ذكرياتى فى الطائف

رضا صالح
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.رضا صالح

قالَ رينيه كريفيل*: “لا مجازفة هلاك، الهلاك ألَّا نجازف”. المنطق الكُلي للكون مشتَملٌ في المجازفة

*كن صديقا” ولا تطمع في أن يكون’ لك’ صديق .

برناردشو 

أدمنتُ أحزاني

فصرت أخاف ألّا أحزنا

وطعنت ألافاً من المرّات حتّى

 صار يوجعني بأن لا أُطعنا

ولُعِنْتُ في كلّ اللّغات

وصار يقلقني بأن لا أُلعنا

ولقد شنقت على جدار قصائدي

 ووصيتي كانت بألّا أُدفنا

وتشابهت كلّ البلاد فلا أرى نفسي

 هناك ولا أرى نفسي هنا

***

 يا سادتي

 إن السّماء رحيبةٌ جدّاً

ولكنّ الصّيارفة الذين تقاسموا ميراثنا

 وتقاسموا أوطاننا وتقاسموا أجسادنا

لم يتركوا شبراً لنا

نزار قبانى

1

حدث خطير

كنا نجلس فى بهو المستشفى الكائن بسكن الاطباءء؛ أنا وزميلى مجدى وبعض الزملاء؛ البعض منا ينظرإلى التليفزيون؛وآخرون غير مهتمين لأنهم مشغولون بالكلام فى موضوعات أخرى؛كانت احتفالات أكتوبر عام 1981 والرئيس السادات يتصدر المنصة؛ يرفع وجهه إلى عنان السماء مبتهجا بأعياد النصر؛ يمتع ناظريه بعيد البطولة والانجاز؛يتطلع إلى عروض القوات البرية ؛حان الآن موعد عرض القوات الجوية؛ الطائرات تسبح فى السماء فى تشكيلاتها البديعة ؛يبتسم؛وينظر إلى جاره؛إنها ذكرى يوم العبور.

انقطع صوت التلفزيون فجأة بعدما أحدث قرقعة وأصوات عنيفة؛كأنما تكسّر الجهاز؛أحسّ المتفرجون أنه تهشّم؛ما هذه الأصوات المزعجة التى تحدث فى ثوان معدودات كأنها دهر كامل؟؛الكل يترقّب ويعيد النظر إلى الشاشة ليرى؛لا شىء هناك ؛الشاشة صارت بيضاء مرة واحدة؛ فجأة انتهى العُرس.

 

ما الذى يحدث؟ عادت الصورة لثوان معدودات؛شاغلوالمنصة يتدافعون؛الرئيس والقادة العسكريون والوزراء والأعوان ورجال السلك الدبلوماسى والضيوف يقعون على الأرض؛فى لمحة واحدة اختفى الجميع تحت المقاعد وخارج المنصة؛لا أحد يعرف ماالذى يحدث؛ لم يكن فى الحسبان أن يموت الرجل؛ولكنه للأسف؛مات.

***

1

تتدافقت الأحزان على الوطن؛ما هذا الذى يحدث؟ مهزلة؟ هذا الحدث لم يمر ببساطة؛البعض بدأ يرفض العيش فى وطن يُغتال كبيرُه؛إنها قمة الفوضى؛ يحاولون الهروب من هذا الجو الكئيب؛ يبتعدون عن تلك الظروف السيئة التى قد يكابدونها؛لم يتحملوا جروح الوطن النازفة؛ هناك من لا يعبأون؛لا يشغلون أنفسهم بمن راح ومن جاء؛مات البطل ..يحيا البطل ! الدولة فى حيص بيص الشوارع تبدى حال الدولة؛ لا نظام   كله على كله  نعم  متى يأتى من يخلصنا هذا الهم الثقيل ؟ ربما نكون فى حاجة إلى حرب تودى بالملايين ، وتهزنا هزا عنيفا ، وتجعلنا نلتزم بالجدية والانضباط فى حياتنا ؟  ربما نكون فى حاجة الى قادة مخلصين لا يتملقوننا بسذاجة كأن الناس لاتفهم؛والناس شبعت من هذه الطرق من أيام الفراعنة!

