، والقصة ممتدة، والأتوبيس لم يأت، والكاتب متشكك، والفتاة تقف بعيدا تلعب في هاتفها المحمول، والعجوز في مأزق، لأنه أخبر الكاتب عن فحولته المستعادة بحفنة من الجنيهات، وقال له:
- تحب أوريك؟
فأومأ الكاتب برأسه موافقا، ودس يده في جيبه وأخرج حبة فياجرا زرقاء فاقع لونها (تعبير قرآني، ربما يستهجن البعض وضعه في هذا السياق)، وأعطاها له، فأخذها العجوز وجرشها على أسنانه دون ماء، ثم ترك كيس خياره وتوجه إلى الفتاة رأسا.
لماذا كان الكاتب الذي يتوهم أنه يحب الأقلام خوفا من فشله إذا كتب على الكومبيوتر مباشرة، يحمل في جيبه حبة فياجرا؟ هذا السؤال متروك للقارئ الذكي، دون وعد بجائزة أو ما شابه.
لم يكن في الأتوبيس سوى السائق فقط، وقبل بدأ الرحلة وقف في منتصف الكراسي وحمد الله وأثنى عليه ثم اعتذر عن عدم وجود محصل معه، فتعجب الكاتب القلمي الورقي منه وسأله مستفسرا:
- ليه؟
جلس السائق، وطلب سيجارتي ليشعل سيجارته فمنحتها له، فأطلق دخانا كثيفا، وحمد الله وأثنى عليه، ثم سب الدين لهيئة النقل العام وللحكومة وللركاب، وقال إن اليوم كان أجازة لديه لأن زوجته تلد في المستشفى، لكنهم اتصلوا به وأخبروه أن هناك حالة طوارئ ولابد أن ينزل للعمل حتى يظهر في القصة، فحاول الاتصال بزميله المحصل لكنه وجد هاتفه مغلقا.
أخذ السائق نفسا طويلا من السيجارة ثم أخفض صوته حتى لا تسمعه الفتاة التي تركب في مؤخرة الأتوبيس، وقال بلهجة مكسرة:
- هو أساسا تلافونه مش مقفول، بس هو خلى مراته ترد عليا وتقلد صوت الولية بتاعت الموباين، اللي بتقول: الهاتف الذي تلبته كد يكون مغلكا أو خارك نطاك الختمة.
الكاتب الورقي القلمي أبدى اهتماما مبالغا فيه بحكاية السائق والمحصل وشعر أنه ربما يخرج منهما بقصة يكتبها أولا على الورق ثم يبيضها على الكومبيوتر كأي مُدخل بيانات في شركة، فسأله:
- طب وانت عرفت ازاي إنها مراته، مش الرسالة المسجلة؟
الرجل المسن كان منصتا لحديثهما، وهو ينظر إلى سوستة بنطلونه، وشعر السائق بأهمية الموضوع حين سمع تعبير "رسالة مسجلة"، فمال على أذن الكاتب الورقي القلمي واقترب منهم المسن ليسمع، ولم أهتم أنا بسماع ما يقولونه لأنني كاتب القصة أصلا، وعلى الكومبيوتر مباشرة.
قال السائق إنه يضاجع زوجة المحصل سرا.
نظر له الكاتب الورقي القلمي في ريبة، ونظر له المسن في إكبار، وهمّ الكاتب الورقي القلمي أن يسأله سؤالا لكن المسن سبقه وسأل السائق:
- بس بأمانة ربنا، بمجهودك؟ ولا فياجرا.
أخذ السائق نفسا عميقا من السيجارة، ونفخه في وجه المسن، فسعل المسن سعالا شديدا، فانتظره السائق حتى أتم سعاله، وقال له بهدوء:
- عيب عليك يا جدو.
الفتاة رفعت صوتها، وهي تكلم السائق:
- مش طالع يا أسطى؟
نظر السائق إليها في شهوة وقال:
- أخلص بس السوجارة يا أبلة.
الكاتب الورقي القلمي نظر إلى العجوز وأشار بعينيه إلى بنطلونه وسأله:
- شغال؟
أومأ العجوز برأسه بالإيجاب في فرح وغرور.
هناك جمهور غفير للأفلام الجنسية التي يتم تصويرها في المدارس لبنات مع مدرسيهن باليونيفورم، لكن مخرجي هذه النوعية غالبا ما يُهملون بداية الفيلم وقصته، فلا تمر ثوان حتى يتجرد البطل والبطلة من ملابسهما ليصبح كأي فيلم جنسي عادي لا إبداع فيه.
أنا لست من هذه النوعية، لديك 4 رجال مع فتاة مميزة بتنورة كاروهات وقميص أبيض مفتوح الصدر كما تحبها، و1062 كلمة كمقدمة للفيلم، لم أقصر معك، فاصنع فيلمك كما تحب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي ومؤلف مصري
القصة من مجموعة "ستديو ريهام للتصوير" الصادرة مؤخرًا عن الدار المصرية اللبنانية