مصطفى النفيسي
قهقهة البئر
إنها فأس الوقت التي تهوي علينا جميعا، والتي لن تترفق بأحد بينما أنت تركز نظراتك على أخاديد الطفولة التي تظهر لك من بعيد كصف أشجار أوكاليبتوس في طرق تمضي دون يأس. الطرقات لا تيأس أبدا. فهناك دوما عابرون جدد يفكرون واهمين بالنهايات. فما كان في الطفولة نهاية أصبح بداية. وما كان أملا أصبح مجرد أضغاث أحلام.
إنها فأس الوقت المصوبة بإحكام، والتي تجعلك تجتر كلمات ذات سيقان من خشب، والتي رددها اﻷجداد، وهم يصعدون هضبة العمر بأجساد ملفوفة في جلاليب مطرزة بعبير اﻷرض. نفس الكلمات التي كانت تخرج من أفواههم كطلقات بارود في معركة خاسرة، يراد لها أن تنتهي ليتم التفرغ بسرعة لرثاء الموتى ولتبكيت الضمير الذي لا يتوقف؛ كأنه نداء الريح في فلوات الروح المشوبة بالقلق والفراغ.
كانت الظهيرة لم تنته بعد، وصوت الزيزان لا يترك أية فرصة للتنعم بمفاتن الصمت التي زهد فيها الجميع. حديث في كل مكان، وضوضاء شبيهة بفحيح الأفاعي في الهاجرة . الجموع تمشي دون تردد. لحي تحلق، ورؤوس تمتليء، وتفرغ، كأنها جرار ماء في بئر تقبع وحيدة في الصحراء، لا مؤنس لها سوى صوت النسور التي تبحث عن جيفة هنا وهناك.
لنتخيل البئر في الليل تحت ضوء القمر وفي حلكة الليل، وهي تحارب بشكل دائم الأشباح وظلال الغيوم حينما يأتي أبريل. لا تكف عن انتظار الراحلين. إنها لا تتعب من ذلك. تفعل ذلك كتحد يومي. ولكن ما الذي يمكن أن تتحداه بئر وحيدة بدون أهل ولا أقارب، لا مؤنس لها سوى صوت المطر في الليالي الباردة، أو عويل الريح حينما تشتد صولات الخريف؟!
من هناك ذهبت قوافل وعادت أخرى. هناك حدثت شجارات متكررة، ووقعت بنود صلح. هناك تحدث البعض عن التجارة الرديئة، وعن السلع الكاسدة، وتحدث آخرون بشكل مقتضب عن اﻷرباح، وحاولوا بكلمات صغيرة تبديد جشعهم الذي لا يفنى. إنه جشع منغرس في النفس الإنسانية. جشع أشبه بجشع طيور نقار الخشب، التي لا تتوقف عن الحفر في جذوع الأشجار، صانعة لنفسها أعشاشا تهزم سكون أشجار مسالمة. النقر هنا وهناك. النقر في كل مكان.