إذا ظل الخلل والزحام كما هو ..ترى ماذا تفعل الاجيال القادمة؟

مشاعر مختلطة تداهم أعداداً كبيرة من البشر؛الكل يبحث عن مكان آمن ودخل مادى مناسب؛وحياة يكتنفها الهدوء؛ الكل يبحث عن مهرب أو خلاص من هذا المأزق؛أعداد كبيرة بدأت تغادر الوطن؛تغادر إلى الخليج أو والبعض هاجر إلى أوروبا وأمريكا ؛ الوطن فى أزمة؛بينما البعض أحس بأن الخلاص قد جاء واستوت الأمور؛وبموت الرجل سوف تنصلح الأحوال؛يتوهمون أن الصح قد عاد إلى نصابه.

***

لا شىء هو إحساس عام كان يتملك أعدادًا كبيرة من الشباب فى تلك الأيام التى تلت معاهدة كامب ديفيد؛ أيامها وقّع كارتر والسادات وبيجين المعاهدة فى احتفال احتفت به وسائل الإعلام العالمية ،اتخذ عدد كبير من الدول العربية موقفا رافضا للاتفاقية .

مضت أعوام  كنا خلالها نسمع عن أفكار العرب التى كانت ضدنا على طول الخط ؛ ظلمت مصر وظلمت حاكمها الذى عزف على قيثارته وبذل أقصى وأقسى ما يستطيع ؛ لم يضع يده فى جيوبه منتظرا الفرج؛ لكنه كان دائما يحاول؛ عسى أن يجد مخرجا مما كانت تعانيه البلاد ..

حتى جاء يوم مقتله

كانت كارثة مفاجئة على البلاد بالرغم من وجود إرهاصات لها

مرت سنوات خلالها كنت قد حصلت على شهادة التخصص ؛ولا يبرح ذاكرتى مشهد المريض الذى زعق فى حجرة الكشف،وسب الطبيب دون سبب ظاهرى؛يومها لم يتحمل الطبيب وقام منتفضا من مكتبه وامتنع عن العمل؛   لن أعود بعد اليوم؛  فتح عيادته ثم أغلقها وعندما جاءه عقد عمل بالخارج سافر ولم يعد حتى الآن!

استجمعت فيها همتى للسفر؛كنت قد حصلت  على شهادة الماجستير؛ انتظرت عل وعسى أن تنصلح الأحوال؛ فى تلك الآونة كنا نلاحظ مندوبى مكاتب استقدام العمالة  يجولون فى المستشفيات والمراكز الطبية لجمع الأعداد والكفاءات المطلوبة لجهات العمل بالخليج والمملكة السعودية، عندما علمت أن فيه سبع فوائد؛ قال لى مجدى :

الفرصة جاءت للسفر

حتى وإن كانت مقصورة على فائدتين أو ثلاثة فقط فهى أحسن من لا شىء …

قلت :ولكنى لم أفكر حتى الآن فى السفر

قال لى:لابد أن تغير رأيك؛البلد فى أزمة وسوف نجلب لها العملة الصعبة؛رد عليا عشان أرد على الرجل ؛أن سوف لا أسافر وحدى ؛لابد أن نسافر سويا

 كنا نسأل عن المكان وعن الراتب، وعن طبيعة العمل وساعاته، للأسف كنا نفاجأ بأنهم جميعا ليس لديهم أى معلومات تقريبا،  وظيفتهم تنحصر فى جلب العميل واستلام عمولة المكتب .

بحثت مع زميلى الدكتورمجدى عن أفضل عقد وأفضل فرصة للسفر ، قضينا بعض الأسابيع نناقش هذا الموضوع ، كان يحضر فى الصباح مبتسما..