قرب البئر فكر محتال في نقض عهد كان قد قطعه على نفسه، وفكر سادي في غزو طمأنينة الآخرين، بحيث لم يعد يقبل بريع الهدنة التي تجثم على قلبه كصخرة في مسلك جبلي. هناك تغضن جبين شيخ وصله نبأ وقوع مدينته في أيدي الغزاة. البئر تفكر في الذين مضوا باسمين، وفي أولئك الذين كانت على محياهم مسحة حزن؛ كأنها مزدحمة بالسحب. تتذكر الذين مضوا ببطء شديد نتيجة الغباء أو الرغبة في تأخير وصول أخبار سيئة إلى الآخرين، وأولئك الذين مضوا مسرعين مرددين شتائم كثيرة، بحيث كان وقوفهم عندها أشبه بمحاولة يائسة لثني بائع في “السويقة” عن التشبث بثمن باهض. تتذكر أيضا الذين مروا من هناك، وهم أطفال يتشبثون بأيادي آبائهم الخشنة، ليعاودوا المرور، وهم يقبضون بلوعة على راحات أبنائهم. نظراتهم مليئة بالحنين الى زمن لن يعود. الآباء ماتوا وهم يدفعون أرجلهم نحو متاهة أرذل العمر. الدنيا تغيرت وهم تغيروا، واﻷشجار لم تتوقف عن الإزهار. بقيت البئر مخلصة لرحلاتهم. البئر لم تخذلهم يوما. البئر لم تخذل أحدا في يوم من الأيام. بقيت على نفس الحال. مياه وافرة ودلو يتغير باستمرار. الدلو هو ساعي البريد الذي ينقل أخبار البئر، ويفشي أسرارها للعابرين. كل عابر بقليل من الفراسة يستطيع معرفة أحوال البئر. لكن البئر تشكو من غياب الجدران. في الصحراء ليست هناك جدران تتكئ عليها البئر، أو تسمح لها بحفظ أسرارها. البئر لا تستطيع أن تغفو؛ ﻷنها ليست في مأمن. قد ينقض عليها الليل، بعد أن يتحول إلى مارد. رغم أن لا أحد سمع بأن الليل قد تحول الى مارد، ولكن البئر تتخيل ذلك. تتخيله؛ كأنه حدث البارحة أو حدث في كابوس. ألم يحدث أن كان الليل ماردا في حيوات أخرى مضت، حيث كانت النجوم مجرد زنابق تغطي بستان السماء، وحيث كان القمر جاسوسا صغيرا لم يخضع ﻷي تدريب في أية مؤسسة حكومية، يمارس مهامه بشكل هاو، و يبحلق هنا وهناك بحثا عن عشاق مسالمين؟.
ولكن عينا القمر لا تقعا – هل يملك القمر عينين؟ – سوى على البئر. البئر التي لا تستطيع أن تختبئ، أو تتجنب عيون المتربصين. فهي تشبه سائقين متهورين على طريق سريع. البئر التي لا تتوقف عن التحديق في زوايا الماضي دون أن تصدر عنها آهات واقعية. فكل ما اقترفته؛ هو استعارة عويل الريح حينما يشتد بها اﻷسى. تحرص على أن تدخل الريح في تجاويفها، ثم تفرج عنها، وقد تحولت إلى أنين أشبه بصوت الطبول الذي يوقظ الهمم قبل المعارك الكبيرة. ولكن أية همم ستوقظها البئر ؟ فهي لن توقظ سوى مخاوف العابرين الذين يفكرون في الوصول بشكل سريع إلى منازلهم!
-“أنت تصوب بشكل جيد مثل بندول في ميناء ساعة حائطية !”.
-“أنت لا تختلف عن الوقت في المضي إلى اﻷمام دوما دون توقف، كمضي اﻷنهار إلى حتفها الذي تعشقه البحار والمحيطات!”.
-“أنت تتجه الى معاكسة الوقت لتبدو كمن أصيب بضربة شمس في يوم صيفي!”.
-” أنت تفرغ جيوب الوقت من مفاجآت المساءات! “.
-“أنت لا تكترث ﻷي شيء، و تكترث لكل شيء، كمنبه في هاتف من الطراز القديم!”.
-“أنت العدو اللذود للوقت!”.
-“أنت متاهة الوقت الكبرى!”.
-“أنت تلويحة الوقت الأخيرة!”.
-“أنت تسرع بشكل مجنون لتظفر باكرا بحتفك!”.
-“أنت تكن للوقت ضغينة فادحة بدون أسباب معقولة!”.
-“أنت تفرح؛ لأن الوقت مضى الى سبيله كضيف متعجل!”.
كنت قد سمعت تلك الجمل بشكل حرفي. تحسست آذانك كمن يتحسس جيوبه. أدرت عنقك إلى اليسار وإلى اليمين. حاولت أن تتبين إن كان الأمر مجرد صدى لصوت ما، لاصطدام ما، لانكسار ما. ولكنك كنت متأكدا من أن الأمر يتعلق بكلمات، وليس بأصوات. كررت الجمل على مسامعك. كنت المتكلم والمستمع. ذكرك هذا بجملة إيمانويل كانط “لتكن أنت المشرع والمشرع له”. قمة الطوباوية والخيبة المسبقة. لا أحد يتوقع من نفسه أن يكون المشرع والمشرع له، فبالأحرى أن يكون المستمع والمتكلم في نفس الآن: الذي يكلم نفسه في المساءات، الرؤساء الجدد الذين يجربون خطبهم في قاعات فسيحة وراء ميكروفونات حقيقية قبل أن يعاقبوا بها مرؤوسيهم أيا كانوا، اﻷطفال الذين يتهجأون جملا قديمة مستقاة من نصوص تعتبر جزءا وثيرا من لوثة شاعر، المذيعات في اﻷسواق الكبيرة أثناء يومهم اﻷول في العمل…
تدرك ما لم تكن قد أدركته. تدرك الأوقات التي كانت البئر تشمر فيها عن ساعديها منذ الصباح الباكر شأن الأمهات اللواتي شمرن عن سواعدهن منذ طفولتهن. كم امتدت طفولة الأمهات؟ وهل استحلين شيئا في تلك الطفولة البعيدة التي دعكتها أحلام لا تتوقف كطاحونة الوادي العميق المدفون في صمت في غياهب شريان اﻷرض؟ أو نسيت أن أوصال الأرض وشرايينها تئن الآن؟.
الأرض تعبت من كل شيء. تعبت من شكاوى الزوجات والأزواج، من السعال المبكر في الصباحات، من الانتظارات المتجددة في محطات الحافلات التي تخضع لتقويم معطل، من تذمرات العمال والطلبة، من الكلام المنمق في ردهات مطاعم الماكدونالد والكينغ بورغر، من التلف العام الذي أصاب منسوب الأمل في بورصة تداول الوقت، من خداع الظهيرة الذي لم يكن بدا منه، من خيام الكذب المنصوبة في كل مكان لإيواء اللاهثين وراء السراب والخيال المملوء عن آخره بترانيم الممسوسين والسحرة، من خطابات البرلمانيين الشبيهة يالصناديق القديمة التي تمتلئ بأي شيء الذي يمكن اعتباره بمثابة لاشيء، من شطحات الدجالين المقبلين على الحياة ككلاب ضالة في الطرقات القروية، من أكاذيب التلفاز التي تخضع لعمليات تجميلية قبل البث، من العابثين بآمال الآخرين، من صياح الديكة الذي أصبح بدون جدوى مع انتشار سافر للمنبهات التي تدل على الوقت وعلى القلق وانعدام السكينة، من التقتير الشديد في المشاعر إلى حد التماهي مع اﻷرصفة والطاولات المنصوبة في العراء أمام مقاهي شعبية في زقاق يقود إلى متاهة المدينة القديمة، من الكلام العاجل وكلام المجاملات الذي لا يفيد في شيء إلا في حالات انعدام الثقة في الذات، من سهو سائقي الحافلات الذي يفسد ملل ظهيرة ما ، من لوعة الفراق والشوق التي تجعل اللقاءات قاسية إلى حد السادية…
الوقت ينظر إلي، وأنا أنظر إليه. يشمت بي، وأشمت به. يتربص بي، ولا أتربص به. ينجو مني ولا أنجو منه. يحاصرني، وأنا أتجنبه كما يتجنب فأر مصيدة ما. يراوغني و أراوغه. أراه يقهقه فلا أفقه من قهقهته أي شيء.لا أدري لماذا يقهقه الوقت. تعييك قهقهته، وتربكك نظراته المتفرسة في محياك. بين قهقهة وأخرى يتساقط الكثير من اﻷحبة واﻷقارب، وتندلق دماء كثيرة هنا وهناك دالة على الغبن الإنساني، وعلى مسافات الوقت التي تفصلنا عن بر النجاة من مكائد أنفسنا. نحن نفتك بأنفسنا الآن. لم نتعلم أي شيء سوى المكر والهرب نحو هزائم تتكاثر مثل رياح مكدسة في أحشاء الخريف. الوقت يمضي باسترسال وتؤدة. الوقت لا ينتظر أحدا. الوقت يهزأ بنا جميعا بما في ذلك البئر الشاهدة على نزيف الذكريات وفقاعات الغيبة والنميمة اﻷشبه بفقاعات الصابون التي تبدأ وتنتهي في نفس الحين…
كل هذا يحدث وأنت تفكر في جدتك التي اغتالها الوقت، وفي اﻷمطار التي سقطت بدون توقف يوم تهشمت طفولتك بموت تلك الجدة الحنون.
قهقهة البحر
عند الظهيرة يصبح البحر هو الآخر كسولا. تنظر إليه، فتجده؛ وكأنه يقوم بعملية اجترار غريبة الأطوار، بعد وجبة ضخمة من السمك. قد يكون تحول إلى أسد يفترس ما يجد أمامه من غزلان وثيران. لكنه لا يجد أمامه سوى السمك. لذلك كنت تسمع أنينا خفيفا يأتي من أعماق الكون، يجعلك تتلفت يمنة ويسرة باحثا عن مصدر الصوت. إن الأمر أشبه ما يكون بنداءات وصراخات أسرى يشبهون مذنبين تحت حراسة كهنة بجلابيب بالكاد تصل إلى ركبهم، وبأقباب شبيهة برؤوس سهام يحملها محاربون فوق ظهورهم. يمشون مكبلين في صحاري غير مأمون المضي فيها. فتحس بأن أفئدتهم تحولت أجراسا تعلن انكسار أرواحهم مثلما تنكسر قناديل في معابد قديمة. كل هذا كان يعبر أمامك كشريط سينمائي من أفلام الويسترن؛ لأن البحر كان قد دخل في قيلولة تاريخية لم يشهدها التاريخ أبدا. كنت تسمع من خلالها شخيره الذي لا يختلف عن شخير القطط. هذا يعني أن البحر كان قد تحول إلى كائن أليف، وتخلى عن شراسة الصباح. لكنه فجأة قام مفزوعا من نومه، وانخرط في قهقهة غريبة. كان يقهقه مستهزئا من الأسماك والصيادين و المتشمسين. قهقه مثلما يقهقه منبه في صباحات مدرسية.ألا يحق للوقت أن يقهقه هو الآخر؟!
قهقهة البندقية
لم تكن تعلم الرصاصة السريعة والخارجة للتو من بندقية تقليدية وجهتها. كانت تسرع بدون هدف يذكر. لقد كانت تريد فقط أن تخرج من سجنها الصغير في تلك الماسورة المصابة بالصدأ. كانت تريد أن تتحرر من الظلمة لتخرج إلى النور. لكنها اتجهت خطأ إلى صدر يسكنه قلب حالم في أوج اشتغاله، قلب تتكررخلجاته، كأنه غصن في شجرة، حينما تشتد قسوة الريح، لأن عيني صاحبه قد رأت دمعة طفل.
لم تكن تقصد الرصاصة السريعة أن تجعل عينا تجحظ، ولا أما تثكل. كانت فقط تقوم بجولتها الوحيدة في عمرها، والتي سيسمح لها فيها بمغادرة سريرها الحديدي، و برؤية تكور الشمس في الظهيرة.
اندهشت كثيرا الرصاصة السريعة والخارجة للتو من بندقية تعلم صاحبها التسديد على عجل، حينما أحست بدفء الجسد. لم تكن تعتقد أن مطرا آخر أحمر اللون يمكن أن ينهمر من سماء الجسد دون أن ينتظر تلبدها بالغيوم.
تأسفت الرصاصة كثيرا. لكن القناص انتقل إلى رصاصة أخرى دون أن يرف له جفن. لذلك سمع الجميع قهقهة الوقت تأتي من بعيد.
………………………
كاتب مغربي