إيه الأخبار ؟

خير .. يوجد مستوصف فى المنطقة الغربية

فى المملكة ؟

آه ..كله فى المملكة ..صاحب العمل حاليا موجود فى فندق شبرد

***

سافرت معه إلى القاهرة لنقابل الرجل؛ تعاقد مجدى للعمل فى أبها ؛ ودلنى أحدهم على أحد مكاتب العمل؛ ذهبت اليه؛قيل لى إن صاحب العمل فى الطائف؛اسمه الشيخ خالد؛ وقيل إن الطائف جوها جميل وهى مصيف للملكة؛ بحثت عن خريطة للمملكة ؛ أطلت النظر إليها؛ الطائف قريبة من مكة؛ لا تطل على البحر،التصق المصيف فى ذهنى بالبحر، فكرت لأول وهلة: أين البحر ؟ عدت الى المكتب لاستكمال أوراقى .

قال لى صاحب المكتب :عندما تجد المكتب مغلقا ،  يمكنك زيارتي فى  منزلي ووصف لى عنوان المنزل،فى الحقيقة كان رجلا شهما  يمتلك مكتبا بمنزله الكائن بشارع السودان بالدقى،قررت زيارته بالمنزل .

 يسكن فى عمارة جديدة؛فى البهو مرايا وأصص زهور ونباتات زينة ونباتات أخرى متسلقة وأنواع من نباتات الظل لا أعرف لها اسما، يشع البريق من انعكاس الضوء الشحيح على ذلك الرخام المصقول الذى رُصّعت به حوائط المدخل والدرابزين .

ضغطت زرَّ الباب فتحت لى فتاة، سألتنى عن اسمي فأجبت؛اختفت من أمامى وعادت بابتسامة ترحيب؛ تأكدت أنها الشغالة؛عندما دخلت إلى الشقة؛ وجدت  بهوا كبيرا يكاد يساوى مساحة الشقة التى أقيم فيها، بهرتنى تلك الأباليك المتناثرة والتماثيل الصغيرة الموضوعة داخل دولاب فضى فى أحد الأركان،جلست على الفوتيه الضخم الذى يتصدر طقم الأنتريه العتيق،بعد قليل خرج  صاحب المكتب، كان طويلا ؛على وجهه ابتسامة؛مرتدياً روب دى شامبر فخم فوق بيجامته وفى يده مسبحة ؛قابلنى بحفاوة جلسنا للحديث و ارتشاف  القهوة التى جاءت على التو..

أخرج عقد العمل من درج مكتب كبير بجواره؛سلمنى العقد؛قرأت فيه إن الكفيل مسئول عن توفير سكن عائلى مؤثث؛وقرأت بندا يقول  ممنوع التحدث فى السياسة، لم أهتم  بذلك،  ميولى  السياسية ضعيفة ؛ لا أحتفظ بقدر كبير من الإعجاب للسياسيين .

إذا عجبك العقد سوف نذهب إلى سفارة باكستان

باكستان؟لماذا؟

لأنها تقوم بأعمال القنصلية السعودية هذه الأيام؛ العلاقات ليست طيبة منذ الاتفاقية

اتفاقية كامب ديفيد؟

طبعاً

***

خرجتُ من عنده وفى أعماقى شعور بالراحة؛بدأت فى تجهيز مستلزمات السفر؛اعتمدت شهاداتى من الخارجية المصرية؛ أعددتُ كل أوراقى تقريباً،بعدها اصطحبنى الرجل إلى قسم رعاية المصالح السعودية بسفارة باكستان؛  كان المكان مزدحما؛وقفت إلى جواره وسألته  :

ما سر هذا الزحام ؟

كل أعمال السفارة السعودية تتم هنا تقريبا،والمكان ضيق كما ترى .

فى المقابلة التالية سلّمنى العقد تذكرة السفر؛وأعطيته ما تبقى له من أتعابه، صارت بيننا ألفة ؛قال لى هناك أثنان سوف يسافران معك؛ أحدهما سباك والآخركاتب؛ستقابلهما فى المطار؛ وقال لى :

فى مطار الملك عبد العزيز سوف ترى رجلاً يحمل راية بيضاء صغيرة؛ ذلك هو مندوب صاحب العمل .

تعانقنا للوداع .

…………………

*فصل من رواية بنفس الاسم تحت الطبع

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون