مجنون الإمبراطورية (الجزء الأول)

فيليب العربي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبدالغني محفوظ

“ماتت جمهورية روما لأن موتها سُمح به. لم يكن موتها حتميا، وكان يمكن تجنبه. على مدار قرن من الزمان، كان الآلاف من الرجال العاديين والرجال الموهوبين والرجال التافهين جميعهم يقوضون طوعا سلطة الجمهورية في تقييد وتوجيه طموحات الفرد، وكانوا يفعلون ذلك لصالح مكاسبهم قصيرة النظر. في كل مرة أساء فيها كاتو استخدام إجراء سياسي، أو قام كلوديوس بتخويف خصم سياسي، أو أخذ مواطن روماني رشوة مقابل صوته، كانت الجمهورية تصاب بجروح. وكانت الجروح تقيح عندما أيد الرومان العاديون أو رفضوا إدانة الرجال الذين قاموا بمثل هذه الأعمال. وجه سولا و ماريوس وقيصر وأغسطس كلهم  ضربات قوية للجمهورية، لكن موتها نتج بنفس القدر عن آلاف الإصابات الصغيرة التي ألحقها بها الرومان الذين لم يعتقدوا أنها يمكن أن تموت حقا. عندما يعتبر المواطنون أن صحة واستمرارية جمهوريتهم أمر مسلم به، تصبح تلك الجمهورية في خطر. كان هذا صحيحا في عام 133 قبل الميلاد أو 82 قبل الميلاد أو 44 قبل الميلاد  مثلما هو صحيح في عام 2018 ميلادية (تاريخ نشر الكتاب). في روما القديمة وفي العالم الحديث، الجمهورية هي شيء يجب الاعتزاز به وحمايته واحترامه. وإذا ما سقطت، فإن مستقبلا غامضا وخطيرا ومدمرا يكمن على الجانب الآخر”.

إدوارد ج. واتس:   الجمهورية الهالكة: كيف وقعت روما في براثن الطغيان.

“ساهم عجز الأباطرة عن السيطرة على الجيش بشكل كبير في الأزمة الاقتصادية للإمبراطورية المتأخرة. اضطر الأباطرة أحيانا إلى فرض ضرائب على الناس بمعدلات مرتفعة للغاية من أجل دفع الرشاوى المتزايدة باستمرار والمطلوبة لتهدئة الجيش وجنرالاته، على الرغم من أن أي مبلغ لم يكن كاف أبدا لوقف الانقلابات المستمرة”.

كارل ريتشارد:    لماذا خرجنا كلنا من عباءة الرومان: الاسهام الروماني في العالم الغربي.

“إذا كانت الدولة قد تحولت، على أيدي الأباطرة، إلى تحطيم الدور الذي تضطلع به الطبقات المتميزة والمتعلمة في حياة الإمبراطورية، وإخضاع الشعب لنظام إدارة قاس وأحمق قائم على الإرهاب والإكراه، وخلق أرستقراطية جديدة نشأت من صفوف الجيش، وإذا أنتجت هذه السياسة تدريجيا دولة عبودية مع أقلية حاكمة صغيرة يقودها ملك استبدادي، كان قائدا لجيش من المرتزقة وميليشيا تم حشدها إجباريا، لم يكن الأمر على هذا النحو لأن هذا هو المثل الأعلى للأباطرة، بل لأنها كانت الرغبة الصامتة للجيش”.

ميخائيل روستوفتسيف:    تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعي والاقتصادي.

**************

مقدمة

ينسب إلى هيجل قوله “الشيء الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم شيئا من التاريخ”. وقد تبدو الجملة عبثية ولكن هذا مالم يكن يقصده هيجل بل كان يعني ان الشعوب والحكومات لا تتعلم من التاريخ. وهذا ما يؤكده قوله في كتاب فلسقة التاريخ: “لكن ما يعلمه لنا التاريخ والخبرة، هو أن الشعوب والحكومات لم تتعلم أبدا أي شيء من التاريخ، أو تصرفت وفقا للمبادئ المستخلصة منه”.

وكثيرا ما قيل ان التاريخ يكرر نفسه بمعني أن البشر يميلون الى ارتكاب نفس الأخطاء والوقوع في نفس مواقع الزلل التي حدثت في الماضي دون ان يفطنوا إلى أنهم يكررون نفس الاخطأء التي سبق إليها غيرهم او حتى وقعوا هم أنفسهم فيها. والامر لا يقتصر على الشعوب أو الحكومات فحسب بل حتى الأشخاص لا يتعلمون من التاريخ وفي اشياء ربما تبدو بسيطة للغاية ولكنها في الواقع تكون كارثية وخطيرة.

لماذا فيليب العربي

يرتبط المسرح بالحياة ارتباطا وثيقا فهو بمثابة اعادة تنظيم فني لها وتاريخ الشعوب هو معين خصب للكتابة المسرحية حيث يمكن الخروج منه بالدروس التي لاشك ينعكس تأثيرها على الحياة الآنية. وكثيرا ما لجأت الشعوب الى تاريخها لتنهل منه عسى ان تستنهض الهمم وتسلط الضوء على تلك اللحظات المجيدة في تاريخها. والعرب، الذين يعانون من حالة تراجع مزمن على كافة المستويات، بحاجة اكثر من غيرهم، الى تأمل التاريخ، والاستفادة من دروسه والخروج منه بقبس يمكن ان ينير لهم الطريق في الحلكة الحالية التي يعيشونها. صحيح ان فيليب العربي قد يكون عربيا او غير عربي ولكنه على أي حال خرج من المنطقة العربية ولاشك انه تأثر بثقافتها وبيئتها الاجتماعية. ولم يحظ الرجل باهتمام كبير من المؤرخين العرب وتكاد تنحصر دراسته في الدوائر الاكاديمية التي لا تقدم الكثير عنه ولكنها تدرسه في إطار التاريخ الروماني العام. والتاريخ الروماني، في فترات بعينها، يعد مادة صعبة للدراسة حيث يجد الباحث صعوبة في الخروج منه بشيء قاطع او نهائي. 

خطرت لي فكرة كتابة هذه المسرحية للمرة الأولى منذ أكثر من أربع سنوات ولكن كلما هممت بالبدء فيها كان حماسي يفتر وأؤجل الأمر. كانت الفكرة واضحة في ذهني ولم يكن ينقصني سوى مراجعة بعض التواريخ ولكن الكسل الذهني كان دائما يحول دون بدء المشروع. وظلت الأمور على هذ النحو لفترة طويلة وبالصدفة منذ حوالي العام أو أكثر قليلا كنت أقرأ مقالة في موقع أمريكي خفيف عن موت الأباطرة الرومان. لم يكن الموقع مشهورا ولا المقالة لها قيمة من الناحية التاريخية ولكنها كانت كافية لتذكيري بالمشروع الذي أوشك أن يطويه النسيان. وقررت أن انفض الكسل وأبدأ بالفعل في اتخاذ خطوة تضمن بقاء الفكرة على قيد الحياة.

وبدأت بالفعل في كتابة المسرحية ولكني توقفت بعد فترة أمام سؤال كبير: ما الذي يعرفه القارئ العربي عن فيليب العربي الشخصية الرئيسة في المسرحية؟. عندما تكتب مسرحية أو رواية عن شخصية مثل عنترة ابن شداد أو صلاح الدين الأيوبي أو رابعة العدوية أو غيرها من الشخصيات المعروفة من المؤكد أن تجد أن القارئ حتى غير المثقف لديه فكرة ولو بسيطة عنها. ولكن فيليب يعد شبه مجهول في التاريخ العربي لا يكاد يظهر سوى في بعض المقالات الخفيفة المكتوبة بالعربية على الإنترنت.

لذا كانت النية تتجه إلى كتابة تعريف بسيط بفيليب العربي كما تصوره المصادر التاريخية. والواقع أن فيليب صورته في كتب التاريخ اليونانية والرومانية القديمة سيئة جدا ويعود ذلك لأسباب عديدة سنوضحها فيما بعد. ويميل المؤرخون المحدثون إلى رفض الكثير من الصور النمطية المتوارثة من تلك الكتب في محاولة لتقديم صورة أفضل عن عصر فيليب. غير أن القارئ لا يستطيع أن يفهم عهد فيليب دون فهم العصر الذي حكم فيه وهي فترة عصيبة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية عرفت بأزمة القرن الثالث أو الفوضى العسكرية التي حكم فيها ما عرف بأباطرة الثكنات أو الأباطرة الجنود والتي كانت من أسوأ فترات الإمبراطورية الرومانية حتى أوشكت على الانهيار حيث انقسمت إلى ثلاث إمبراطوريات كما شهدت وقوع أول إمبراطور روماني في أسر الفرس هو الإمبراطور فاليريان (253-260)، والذي تقول بعض المصادر التاريخية إن الملك الفارسي شابور استخدمه للصعود إلى متن فرسه حتى إذا توفى أمر بتحنيطه وتعليقه في بلاطه ليكون دلالة على الاستسلام النهائي للرومان. ولكن المصادر الفارسية تشير إلى أن فاليريان ورفاقه أرسلوا إلى منطقة من بلاد فارس لكي يعملوا في بناء السدود. والواقع أن التضارب في كثير من المصادر حول الكثير من الأحداث لا يجعل الوصول إلى الحقيقة أمرا سهلا. وحادثة النضيرة بنت الضيزن ملك الحضر والتي ترد في تاريخ الطبري تبدو غير معقولة في كل جوانبها ولكن بعض المؤرخين الغربيين يشيرون إليها ويوضحون أنه كانت هناك حامية رومانية في الحضر لمساعدة ملكها على التصدي للفرس. القصة ترد أيضا في بعض المصادر الفارسية. وهناك شعر مكتوب بالعربية عن مصير المدينة القاتم مما يؤكد ان ما حاق بها كان حقيقة. صحيح أن الحضر سقطت في يد شابور في عام 240م، وكان سقوطها إلى جانب مدينتي نصيبين وحران في يد الفرس هي أسباب حملة جورديان الثالث والتي صعد خلالها فيليب إلى عرش الإمبراطورية ولكن الحادثة نفسها أي تسهيل النضيرة بنت الضيزن لشابور اجتياح المدينة وقتل والدها وقبيلتها مقابل الزواج منها والشروط الغريبة التي يتعين المرور بها لفتح أبوابها لا تبدو معقولة بالمرة. وربما كان السبب في هذه الرواية الخيالية أن المدينة صمدت لحصار اثنين من الأباطرة الرومان ليرتدا على عقبيهما هما تراجان 116/117 وسبتيموس سيفيروس 198/199. ويرى المستشرق الألماني ثيودور نولدكه أن القصة مأخوذة من أسطورة يونانية وليست حقيقية. وهناك خلط أيضا بين زنوبيا ملكة تدمر والزباء. والأخيرة هي نَائِلة بنتُ عَمْرو بنُ الظَّرب بنُ حَسَّان بنُ أذينة العِمْليقِي من ملوك الحضر. أما حكام تدمر فلم يكونوا من العرب أصلا بل إن زنوبيا أشارت إلى أنها من نسل كليوباترا. ووقعت زنوبيا في أسر الإمبراطور أوريليان وسيقت إلى روما في عام 272 ميلادية ووجهت انتقادات لاوريليان لأنه عرضها في طرق روما كنوع من التفاخر بانتصاره. ومصير زنوبيا ليس واضحا بعد وصولها إلى روما وتتباين الروايات بشأنها وتقول بعض الروايات إنها قتلت وتقول روايات أخرى إنها تزوجت من عضو في مجلس الشيوخ. أما الزباء فقد انتحرت حتى لا تقع في أسر خصومها على طريقة كليوباترا. وللدكتور سلطان بن محمد القاسمي مقالة هامة على موقعه حول هذا اللبس يوضح فيها ان الشخصيتين مختلفتان، وللدكتور القاسمي ايضا كتاب عن فيليب العربي، وهو كتيب صغير ربما لايستحق الذكر الا إنه الكتاب الوحيد الذي يقدم رؤية بانورامية شاملة عن فيليب. ويرى تيم ماكنتوش سميث في كتابه حول العرب أن حكام تدمر  لم يكونوا من العرب وأن تحدثوا بالعربية. وكانت التدمرية هي لغة تدمر وهي لهجة من الآرامية كما كانت لغة الحضر هي لهجة خاصة بها من الآرامية.  

أثناء القراءة خطر لي سؤال هام: هل يا ترى تغيرت حياة العرب منذ أيام الرومان؟. عندما سقطت الامبراطورية الرومانية دخلت اوروبا في عصور الظلام ولكن مع بداية عصر النهضة بدأت المدن الايطالية تستلهم نظام الحكم الروماني وتطورت الأمور في اوروبا بعد ذلك بقرون الى الديمقراطيات التي نراها الان. ولكن هل تقدمت حياة العرب العرب السياسية والاجتماعية عما كانت عليه في أيام الرومان؟. لقد لفت نظري تشابهات غريبة في انماط الحياة بين المجتمع الروماني والمجتمعات العربية المعاصرة كما لو كان العرب قد توقفوا عن الحركة منذ نحو الفي عام. بل أن حياة الرومان في الجمهورية التي انتهت قبل الميلاد تبدو أكثر تقدما من حياة العرب الآن، وحتى الامبراطورية لم تخلو من أيام أفضل من حياة العرب في أيامنا هذه. صحيح ان الرومان لم يكن لديهم انترنت ولا اقمار صناعية وقنوات تلفزيونية بالمئات ولكن حياتهم  لم تخلو من سبل الترفيه واللهو والتي كان المسؤولون يحرصون على توفيرها الى جانب الخبز حتى لا يثور ابناء الحضر ضدهم. 

وعلى سبيل المثال، في عهد الامبراطور جالينوس (253-268) وقع شغب كبير في الاسكندرية بسبب احذية العبيد. والحادث كما ورد في التاريخ الأغسطي يروي ان عبدا عير أحد جنود الحاكم الروماني لمصر في ذلك الوقت لوسيوس ماسيوس إيميليانوس (مات عام 260 او 261) بأن حذائه أي حذاء العبد افضل من حذاء الجندي. فما كان من الجندي الا قتله، وهنا ثار الغوغاء وهاجموا  مقر الحاكم في الاسكندرية بجميع الاسلحة. ورغم ان التاريخ الاغسطي يذكر ان إميليانوس اضطر لاعلان نفسه امبراطورا وارتداء الزي الارجواني بسبب الحادث، الا ان ذلك لا يبدو صحيحا وربما كانت هذه هي الحجة التي قدمها إيميليانوس كذريعة لمحاولة اغتصابه العرش قبل ان يهزم ثم يشنق في السجن على يد أوريليوس ثيودوتس الجنرال الذي أرسله جالينوس لانهاء المشكلة وشغل موقع إيميليانوس.

والحادث ربما يثير لدينا ذكرى مشروع مكافحة الحفاء في مصر في أربعينيات القرن الماضي، حيث كتب يونان لبيب رزق فى الأهرام فى 9 أغسطس عام 2007  تحت عنوان “مقاومة الحفاء فى مصر”، أن “المصريين قبل 1952 كانوا شعبا من الحفاه.. وأن الفلاح المصرى لم يعرف إرتداء الحذاء، إلا عندما كان يتم تجنيده فى الجيش المصري، حيث أنه لم يكن ممكنا أن يخوض الجيش حروبه بجنود من الحفاة.. وأنه بعد إنتهاء تجنيده، كان الجندى يسلم “الجزمة الميرى” باعتبارها عهدة.. ثم يعود حافيا إلى قريته مثلما جاء منها حافيا”.

و لم يكن القانون اليوناني يجرم الاجهاض ولا التخلص من الأطفال، وكانت العديد من الاسر تتخلص من أطفالها بتركها خارج المنازل حيث كان يتم تربيتهم كعبيد على يد من وجدوهم. وكان قتل الفتيات شائعا حتى في طبقة مجلس الشيوخ، التي زاد عدد الرجال فيها عن عدد النساء في عهد أغسطس. ويمكن ان يباع طفل ولد في اسرة فقيرة لينشأ عبدا لمن اشتراه، ولكن في نظر فقهاء القانون الروماني لا ينبغي ان يضر البيع بوضع الطفل الحقيقي. وهناك كلمة للامبراطور كاراكالا وهو يعنف أما لمحاولتها بيع أطفالها حيث يقول لها “أنت تقرين بأنك فعلت شيئا مخزيا وغير قانوني بطرح أطفالك الذين ولدوا أحرارا للبيع”. وينصحها بالتوجه الى قاض مختص لكي تمضي الاجراءات وفقا للقانون.

خلال العقود الاخيرة انتشر بيع الأطفال ولاسيما في مصر والعراق من قبل ذويهم. وهناك ما يشبه السوق السوداء على مواقع التواصل الاجتماعي لبيع الأطفال والمواليد رغم أن قانون البلدين يحرم ذلك ويجرمه.

ودفعني هذا الى كتابة بعض الموضوعات التي ربما لم يتطرق إليها أحد بالتفصيل في العربية مثل إعانة الحبوب التي تشبه بطاقة التموين أو إعانة البطالة في عهدنا إلى حد كبير. ونظرا لأن المكافآت المالية كانت تلعب دورا كبيرا في حياة الجنود ولاسيما الدوناتيفا (سيرد شرحها فيما بعد) فقد أفردت لها موضوعا نظرا لأهميتها التي جعلتها سببا في عرض عرش الإمبراطورية في مرحلة ما في المزاد كما لو كان سلعة تتاح لمن يدفع أكثر. إضافة إلى موضوع قصير عن الجيش والاقتصاد المدني هناك مقالات عن طريقة تعامل روما مع المظاهرات والاحتجاجات وأحداث الشغب وعنف الغوغاء وكذلك ميزانية الجيش الروماني.

بقي أن أشير إلى السبب في أن الكثير من المصادر لم تذكر، حيث كان يتعين علي أن انتهى من كل شيء قبل بداية رمضان. وأكثر المصادر التي استخدمتها مكتوبة بالإنجليزية، أولا: لأن الكتب اليونانية والرومانية القديمة كلها ترجمت إلى هذه اللغة، وثانيا لسهولة البحث فيها. للأسف لم يترجم إلى العربية الكثير من كتب التاريخ الروماني الهامة فكتاب إدوارد جيبون عن اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها لم يترجم إلى العربية بل ترجمت نسخة عن كتاب مبتسر يعتبر ملخصا لكتاب جيبون الحقيقي. أما الكتاب الرائع الذي عثرت عليه بعد أن أوشكت تقريبا على الانتهاء من كل شيء ولم أتوقع أبدا أن يكون مترجما فهو كتاب ميخائيل روستوفتسيف “تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعي والاقتصادي”، والكتاب متاح مجانا على الانترنت في عدة مواقع. ويشير الكتاب في متنه إلى أن الترجمة انتهت في نوفمبر 1957 ولكن سنة النشر ليست واضحة. وقد استعنت بالنسخة المترجمة في المقدمة اما الاجزاء الواردة في “أباطرة الثكنات” فهي مأخوذة من النسخة الانجليزية. وحرصت على وضع ارقام الصفحات لمن أراد الرجوع إليها.

قلت إنني في البداية كنت أعتزم كتابة موضوع صغير أقدم فيه سيرة فيليب وهي موجودة على الإنترنت بالإنجليزية في عدة نسخ، ولذلك لم يخطر لي كتابة المصادر. ونحيت الموضوع لبعض الوقت ولكن لما عدت إليه وجدت أنه لزاما علي أن أورد بعض المصادر الهامة. وكانت العودة للبحث مرة اخرى عملية مضنية. ولذا فان المصادر المذكورة هنا ليست هي كل المصادر بل بعضا منها وسوف اعود مرة اخرى – ربما في وقت قريب – لاضافة مراجع أخرى واعداد ببليوجرافيا كاملة لمن أراد الاستزادة. وفي النهاية هذا ليس بحثا أكاديميا في التاريخ الروماني، بل مجرد محاولة لتقديم صورة عن فيليب العربي وعصره وصور بعض الاوضاع في الجمهورية الرومانية والامبراطورية التي تلتها.

أسطورة روما

وفقا للأسطورة، تأسست روما على يد رومولوس، ابن إله الحرب مارس. ورضع رومولوس إلى جانب أخيه ريموس من ذئبة. ولقرون بعد أن تأسست روما في 753 قبل الميلاد، كانت مجرد بلدة صغيرة في وسط إيطاليا. حكمها الملوك في البداية، لكن لاحقا أصبحت جمهورية، غزت جيرانها ثم الأراضي البعيدة ومع مرور الوقت أصبحت أعظم قوة في البحر الأبيض المتوسط.

بومبي

كان رومولوس هو الأول من سبعة ملوك لروما. وكان الملك الأخير، تاركوينيوس سوبربوس، الذي حكم روما بين 534 – 509 قبل الميلاد، طاغية. واغتصب ابنه لوكريشيا تحت تهديد السيف في الحادثة الشهيرة التي ذكرها شكسبير في قصيدته (اغتصاب لوكريشيا) فما كان منها إلا ان روت لأسرتها ولأهل روما قصتها ثم غرست السكين في قبلها. وكان الشخص الذي نزع السكين من صدرها بعد موتها هو لوشيوس جونيوس بروتوس الذي سيشارك احد أحفاده وهو ماركوس جونيوس بروتوس في قتل يوليوس قيصر عام 44 قبل الميلاد. بعد الحادث أطيح بالملك وطرد من روما وتم حل الملكية واصبحت روما جمهورية وحل محل الملك قنصلان منتخبان وكان بروتوس أحد أول قنصلين يتم انتخابهما في الجمهورية. ويقال ان بروتوس حكم على متآمرين بالاعدام عندما شاركوا في مؤامرة لاعادة سوبربوس لحكم روما وكان بينهم اثنين من اولاده. ويقول قيصر لبروتوس الحفيد عندما بادر الى مهاجمته “حتى أنت أيها الصبي” أو “حتى أنت أيها الطفل”. ويختلف الباحثون حول كلمات قيصر الاخيرة ولكن المؤكد انه قالها باللغة اليونانية، وهي قريبة إلى حد ما من العبارة التي صاغها شكسبير “حتى أنت يابروتوس”. كان بروتوس ابن سرفيليا عشيقة قيصر وكانت هي موزعة بين حبها لقيصر وحبها لابنها واخيها غير الشقيق كاتو الذي كان معاديا لقيصر ونصيرا كبيرا للجمهورية مثل ابن أخته. والقول باحتمال ان يكون بروتوس هو ابن قيصر ينفيه كثير من المؤرخين بناء على تسلسل احداث تاريخية ولان قيصر اثناء ولادة بروتوس لم يكن قد تجاوز الرابعة عشر من عمره.

كان عبور يوليوس قصير بجيشه لنهر روبيكون، وهو نهر خارج روما  لا يعرف أحد مكانه الان، هو المسمار الاخير في نعش الجمهورية. وكان الجيش عندما يعود من مهمة حربية يتفرق قبل عبور هذا النهر ولا يسمح له بدخول الجمهورية. كان يوليوس قيصر وبومبي وكراسوس الذي كان اغنى رجل في روما قد عقدوا حلفا ثلاثيا غير معلن وزوج قيصر ابنته جوليا لبومبي في عام 59 قبل الميلاد سعيا لترسيخ التحالف. وكانت

الزوجة المراهقة هي الزوجة الرابعة لبومبي وكانت مبهورة بالقائد الذي يكبرها بنحو ثلاثة عقود وكان هو مفتونا بها ولكنها ماتت اثناء الولادة مما اضعف علاقة الصهرين والحليفين. والحقيقة أن التحالف الثلاثي لم يلبث أن قضت عليه الغيرة والتربص والشك والخوف، وأخيرا انتهى التحالف حيث قتل كراسوس في الحرب ووقف أهم جنرالين في روما ضد بعضهما البعض.

كان سولا قد سبق قيصر الى دخول روما بجيشه فقد كان أول جنرال ينتصر في الحرب الاهلية في عهد الجمهورية ويستولى على السلطة بالقوة العسكرية وأحيا منصب الديكتاتور الذي ظل خاملا منذ الحرب البونيقية الثانية أي منذ أكثر من قرن. وينظر الى تحركه على أنه أرسى سابقة لديكتاتورية قيصر والقضاء على الجمهورية نهائيا في ظل اوكتافيوس.

وعلى الرغم من العداء الروماني للاستبداد، اعترفت الجمهورية بأن هناك مناسبات تكون فيها حاجة الى وجود زعيم واحد. وفي مثل هذه الحالة الطارئة، يتم تعيين ديكتاتور يتمتع بالسلطة العليا للإشراف على الدولة. ويمكن للديكتاتور أن يشغل منصبه لمدة ستة أشهر فقط أو لفترة استمرار حالة الطوارئ، أيهما أقصر. وكانت “الدكتاتورية الدائمة” في وقت لاحق من قبل يوليوس قيصر في نظر الرومان تناقضا، والسبب الرئيسي لقتله.

وعلى مدار السنوات الخمس التالية انتشر العنف في كل أركان المتوسط. وانسحب بومبي شرقا لحشد انصاره والتقي الجانبان في عام 48 ق م في موقعة فارسالوس في وسط اليونان. وكان جيش بومبي ضعف عدد جيش قيصر ولكن جيش الأخير كان أكثر خبرة وحنكة كما قاد قيصر شخصيا هجوم الجناح الذي هزم جيش بومبي.

فر بومبي إلى مصر، حيث قُتل على الشاطئ بأوامر من الملك بطليموس الثالث عشر البالغ من العمر 13 عاما الذي أرسل رأسه الى روما ربما لاستمالتها واتقاء شرها. قام قيصر بإعدام القتلة وشكل تحالفا مع شقيقة بطليموس البالغة من العمر 17 عاما كليوباترا السابعة التي يقال انه تم تهريبها الى خيمة قيصر في سجادة ملفوفة.

قُتل بطليموس الثالث عشر، وغادر قيصر كليوباترا لتحكم مصر مع شقيقها الأصغر بطليموس الرابع عشر، الذي مات بسرعة، وابنه حديث الولادة الذي اسمته كليوباترا قيصريون.

في الأشهر الأولى من عام 44 ق م، كان قيصر يستعد لحملة كبيرة ضد البارثيين للانتقام لكراسوس الذي قتل في معركة حران في عام 53 ق م والهروب من أجواء روما المتوترة. وحدد خصومه موعدا كان عليهم أن يضربوا فيه. كان قيصر يعلم جيدا أنه مكروه، وحلمت زوجته كالبورنيا بقتله، وقال له عراف اسمه سبورنيا أن عليه ان يحذر منتصف مارس. وأثناء توجهه الى اجتماع لمجلس الشيوخ في ذلك اليوم المشؤوم (15 مارس)، التقى قيصر بالعراف وقال له مازحا: “أتي منتصف مارس”، فأجابه العراف بصوت خافت “نعم،  ولكنه لم ينته بعد”. وجرى تطويق قيصر في مجلس الشيوخ وتناوبته الطعنات حتى الموت، ليسقط تحت تمثال بومبي الذي أعاد هو ترميمه.

شكل اوكتافيان أو أوكتافيانوس (ابن يوليوس قيصر بالتبني والذي سيحمل بعد ذلك لقب أغسطس حتى يصير كما لو كان أسما له) وماركوس أنطونيوس وماركوس لبيدوس حكما ثلاثيا وسيطروا على روما والمقاطعات الغربية للامبراطورية ثم توجهوا لهزيمة قتلة قيصر الذين كان يقودهم بروتوس وجايوس كاسيوس وآخرون من أعداء يوليوس قيصر. والتقى الجيشان في فيليبي باليونان في اكتوبر 42 ق م، وانتهت المعركة بهزيمة الجمهوريين وانتحار كاسيوس وبروتوس. كان كاتو خال بروتوس قد قضي في افريقيا حيث فضل الانتحار في أوتيكا (بنزرت في تونس الحالية) في ابريل 46 ق م، على أن يستفيد من العفو الذي منحه أياه قيصر بعد معركة فارسالوس. المفارقة هو أن كاسيوس ولبيدوس كانا صهري بروتوس حيث كان كل منهما متزوجا من أخت غير شقيقة له. وتتباين النظرة الى بروتوس كثيرا حيث ينظر اليه البعض على انه مثال للخيانة القاتلة وكانت هذه النظرة سائدة في القرون الوسطى وربما كان هذا هو السبب الذي جعل دانتي في كتابه الجحيم من الكوميديا الالهية يضعه هو وكاسيوس ويهوذا الاسخريوطي الذي خان المسيح في نفس المكان في قاع الجحيم، ولكن الكثير من المؤرخين المحدثين ينظرون إليه على انه مقاتل شريف يضحي بالغالي والنفيس من أجل الجمهورية.

غير أن الحكم الثلاثي لم يكن أكثر استقرارا من السابق بين قيصر وبومبي وكراسوس. ومرة أخرى بدأ الاستقطاب في العالم الروماني بين أوكتافياوس في إيطاليا وأنطونيوس مع حليفته الجديدة كليوباترا في مصر. وهزم أنطونيوس وكليوباترا في معركة أكتيوم البحرية في عام 31 ق م، هرب أنطونيوس وكليوباترا إلى مصر حيث انتحرا. وأصبح أوكتافيانوس هو حاكم العالم الروماني الذي أصبح أول إمبراطور كما أصبح يحمل لقب أغسطس.

الجيش الروماني

كان الجيش الروماني هو الأكثر فعالية في العالم القديم. التدريب المهني والمعدات عالية الجودة والأجور المنتظمة والخدمة لمدة 25 عاما خلقت قوة نادرا ما هزمت على مدى 500 عام.

وعندما كانت الجيوش الرومانية تنشأ في روما من المواطنين الرومان وبتم تسجيلهم في حملة واحدة فقط، لكي يعودوا إلى الحياة المدنية بعد بضعة أسابيع أو أشهر من الخدمة، كانت طريقة الاختيار الشخصي تكفي للغرض. ولكن عندما أصبحت الخدمة في الجيش مهنة، من خلال إدخال مبدأ الخدمة المستمرة في الجيش ودفع رواتب للجنود، وعندما بدأ أيضا جمع الجنود من جميع أنحاء إيطاليا والمقاطعات، تم تطوير مبادئ لتجنيد الضابط تدريجيا. على سبيل المثال، طلب ماريوس، الذي أصبح جيش روما تحت إشرافه هيئة مهنية، أن يكون طول الجندي أعلى من حد أدنى معين. والشرط أن يكون طول الجندي 5 أقدام و 10 بوصات بالمقياس الروماني، أي حوالي 5 أقدام و 8 بوصات بمقياسنا الحالي، وكان هذا هو الحد الأدني. غير أنه لم يتم الإصرار عليه لاحقا عندما أصبح الطلب على الجنود أكبر من المعروض.

الجيش الروماني في إحدى معاركه

قبل السماح للمرشحين للتجنيد ببدء التدريب على السلاح، كان يجرى اختبارهم على بذل الجهد الشاق، والركض لمسافات طويلة، وحمل الأثقال، وتحمل الشمس والغبار، وتحمل حصص غذائية منقوصة، والمعيشة بالتناوب لفترات تحت السماء المفتوحة وفي الخيام.

كان جزء من تدريب الجيش عبارة عن مسيرة عشرين ميلا رومانيا (18.4 ميلا) (تكتمل في غضون خمس ساعات) يقطعها الجندي وهو يحمل مجموعة كاملة من الأسلحة، ودرعا، وحصصا غذائية، ووعاءا للطهي، وجاروفا قصيرا، جنبا إلى جنب مع أدواته الشخصية. وكل هذه الاشياء يصل وزنها الى حوالي 70 رطلا.

يتدرب الجنود الرومان لمدة أربعة أشهر، ويتعلمون مهارات المسير أولا، ثم يتعلمون كيفية استخدام أسلحتهم. ثم يبدأون في المبارزة مع الجنود الآخرين. أثناء التمرين التدريبي، يتم تعليم الفيلق الروماني أيضا طاعة قادتهم والجمهورية أو الإمبراطور.

كان الجيش الروماني واحدا من أكثر الجيوش التي تمت محاكاتها في التاريخ. عملت الجيوش الرومانية كمثال أسمى لقوة قتالية محترفة حاولت العديد من الجيوش اللاحقة تقليدها.

أصبحت سمات الانضباط والتنظيم التي تجسدها جحافل روما أيضا مفاهيم مركزية للجيوش المحترفة اللاحقة. حتى هيكل قيادة الجيوش، مع تقسيمه بين الضباط وقواد المائة، ينعكس في كيفية استخدام معظم الجيوش الحديثة لنظام الضباط وضباط الصف.

ليس من قبيل المصادفة أن العديد من الجيوش والحكومات قد تبنوا النسر كرمز، في تقليد مباشر لاعلام النسر الشهيرة التي كانت تحملها الجحافل الرومانية.

في عام 146 قبل الميلاد، أنهت جيوش الجمهورية الرومانية صراعها الذي دام 118 عاما من أجل غرب البحر الأبيض المتوسط ​​عندما اخترقت جدران عدوهم اللدود قرطاج. قامت القوات الرومانية بذبح العديد من المواطنين في قتال شوارع وحشي، واستعبدت من بقوا، وسوت المدينة بالأرض. شاهد القائد الروماني سكيبيو إيميليانوس قرطاج وهي تتعرض للدمار وتأمل وجودها الذي دام سبعمائة عام. وغلبه ثقل اللحظة فانفجر باكيا. ثم التفت سكيبيو إلى صديقه، المؤرخ بوليبيوس، وقال: “لحظة مجيدة يا بوليبيوس، لكن لدي رعب من نذير بالشر من أنه في يوم من الأيام سيكتب نفس المصير على بلادي”.  وهو ماحدث لروما بالفعل في عام 410 ميلادية حيث حاصرها القوط الشرقيون بقيادة ألاريك وفي 24 أغسطس من نفس العام فتح عبيد متمردون ومسؤول تمت رشوته البوابات للقوط ليعيثوا فسادا في المدينة وينهبوها على مدار ثلاثة أيام حتى تحولت في النهاية الى كومة من الانقاض المتفحمة.

لم تصل الامبراطورية الرومانية الشرقية او الامبراطورية البيزنطية التي ورثت تراث وحضارة روما القديمة في أقصى اتساع لها إلى ما وصلت إليه الدولة القديمة. وبينما كانت الدولة البيزنطية تعيش في ظل الفوضى والاضطرابات التي انهكتها عسكريا وماليا، ظهر الاسلام في شبه الجزيرة العربية في اوائل القرن السابع ووجدت فيه القبائل العربية المتصارعة رمز لوحدتها وأملا لمستقبلها فدخلت فيه أفواجا. وخرجت من شبه الجزيرة نشرا لدعوتها، وتأمينا لها من مناوشات جيران لها يتاخمونها الحدود ويناصبونها العداء. وهكذا قامت حركة الفتوحات الاسلامية على أساس فكرة الجهاد، باعتباره مبدأ وعقيدة، وضرورة حربية وسياسية، اقتضتها سلامة وأمن الدولة العربية الفتية التي أخذت تتكون آنذاك، والتي أخذت تمتد وتتسع لتشمل خلال فترة قصيرة من الزمن المنطقة الممتدة من المحيط الى الخليج.

وأخذت الدولة البيزنطية في الانكماش، خاصة بعد انسلاخ مصر والشام وجانب من آسيا الصغرى وشمال إفريقيا عنها، حتى أصبحت حدودها لا تتعدى العاصمة وما حولها، وحتى القسطنطينية تعرضت لهجمات العرب في عهد الخلافة الأموية، وكادت أن تسقط في أيدي الأمويين في بداية القرن الثامن الميلادي. وسقطت القسطنطينية بالفعل في أيدي العثمانيين في عام 1453 ميلادية. وكان فتح المدينة هو موضوع فيلم “الفاتح” الذي اخرجه الاتراك وطرحوه للعرض في عام 2012 وتكلف اكثر من 18 مليون دولار واثار غضبا شديدا في اليونان.

وعملت الحضارة الاسلامية على استيعاب حضارات عظيمة وقديمة، مثل حضارات مصر والشام والعراق واليونان والرومان، فضلا عن حضارات الشرق الأقصى مثل الصين والهند. وأفاد العرب من كل تلك الحضارات وعملوا على التنسيق بينها. وكانت الثمرة النهائية هي انصهار حضارات كل تلك البلاد المفتوحة مع حضارة العرب في بوتقة واحدة أنتجت حضارة جديدة شامخة، لها مقوماتها وكيانها وخصائصها ومميزاتها، هي الحضارة العربية الاسلامية التي قامت على دعامتين أساستين هما اللغة العربية والديانة الاسلامية.

الجمهورية والامبراطورية

اليوم، غالبا ما يصف المفكرون الجمهورية الرومانية بأنها مقدمة غير ديمقراطية وعسكرية للإمبراطورية الأكثر أهمية التي ستتبعها. شجب ما بعد الحداثيين الاستعمار والإمبريالية والنظام الأبوي لروما القديمة. وغالبا ما تتعاطف الأجيال الشابة مع الشخصيات العملاقة التي دبرت انهيار الجمهورية، وغالبا ما يُنظر إلى شخصيات مثل بومبي وقيصر وأنطونيوس على أنهم ضحايا لظروفهم حيث كانوا يحاولون فقط المضي قدما في عالم غير أخلاقي. كل من هذه الانتقادات لها وجهة نظر، لكنها لا تقلل من قيمة ظروف تفرد روما باعتبارها أرقى جمهورية في العالم القديم. كما أنها تتجاهل العبقرية الفريدة للروح الجمهورية لروما، والتي أكسبتها الحق في السيطرة على البحر الأبيض المتوسط ​​في القرون الأخيرة قبل المسيح. ألهمت هذه الروح نفسها في النهاية ولادة الجمهورية من جديد للأجيال القادمة في أماكن مثل فلورنسا والبندقية وبريطانيا والولايات المتحدة.

ويحتل صعود وسقوط الجمهورية الرومانية مكانة خاصة في تاريخ الحضارة الغربية. من بدايات متواضعة على سبعة تلال بجانب نهر التيبر، نمت مدينة روما لتهيمن على عالم البحر الأبيض المتوسط ​​القديم. وفي ظل قيادة الأرستقراطية في مجلس الشيوخ، هزمت جيوش الجمهورية قرطاج والممالك التي خلفها الإسكندر الأكبر، ووضعت الشعوب المحيطة في الشرق والغرب تحت الحكم الروماني. ومع ذلك كان انتصار الجمهورية هو أيضا مأساتها. نفس القوى التي دفعت التوسع في روما، والمكافآت التي جلبها التوسع، أدت إلى أزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية وأغرقت الجمهورية في دوامة من الحرب الأهلية. فشلت مؤسسات الحكومة الجمهورية، وأخيرا انتقلت السلطة الوحيدة إلى يد أغسطس، أول إمبراطور روماني.

بالنسبة للأجيال اللاحقة، قدمت الجمهورية الرومانية نموذجا ومصدرا للإلهام، وقصة تحذيرية. أساطير الماضي الروماني وأدبها وفنونها وأبطال وأشرار الجمهورية لم يتوقفوا أبدا عن إثارة الخيال. وتستمر الروايات والأفلام والمسلسلات التلفزيونية في استغلال هذا الإرث حتى يومنا هذا، بدرجات متفاوتة من الدقة التاريخية.

تاريخ الجمهورية آسر ويستحوذ على الانتباه مثل أي رواية خيالية، ويشمل لحظات من أكثر اللحظات درامية مثل نهب روما على يد الغال عام 390 ق م وعبور هانيبال جبال الألب الى وقوف قصير على ضفاف نهر روبيكون ويوم منتصف مارس الذي شهد مقتل يوليس قيصر.

إرث روما

امتدت الجمهورية الرومانية لما يقرب من 500 عام. قصة بدأت مع طرد ملك وانتهت بصعود إمبراطور. تحولت مدينة روما من بلدة صغيرة تقاتل من أجل البقاء في إيطاليا إلى سيدة إمبراطورية شاسعة على البحر الأبيض المتوسط ​لم تكن هيمنتها مهددة إلا بالصراع من الداخل. ومع ذلك، فإن انتصار ومأساة الجمهورية كانا متشابكين بصورة لا تقبل الفصام، فقد وفر الدستور الفريد للجمهورية لروما الاستقرار والتوجيه تحت السلطة الجماعية لمجلس الشيوخ، بينما دفعت الضغوط الاجتماعية للمنافسة النبيلة والتطلع إلى الأمجاد روما نحو التوسع. غير أن التوسع أطلق العنان لقوى اجتماعية وسياسية واقتصادية لم تتمكن الجمهورية من احتوائها، ومع  تزايد مخاطر المنافسة، انتقلت السلطة إلى أيدي أمراء الحرب الذين انحدر تنافسهم إلى الحرب الأهلية. ومع ذلك، فإن قصة الجمهورية لم تنتهي بالعبث وسفك الدماء من قبل بومبي وقيصر وأنطونيوس وأوكتافيانوس، فسوف تستمر سيطرة روما على البحر الأبيض المتوسط لقرون قادمة، كإمبراطورية متجذرة في إنجازات الجمهورية. وحتى خارج روما ، ظل إرث الجمهورية نموذجا مثاليا وتحذيرا للأجيال اللاحقة حتى يومنا هذا.

واحدة من أكثر الطرق التي شكلت روما من خلالها العالم الحديث هي مجال السياسة والحكومة. تأسست الولايات المتحدة وصُممت لتكون تقليدا للجمهورية الرومانية. وهذا هو السبب في أنها تمتلك مثل هذه الملامح والمفردات مثل مجلس الشيوخ، وثلاثة فروع للحكومة، ونظام الضوابط والتوازنات والنقض، وكلها كانت مكونات للجمهورية الرومانية.

يستند التركيز على المواطنة والدور التشاركي للمواطنين على النموذج الروماني، وكان الآباء المؤسسون على وعي كبير بالأفكار الكلاسيكية، وانطلقوا بوعي ذاتي لتشكيل روما جديدة.

استلهم المحرضون على الثورة الفرنسية بالمثل فكرة مثالية للجمهورية الرومانية، وتبنت فرنسا وأمريكا الكثير من رموزها ومصطلحاتها من روما.

ربما كان الإرث الأكثر انتشارا للرومان في البناء الحديث هو إتقانهم العمل بالخرسانة ونشرها كمواد بناء. استخدم الرومان أيضا الطوب على نطاق واسع في مبانيهم الضخمة والخاصة.

الصورة الشعبية للعمارة الرومانية عبارة عن هيكل رخامي به أعمدة، والطراز الكلاسيكي الجديد الذي يجمع بين العناصر اليونانية والرومانية. تم استخدام هذا النمط على نطاق واسع خاصة في المباني العامة الكبرى مثل المباني الحكومية والجامعات والمتاحف.

تشمل المساهمات الرومانية المهمة الأخرى القباب، خاصة القباب الكبيرة والأقواس. لا تزال كل هذه الأجزاء القياسية من المفردات المعمارية الحديثة تظهر في آلاف المباني في جميع أنحاء العالم.

وكان سوق تراجان مثلا، وهو عبارة عن مجمع متعدد الطوابق يضم أكثر من 150 غرفة مرتبطة بأروقة وممرات داخلية وسلالم، اشبه بمراكز التسوق ومجمعات المكاتب المعاصرة.

لم يكن للرومان تأثير عميق في مجال العمارة العامة فحسب، بل في المنازل الخاصة أيضا. على سبيل المثال، عاش معظم سكان روما في مبانٍ سكنية يمكن أن يصل ارتفاعها ثمانية أو عشرة طوابق.

الطريقة التي ننظم بها الوقت ونقيسه هي من خلال الأنظمة التي طورها الرومان. تقويمنا السنوي المكون من 365 يوما، بما في ذلك أسماء جميع الأشهر، هو في الأساس نفس التقويم الذي وضعه يوليوس قيصر. تقسيم اليوم إلى 24 ساعة هو أيضا من عمل الرومان، على الرغم من أن ساعاتهم تختلف في الطول وفقا للوقت من السنة. أحب الرومان الأعياد والمهرجانات، وتم استيعاب جوانب عديدة منها في نظيراتها الحديثة.

وتتبع العديد من وسائل الترفيه الجماعية خطى روما. لا تبدو ملاعبنا شبيهة بالملاعب الرومانية فحسب، بل إن الثقافة الكاملة للفرق الرياضية المحترفة، بألوانها المميزة والمشجعين والمنافسات، تذكر بفصائل سباقات العربات في سيرك ماكسيموس.

حتى الظواهر ذات الصلة، مثل الرياضيين المشهورين، وهوس الإحصائيات الرياضية، والمقامرة في الأحداث الرياضية، كانت مألوفة لدى الرومان القدماء كما هي اليوم. عندما يتعلق الأمر بتقديم عروض مذهلة كترفيه، والاستمتاع بالعنف في الرياضة، فإن الرومان يتفوقون على أي شيء موجود في الثقافة الحديثة.

ومازالت اللغة اللاتينية حتى يومنا هذا هي لغة العلوم مثل التشريح والطب والصيدلة والنبات وغيرها. صحيح أن الامبراطورية الرومانية الشرقية تبنت اللغة اليونانية في القرن الخامس الميلادي بدلا من اللاتينية.

قوة الامبراطورية وهشاشة الاباطرة

ورغم قوة روما وجبروتها وسيطرتها على اراض مترامية الاطراف، كان عرش روما في الجمهورية وفي الامبراطورية على حد سواء يبدو وكأنه غنيمة يمكن لأي جندي مغامر ان يفوز به او أن ينصبه جيشه امبراطورا أو ان يمنح لأعلى مزايد يمكن ان يدفع الهدايا المالية او الدوناتيفا للحرس الامبراطوري، كما فعل سولا ويوليوس قيصر اثناء الجمهورية وكما فعل سبتيموس سيفيروس وأباطرة الثكنات الاخرون من بعده.

في عام 40 م قتل كاليجولا بسبب جنونه وانحرافاته وتجاوزاته التي تحملها الجميع على مضض ولكنهم لم يتحملوا اعتزامه الانتقال الى الاسكندرية وجعلها بديلا لروما. وعندما اقتحم الحرس الامبراطوري القصر بعد الانتهاء من المهمة التي شارك فيها عدد كبير من اعضاء مجلس الشيوخ وغيرهم عثروا على رجل يرتعد فرقا خلف الستائر في إحدى قاعات القصر. كان الرجل هو كلاوديوس عم الامبراطور ولانه كان يعاني من العرج والصمم الطفيف وعسر الكلام فلم يشغل أي منصب عام بل عاش منزويا يتجنبه حتى افراد اسرته. حمله الحرس الامبراطوري الى معسكره واعلنوه أمبراطورا ولذلك منحهم أعلى دوناتيفا وهي الهدايا المالية التي يمنحها الامبراطور للحرس عند توليه العرش كما سنوضح فيما يلي

وعندما اغتيل بيرتيناكس خليفة كومودس، أعلن جيش بانونيا سبتيموس سيفيروس إمبراطورا في أبريل 193 م. لم يكن سيفيروس الوحيد الذي طمح الي العرش. في بريطانيا، أعلنت قوات الجنرال ألبينوس كلوديوس أيضا قائدها إمبراطورا، وكذلك طمح إلى العرش بيسكينيوس نيجر، قائد الجحافل في سوريا. ولكن موقع سيفيروس في بانونيا (غرب المجر وسلوفاكيا وشرق النمسا وشمال كرواتيا وشمال غرب صربيا) بالقرب من إيطاليا، جعله هو الأوفر حظا وسرعان ما سار إلى روما مع قواته واستولى على العرش.

زاد سيفيروس رواتب الجنود من 300 إلى 500 دينار في السنة. ووقع هذا الارتفاع في التكلفة على كاهل دافعي الضرائب وقلل سيفيروس أيضا من قيمة العملة الرومانية لتعويض التكلفة حيث خفض من محتوى الفضة في العملات المعدنية وأضاف معادن أقل قيمة مثل البرونز أو النحاس. وكان هذا يعني أنه يمكنه سك المزيد من العملات المعدنية باستخدام نفس الكمية من الفضة، ولكن سرعان ما أصبحت كل من هذه العملات أقل قيمة، مما تسبب في التضخم. لم يقم أي إمبراطور روماني منذ نيرون بتخفيض قيمة العملة على هذا النحو، وسيكون لهذا في نهاية المطاف تداعيات خطيرة، خاصة وأن خلفائه اتبعوا نفس السياسة.

غير أن الاخطر والأهم هو أن سبتيموس سيفيروس منح حقوقا جديدة للجنود حيث ألغى القاعدة التي كانت تمنع الجنود من الزواج اثناء الخدمة وعامل الجيش كأنه جزء ممتد من عائلته. لم يكن يحظى بشعبية في مجلس الشيوخ الروماني، حيث أعدم العديد من أعضاء الهيئة التشريعية البارزين متراجعا عن وعده بعدم بإعدام أي منهم. لكن بفضل شعبيته بين الجنود ظل موقعه آمنا.

وعلى فراش الموت في بريطانيا جمع نجليه كاراكالا وجيتا ونصحهما قائلا: “كونا على وفاق، وعليكما بإثراء الجنود وإزدراء الآخرين”.

لن يحكم جيتا وكاراكالا في وفاق كما سنرى، ولكن نصيحة سيفيروس بشأن الجنود ستؤخذ على محمل الجد.

لم يكن حكم سبتيموس سيفيروس أكثر من ديكتاتورية عسكرية فقد كان أساس حكمه هو الجيش الذي استخدمه لفرض ارادته. غير ان سير خلفائه على نهجه في تدليل الجيش وتخقيض قيمة العملة لم يلبث ان أدى الى كوارث.

أصبح عرش الإمبرطورية في ظل الأباطرة الجنود مطمعا للجميع حتى أن رجلا اسمه بروكيولوس من ليجوريا وأحد زعماء قبيلة إنجوني (في ألبينجا بالقرب من جنوة حاليا) المتخصص في السرقة والسطو، أصبح ثريا ومؤثرا، وشكل جيشا قوامه ألفي رجل، وبمساعدة جيشه تطلع إلى عرش الإمبراطورية الرومانية.

فيليب العربي

شغل فيليب العربي موقع الإمبراطور الروماني من 244 إلى  249 م. ولا يعرف الكثير عن حياة فيليب ولا مسيرته العسكرية والسياسية المبكرة ولكن يبدو أنه انضم إلى الجيش الروماني في سن مبكرة وكان عضوا بالحرس الإمبراطوري في عهد ألكسندر سيفيروس عام 243.

ولد فيليب في قرية في حوران موضع مدينة شهبا الحالية في سوريا. كانت القرية مغمورة وقت ولادة فيليب، على الرغم من أنه بمجرد أن أصبح إمبراطورا، أعاد فيليب تسمية المنطقة فيليبوبوليس وشرع في حملة بناء كبيرة. لا يُعرف سوى القليل عن والد فيليب، باستثناء أن اسمه جوليوس مارينوس. ومع ذلك، يشير هذا الاسم إلى أن الأسرة تحمل الجنسية الرومانية ويجب أن تكون بارزة محليا لأنها كانت تنتمي إلى طبقة الفرسان وهي الطبقة التي تتلو طبقة مجلس الشيوخ في نظام الطبقات الروماني. لا شيء معروف عن والدة فيليب. في مرحلة ما، ربما في ثلاثينيات القرن الثالث، تزوج فيليب من مارسيا أوتاسيليا سيفيرا. ولد الابن عام 238 واسمه ماركوس يوليوس سيفيروس فيليبوس. ومهنة فيليب المبكرة غامضة أيضا، على الرغم من أنه ساعده فيها بلا شك شقيقه يوليوس بريسكوس. عين جورديان الثالث بريسكوس محافظا إمبراطوريا وكان قد شغل سابقا منصب محافظ مقاطعة بلاد ما بين النهرين الرومانية. إذا كان من الممكن ربط قطعة من النقش في روما ببريسكوس، فإن شقيق فيليب صعد بسرعة خلال فترة حكم جورديان الثالث من خلال مجموعة متنوعة من وظائف الفروسية، بما في ذلك وكيل مقدونيا، ونائب حاكم مصر، وقاض في الإسكندرية.

يعد فيليب العربي شبه مجهول في التاريخ العربي لا يكاد يظهر سوى في بعض المقالات الخفيفة المكتوبة بالعربية على الإنترنت والتي تهدف – في حالة الضياع العربي الحالي – إلى التباهي والتفاخر بأن مواطنا عربيا كان فيما مضى إمبراطورا في روما أي كان سيدا للعالم في عصره.

والعرب منذ دخلوا في التيه بعد خروجهم من ربقة الاستعمار الأوروبي لا يفتأون يطنطنون حول أمجادهم وينقبون في التاريخ للبحث عما يعتبرونه سببا للتباهي ومضاهاة الأمم الأخرى أو حتى العلو عليها.

والواقع أن التاريخ ظلم فيليب العربي كثيرا والمؤرخون الغربيون المحدثون يعترفون بذلك وكانت هناك محاولات خلال العقود الأخيرة لترميم أو إصلاح الصورة المتوارثة عنه في كتب التاريخ لدى المؤرخين اليونانيين والرومان والذين سار على دربهم الكثير من المؤرخين اللاحقين.

ويعد فيليب من أكثر الأباطرة غموضا في التاريخ الروماني، فليس هناك اتفاق على أصوله هل هو عربي أم روماني؟ هل كان مسيحيا او وثنيا؟ وأين وكيف ومتى قتل؟. وفكرة أن فيليب كان عربيا هي فكرة مريحة للعرب وللغرب على السواء فهي تقدم للعرب، في وضعهم الحالي الذي يشهد تراجعا هائلا، بعض العزاء وفي نفس الوقت تؤكد أن المبدأ السائد في الغرب القائل بتولي المناصب العليا على أساس الجدارة هو مبدأ قديم في الثقافة الغربية التي تعود بجذورها إلى حد كبير إلى الإمبراطورية الرومانية.

والأسئلة التي يطرحها أي باحث عن فيليب هي: هل كان فيليب مسيحيا؟. وأين وكيف قتل؟. ومن الذي قتله؟. هل هم جنوده أم أنه قتل في المعركة مع خصمه وخليفته ديسيوس؟. وهذه الأسئلة في الغالب لا تجد لها أجوبة حتى اليوم وتختلف فيها آراء المؤرخين وتتباين تباينا كبيرا ولكنها في النهاية لا تصل إلى جواب قاطع. غير أن المؤكد هو أن عهده شهد بداية تلك السلسلة غير المنقطعة تقريبا من اغتصاب العرش والثورات التي لم تنتهي الا في عهد ديوكلتيان. كان أباطرة الثكنات بصفة عامة يجمع بينهم الرغبة في منافع وفوائد السلطة دون أن تكون لديهم الشخصية ولا القدرة لممارسة السلطة بفعالية.

وفيليب وفقا لكتب التاريخ اليونانية والرومانية خائن وصل إلى العرش عن طريق الحيلة والغدر والقتل وسفك الدماء. وتقول المصادر الرومانية واليونانية إن والده كان يقود عصابة من قطاع الطرق وهو أمر يرفضه المؤرخون المحدثون. وتقول ياسمين زهران إن ذلك لا يعدو أن يكون صورة من صور الحرب الثقافية المبكرة.

ورغم أن صورة فيليب في المراجع التاريخية ليست مواتية إلا أن فترة حكمه كانت مستقرة نسبيا فلم تكن المتاعب الكبرى لأزمة القرن الثالث قد بدأت بعد. ويذكر أنه بمجرد وصوله إلى روما بدأ فيليب حكمه بإصدار عفو وإعفاء من الديون أو تخفيض متأخرات الضرائب. ويقول عنه حتى منتقدوه إنه ألغى دعارة الغلمان وهي عشق الغلمان المعروف في التراث العربي بل يقال إنه ألغى الدعارة بكل صورها. وأنهى عمل جواسيس الدولة الذي كان شائعا في عهد أسرة سيفيران والذين كانوا يتجسسون لصالح الإمبراطور. وشيد فيليب خزان مياه في روما لتخفيف النقص المزمن في المياه في الجزء الغربي من المدينة وأنشأ حمامات عامة في روما وهو المشروع الذي أكمله خليفته ديسيوس ونسبه لنفسه.

وفي خطبة إلى “الملك” التي ينسبها الكثير من المؤرخين إلى عهده يقول الكاتب عن فيليب: “أما عن عدله فليكن ما قلت كافيا. أي بر أعظم أو أوضح من هذا؟. روع الفزع كل الولايات واستعبدها كثيرا الخوف من الجواسيس الذين كانوا يطوفون بجميع المدن يستمعون إلى ما يقول الناس. واستحالت حرية الفكر والكلام عندما قضى على كل حرية للكلام المعتدل العادل، وعندما ارتجف كل إنسان خوفا من ظله. وقد أطلق فيليب من هذا الرعب سراح أفئدة الخلق جميعا، ومنحهم حريتهم بردها عليهم تامة كاملة”.

غير أن الانتقادات توجه إليه أنه كان مبذرا وجعل موقع الإمبراطور نوعا من طغيان الأسرة بسبب إعطاء أهم المناصب لأقاربه حيث عين شقيقه بريسكوس حاكما للشرق وعهد إلى صهره سيفريانوس بقيادة القوات في مويسيا ومقدونيا. كذلك قام بتأليه والده في بادرة كانت جديدة تماما وغير مسبوقة حيث لم يكن والده إمبراطورا.

ويوضح زوسيموس أنه عندما وصل إلى السلطة عام 244، لم يكتف بتعيين شقيقه في ذلك الوقت في منصب رئيسي لبلاد الرافدين، بل قرر أيضا تكليفه بالقيادة العليا في الشرق بأكمله. لهذا السبب، منحه منصب rector Orientis غير المسبوق. كما يسجل زوسيموس أن فيليب العربي عهد إليه بقيادة الجيوش في سوريا وأنه استمر في حكم شعوب الشرق، وبما أنه تم تسجيله على ورق البردي أنه كان مسؤولا العدالة أيضا من أنطاكية، فمن الواضح ان منصبه مكنه من الاحتفاظ بمنصب القائد الأعلى والمرجع الأخير في كل الأمور المدنية والعسكرية في المنطقة حتى بحر إيجه.

ويوجه إليه الانتقاد على نحو خاص بسبب إنشاء مدينة فيلبوبوليس التي تحمل اسمه في مسقط رأسه بما حوته من مسارح وحمامات وتماثيل له ولأسرته والتي أراد بها نقل قطعة من روما إلى مسقط رأسه وكلفت الدولة مبالغ طائلة. لم تكتمل المدينة بعد مقتله وأهملت تماما ولكن بعض بقاياها مازالت قائمة حتى اليوم.

ويميل بعض المؤرخين إلى أن وصف العربي جاء من نشأته في المقاطعة العربية الرومانية. ويقول البعض إنه ربما كان ابن مسؤول روماني محلي متوسط الرتبة. ويقول آخرون إنه يضم في سلالته الأحباش وعرب مروى في السودان والسبئيين في اليمن.

الجزء الخاص بالأباطرة من فيليب إلى فاليريان فقد من مجموعة السير المتضمنة في كتاب التاريخ الأغسطي Historiae Augustae، وهو أقدم مرجع تاريخي عن الفترة. والكتاب عبارة عن مجموعة من سير الأباطرة الرومان من هادريان إلى نومريان (117-284)، وهو مصدر مهم لتاريخ الإمبراطورية الرومانية. والعمل غير مكتمل في شكله الموجود حيث لا توجد به سير من عام 244-259. ربما بدأ العمل في الأصل مع أحد أسلاف هادريان، نيرفا أو تراجان. وعنوان الكتاب الأصلي غير معروف ووضع هذا الاسم الباحث الكلاسيكي الكبير إسحاق كازاوبون في عام 1603. وتاريخ تأليف الكتاب هو أيضا مثار جدل. وترد أسماء ستة مؤلفين من أوائل القرن الرابع في المخطوطة نفسها، لكن معظم الباحثين يعتبرونها زائفة ويعتقدون أن الكتاب قد كتبه شخص واحد في أواخر القرن الرابع. غير أن دراسات حديثة بالكمبيوتر أثبتت أنه كتبه أشخاص مختلفون.

كذلك يختلف المؤرخون بشأن اعتماد الكتاب مصدرا موثوقا للأحداث فمنهم من يرفضه كلية ومنهم من يجد أنه لا بأس في الاستعانة به شريطة ان تتطابق روايته للأحداث مع مصدر آخر أكثر موثوقية.

ويرى ميخائيل روستوفتسيف أن مؤرخي كتاب التاريخ الأغسطي يجب أن يستبعدوا وألا يقبلوا في سلسلة المصادر التاريخية الجديرة بالثقة عن الحياة في القرن الثالث لأنهم يمثلون وجهات نظر سادت في القرن الرابع ووجهات النظر هذه كانت تختلف من وجوه كثيرة عن وجهة نظر أولئك الذين عاشوا في القرن الثالث. وينصح بإهمال أي حدث وارد في الكتاب مالم يكن مؤيدا بمصادر أخرى أجدر بالثقة.

والشذرات التي نعرفها عن فيليب تأتي من سيرة جورديان الثالث في الكتاب المذكور. لذلك لا يُعرف سوى القليل عن حياة فيليب المبكرة ومسيرته السياسية. ويتفق العديد من المؤرخين على أنه من أصل عربي حصل على الجنسية الرومانية من خلال والده، ومصدرهم في ذلك بالطبع هو كتاب التاريخ الأغسطي. يعزو المؤرخون قصة أن والد فيليب كان من قطاع طرق، إلى التحيز الروماني المعادي للعرب في وقت لاحق. ويقول إدوارد جيبون الذي كتب في القرن الثامن عشر متحدثا عن تيميسيثوسGaius Furius Sabinius Aquila Timesitheus صهر جورديان الثالث الإمبراطور الذي يزعم أن فيليب قتله ليحل محله قبل أن يصعد إلى العرش: “كان فيليب خلفه في موقعه عربي المولد، وبالتالي، في الجزء المبكر من حياته، لص بالمهنة. ويبدو أن صعوده من منزلة مغمورة جدا إلى الموقع الأول في الإمبراطورية يثبت أنه كان قائدا جريئا وقديرا”.

والواقع أن الرومان كانوا ينظرون إلى كل من لا يعرف اللاتينية واليونانية على أنه بربري أي همجي بمعنى آخر لا حظ له من الحضارة barbarian . وكان الوصف ينطبق على العرب كما ينطبق على الجرمان وعلى الأسبان والأفارقة وغيرهم من الشعوب التي أخضعتها روما.

في عام 243 فتح الإمبراطور جورديان الثالث بوابات معبد جانوس التي لا تفتح في وقت السلم ودشن حملته ضد الفرس الذين استولوا على أجزاء من بلاد الرافدين وربما اجتاحوا مدينة الحضر. كان تيميسيثوس قد أصبح محافظا إمبراطوريا وقائدا للحرس الإمبراطوري بعد زواج جورديان الثالث من ابنته فيوريا سابينيا ترانكولينيا في عام 241. والواقع أنه كان مسؤولا عن كل شيء لأن الإمبراطور الشاب لم يكن لديه خبرة في إدارة المعارك. وانتصر الرومان على الفرس في معركة ريسينيا أو رأس العين واستعادوا حران ونصيبين من الفرس. في تلك الأثناء أصيب تيميسيثوس بالمرض. ووفقا لما يورده التاريخ الأغسطي الذي نقلت الكثير من الكتب اليونانية والرومانية اللاحقة عنه كان الرجل مصابا بالإسهال ولكن فيليب أوصى الأطباء بأن يعطوه دواء يزيد الإسهال مما عجل بموته، واتهام فيليب بقتل تيميسيثوس لا يوجد عليه أي دليل. ولما كان بريسكوس شقيق فيليب هو الشخص الثاني في الحملة فقد أوصى بأن يشغل شقيقه الأصغر المنصب الذي شغر بوفاة تيميسيثوس. ووافق الإمبراطور في الحال. ويتساءل المؤرخون لماذا لم يشغل الأخ الأكبر هذا المنصب الذي يعد أعلى من المنصب الذي يشغله وفقا لصعود الأعلى رتبة؟. يرى البعض أن بريسكوس لم يكن لديه أولاد يمكنهم وراثة منصب الإمبراطور ومن ثم قدم أخاه الأصغر الذي كان لديه طفل في ذلك الوقت. غير أن ياسمين زهران تقول إنه لا يوجد دليل على ذلك. بعد رأس العين تخبطت الحملة وهزم الرومان في معركة ميسيشي (في الأنبار بالعراق). بعد وفاة تيميسيثوس بدأ فيليب بالتآمر على الإمبراطور حيث نقل سفن الحبوب والمؤن بعيدا عن أماكن تمركز الجنود ما جعل الجنود يتذمرون ويثورون على الإمبراطور ويقتلونه. وأرسل فيليب إلى مجلس الشيوخ أن جورديان مات متأثرا بمرضه وطلب تأليهه. غير أن نقش شابور الأول المعروف بين المؤرخين باسم RGDS الذي يسجل انتصارات شابور يزعم أن جورديان قتل في معركة ميسيشي.

لم يكن فيليب على استعداد لتكرار أخطاء من سعوا إلى العرش من قبله. فقد سعى جورديان الأول والثاني إلى العرش وهما في إفريقيا ولكنهما قتلا قبل الوصول إلى روما، كما حكم ماكسينيموس التراقي (235-238) الإمبراطورية بعد مقتل ألكسندر سيفيروس ثلاث سنوات قبل الوصول إلى روما التي قتل في طريقه إليها. لذلك كان على فيليب أن يعجل بالعودة إلى روما من أجل تأمين منصبه في مجلس الشيوخ. ومن ثم أبرم فيليب معاهدة سلام مع شابور الأول دفع له بموجبها 500 ألف دينار من الذهب، ووافق على أن تكون أرمينيا الصغرى منطقة نفوذ للساسانيين وترك شقيقه بريسكوس في منصب حاكم استثنائي للمقاطعات الشرقية. في روما، حصل على لقب أغسطس ورشح ابنه الصغير لمنصب القيصر ووريثه وبعد سنوات منحه لقب أغسطس.

بدأ حكم فيليب بتوغل جرماني على مقاطعات بانونيا وغزا القوط مويسيا (صربيا وبلغاريا حاليا) على حدود نهر الدانوب. وهزم فيليب الاثنين في عام 248، لكن الفيالق الرومانية لم تكن راضية عن النتيجة، ربما بسبب قلة ما نهبوه. ومع ذلك، في عام 247، عندما عاد فيليب إلى روما بعد حملته في المنطقة الجرمانية، حصل على ألقاب “المنتصر على الكاربي” و”المنتصر على الجرمان”، وقد تم تأليه والده في بادرة غريبة للغاية حيث لم يكن والده إمبراطورا. وأكد وضع ابنه كقيصر وحصلت أوتاسيليا زوجته أيضا على ألقاب إضافية. خلال فترة حكمه، رفع بصرى ومدن أخرى في سوريا إلى مرتبة حضرية ورفع دمشق إلى مرتبة مستوطنة.

ية لبناء روما، والتي تأسست وفقا للروايات عام ٧٥٣ قبل الميلاد على يد رومولوس. وفقا للروايات المعاصرة، كانت الاحتفالات رائعة وتضمنت ألعابا مذهلة، وعروضا مسرحية في جميع أنحاء المدينة. وفي الكولوسيوم، قُتل أكثر من ألف مصارع إلى جانب مئات الحيوانات الغريبة بما في ذلك أفراس النهر والنمور والأسود والزرافات ووحيد القرن. كانت هذه الحيوانات قد أعدت لاحتفال جورديان بانتصاره المبدئي على الفرس بعد عودته من الحملة مظفرا لولا تعثر الحملة ومقتله في نهاية المطاف.

على الرغم من الأجواء الاحتفالية، كان الاستياء في فيالق الدانوب يتزايد وأرسل فيليب السناتور ديسيوس الذي كانت له سابق خبرة بالمنطقة لإخماد التمرد، غير أن الجنود أعلنوا ديسيوس إمبراطورا في ربيع 249 ويقال إنهم خيروه بين القتل أو ارتداء الثوب الأرجواني ثوب الإمبراطور، وسار على الفور على رأس الجيش إلى روما. التقى جيش فيليب بالمغتصب بالقرب من فيرونا الحديثة في ذلك الصيف. انتصر ديسيوس وقتل فيليب، إما في المعركة أو أنه اغتيل على يد جنوده الذين كانوا حريصين على إرضاء الحاكم الجديد طمعا في هداياه ودرءا لغضبه. عندما وصلت أنباء انتصار ديسيوس إلى روما، قُتل ابن فيليب ووريثه البالغ من العمر 11 عاما والذي كان موجودا في معسكر الحرس الإمبراطوري.

وتوضح زهران أنه في وقت لاحق كانت الكتابات الرومانية قاسية بالنسبة لفيليب والعرب، حيث صور فيليب على أنه فظ والعرب على أنهم برابرة، فيما يعد مثالا مبكرا على الحرب الثقافية. غير أن فيليب كان إمبراطورا مثقفا ومستنيرا، وهو محب للثقافة اليونانية احترم تقاليد روما وتراثها بعمق كما تقول زهران.

ويوضح عرفان شهيد أن القرن الثالث شهد طفرة كبيرة في التعبير عن الذات العربية، من خلاله أصبح العرب عاملا في التاريخ الروماني طوال ذلك القرن. يتمثل هذا العامل في النصف الأول من القرن من قبل العرب من أسرة سيفيران، نحو منتصفه فيلب العربي وفي النصف الثاني أذينة  وزنوبيا في تدمر.

لم يكن سبتميوس عربيا ولكن “فينيقيا” من لبدى العظمى (في ليبيا قرب مدينة الخميس) التي كانت من أهم مدن الشمال الأفريقي في الامبراطورية الرومانية. غير أن زوجته كانت من نسل الملوك الكهنة الذين حكموا حمص في العصر الروماني لفترة طويلة فترة بعد مستوطنة بومبي. كانت جوليا دومنا جوليا دومنا ابنة يوليوس باسيانوس، كاهن الإله بعل، في حمص، وهي من قدم العنصر العربي إلى سيفيري، مباشرة كزوجة سبتيموس سيفيروس وأم كاراكالا التي كانت نصف عربية، وبشكل غير مباشر بصفتها أخت جوليا ميسا وخالة ابنتيها، جوليا سويمياس وجوليا ماميا، أمي الإمبراطور إيل جبل وألكسندر سيفروس على التوالي.

وهكذا كانت إمبراطورات سلالة سيفيران بالكامل عربا وأباطرتها كانوا في الغالب كذلك: لم يكن سبتيميوس، مؤسس الأسرة كذلك، ولكن البقية كانوا كلهم كذلك، إما كليا أو جزئيا. كان كاراكالا نصف عربي. إيل جبل و سيفيروس ألكسندر كانوا نصف عرب على الأقل وربما كذلك كليا، وفقا لما يورد شهيد.

ويوضح شهيد أنه لولا لقب “العربي” الذي يصف الإمبراطور فيليب، لما كان سوى قلة سيعلمون بأصله العربي، وهو ليس بنفس أهمية نصف العرب من عائلة سيفيري الذين جاءوا الى السلطة في وقت سابق من القرن أو حكام تدمر الذين حكموا في وقت لاحق من القرن نفسه، الذين لم تذكر انتماءاتهم العرقية العربية صراحة وبالتالي تم حجبها.

غير أنه لا توجد أدلة قطعية على أن فيليب كان عربيا. صحيح أن الإمبراطور كاراكالا منح المواطنة الرومانية للأحرار من الرجال والنساء في جميع أنحاء الإمبراطورية، في مرسوم 212 المعروف باسم Constitutio Antoniniana، ويقال إن كاراكالا فعل ذلك بإيعاز من أمه جوليا دومنا ليزيد عدد دافعي الضرائب في الإمبراطورية. وكان الكثير من غير الرومان يحملون أسماء رومانية ما يفتح أمامهم فرص الارتقاء الاجتماعي والوظيفي.

كانت حوران منذ أقدم العصور ولا تزال إحدى البوابات الرئيسة المنفتحة على شبه الجزيرة العربية، تستقبل الهجرات والقوافل التجارية، فتحتضن بعضها وينطلق بعضها الآخر شمالا إلى بلاد الهلال الخصيب.

كانت منطقة حوران يسكنها الأنباط. وضمها الرومان إلى المقاطعة العربية الرومانية وحولوا مدينة “بصرى” إلى قاعدة لقواتهم السريعة الحركة المكونة من الفيلق البارثي الروماني الذي كان بمثابة قوات التدخل السريع في تلك الأيام. أصلح الرومان شبكة الطرق التي أنشأها الأنباط في سوريا الجنوبية ووسعوها، وانشأوا بعض الطرق الاستراتيجية وأقاموا على جوانبها المخافر الدائمة للأمن وسرعة الحركة.

لقد وصل الرومان إلى المنطقة في عهد مبكر حيث وصلوا إلى دمشق في عام 65 قبل الميلاد وقاموا بعد سنوات قليلة بحملة استكشافية في جزيرة العرب وصلوا خلالها بمرافقة وزير عبادة الثالث ملك الأنباط إلى مأرب وبراقش في اليمن.

كانت أسرة فيليب من أسر الفرسان في الإمبراطورية وهي الطبقة التي تلي طبقة أعضاء مجلس الشيوخ في نظام الطبقات الروماني. حيث كان الإمبراطور يأتي على القمة ثم تليه طبقة مجلس الشيوخ ثم طبقة الفرسان ثم الأحرار ثم المحررين (أي العبيد الذين جرى عتقهم) ثم العبيد. ولو كان أي شخص عربي وصل إلى هذا المنصب لأصبح هذا أمرا تسير بذكره الركبان ولاشك أن هذه الأنباء ما كانت لتخفى على أحد في المنطقة كلها وليس في حوران فقط. والعرب الذين كانوا يؤرخون لشاعر صغير ببحث أصله وفصله ما كانوا ليهملوا خروج إمبراطور من قبيلة أو من عشيرة منهم ليصل إلى قيادة أكبر إمبراطورية في العالم آنذاك.

عادة ما يحيط الإمبراطور نفسه بحاشية من موطنه الأصلي مثلما رفع الإمبراطور سبتيموس سيفيروس قريبه وابن بلدته لبدى الكبرى جايوس فولفيوس بلوتيانوس وقربه منه ليصبح قائدا للحرس الإمبراطوري وأحد الشخصيات البارزة في الإمبراطورية وصاهره الإمبرطور بتزويج ابنه كاراكالا من ابنته بلوتيلا. غير أن معاملة كاراكالا لزوجته ووالدها وتوعده إياهما كلما وقعت عليهما عيناه جعل الرجل ينسج مؤامرة للاستيلاء على العرش. واكتشفت المؤامرة وأعدم الرجل في عام 205 وبأوامر من جوليا دومنا زوجة سبتيموس سيفروس صودرت كل ممتلكاته ودمرت كل تماثيله ومحي اسمه من السجلات العامة ونفيت ابنته زوجة كاراكالا وابنه الذي يحمل نفس اسمه وحفيدته إلى صقلية حيث قتلهما كاراكالا بمجرد وصوله إلى العرش في عام 212. لم يذكر أبدا أن فيليب أحاط نفسه بمثل تلك الحاشية من موطنه خاصة أنه جاء من أرض بعيدة ليحكم عاصمة إمبراطورية بعيدة عن أرض مولده. كذلك لم يذكر أبدا أن فيليب أشار إلى أصوله العربية.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن فيليب العربي وصل إلى الحكم في فترة من أسوأ فترات الإمبراطورية الرومانية سنجد أن فترة حكمه تميزت بالهدوء النسبي خلافا لمن أتوا من بعده. ويصنف المؤرخون الفترة من 235 حتى 284 بأنها فترة الأزمة في تاريخ الإمبراطورية التي حكم فيها الأباطرة الجنود أو أباطرة الثكنات والتي تعرف تاريخيا باسم أزمة القرن الثالث.

والواقع أن الفساد والضعف وعسكرة الدولة تفشت في عهد أسرة سيفيران عندما وصل سبيتموس سيفيروس إلى العرش في 193 ميلادية. ولكن غالبية المؤرخين يجمعون على اعتبار أن ازمة القرن الثالث تبدأ مع تولي الأباطرة الجنود السلطة بدءا من وصول ماكسينيموس التراقي إلى عرش الإمبراطورية 235 ميلادية. ورغم ان سبتيموس سيفيروس استولى على العرش بقوة الجيش الا أن المؤرخين يستبعدونه من فئة الاباطرة الجنود على اعتبار أنه أسس أسرة امبراطورية. وكان هو مؤسس السلالة السيفرية الامبراطورية، المكونة من كاراكالا (211-217) وماكرينوس (217-218) وإيل جبل (218-222) وألكسندر سيفيروس (222-235)، وهم من الأباطرة الفاسدين وغير الفعالين الذين كانت نهايتهم جميعهم سيئة، حيث لم يمت أي منهم في فراشه باستثناء سبتيموس وحتى هذا حاول ابنه كاراكالا قتله في بريطانيا ورفع السيف عليه خلف ظهره وهم ان يهوى به عليه لولا صياح من رأوه.

ومن المعروف أن العديد من المواطنين من المقاطعات التابعة للإمبراطورية اتخذوا أسماءا رومانية عند حصولهم على الجنسية، وهذا يجعل من الصعب تتبع خط دم فيليب العربي. ومع ذلك، من المعروف أن بيزنطة استخدمت قبيلة غسان من أزد اليمن كأتباع لإبقاء العرب الشماليين المجاورين تحت السيطرة ودفع البدو عن حدود الإمبراطورية الرومانية، ولصد اللخميين في الحيرة الذين كانوا يتبعون الفرس ويقاتلون إلى جانبهم. كان هذا نوع من التبعية شبيه بما يحدث الآن وكان العرب يقاتلون بعضهم البعض من أجل مصالح الدولتين الرومانية والفارسية.

ويرجح أن فيليب لقب بـ “العربي” لأن عائلته نشأت في شبه الجزيرة العربية، وتقول ياسمين زهران أن أسرة فيليب يُعتقد أنهم من نسل بعيد لعائلة بليد المرموقة في حلب ولكنها لا تقدم دليلا على ذلك، كما لا تذكر أي مصادر تاريخية بأن العائلة المذكورة أشارت إلى انتماء فيليب إليها. ويرى باحثون آخرون أن أصول عائلة فيليب ربما تعود في نهاية المطاف إلى اليمن بين قبائل الغساسنة السود التي يعيش العديد منهم ويشكلون جزءا من السكان المحليين في السودان وجمهورية إريتريا الحالية. وتفترض هذه القراءة أن أسرة فيليب هاجرت من الحبشة أو السودان ثم هاجرت مع الأزد إلى بلاد الشام.

ويرجح أن هجرة الأزد من اليمن لم تكن دفعة واحدة، وإنما كانت هجراتهم على شكل موجات استمرت لمدة تقارب 300 عام، منها موجتان رئيستان، إحداهما في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، والثانية في منتصف القرن الثاني بعد الميلاد، وأكبر هجرات الأزد كانت بعد الانهيار الجزئي الأول لسد مأرب الذي يعتبر أكبر الانهيارات، والذي حدث في عام 150 قبل الميلاد نتيجة زلزال قوي أدى لانهيار أجزاء من السد، وحدوث فيضان دمر المزارع والقرى. وحدثت الموجة الثانية من الهجرات الكبرى في عام 150 ميلاديا.

ويقول ألكسندر جراهام في كتابه “إفريقيا الرومانية: ملخص لتاريخ الاحتلال الروماني لشمال إفريقيا” الصادر في عام 1902 إن فيليب كان إفريقيا، ولكنه لا يقدم دليلا على ذلك.

ويشير البعض إلى اسم فيليب ومعناه باليونانية المحب الخيول أو عاشق الخيول في إشارة إلى أصوله اليونانية. وربما كان هذا هو ما حمل تيميسثوس قائد الحرس الإمبراطوري وصهر الإمبراطور جورديان الثالث والقائد الفعلي للحملة على تقريبهما منه في حملته ضد الفرس الساسانيين في عام 243-244 م. غير أن بعض المؤرخين يشيرون إلى أن تيميسثوس نفسه ربما كان عربيا.

ويقول بعض المؤرخين إن ملك الغساسنة امتد إلى حوران حيث ولد فيليب ويذكر أنه كانت لهم إمارة في حوران عاصمتها مدينة بصرى. ولكن لو افترضنا أن فيليب كان من الغساسنة، فهل يمكن أن يصل إمبراطور منهم أو من أي قبيلة إلى عرش روما دون أن يلفت الأنظار ودون أن يتيهوا على بقية القبائل العربية بذلك.

في الواقع، ليس هناك اتفاق بين المؤرخين على عدد ملوك الغساسنة وترتيبهم وسنى حكمهم وهذا أمر طبيعي لأن تاريخ العرب قبل الإسلام كان ينقله الإخباريون شفاهة، ومن الصعب ضبطه بصورة صحيحة. ولكن أول من ذكره اليونانيون من أمراء الغساسنة هو أمير يدعى جبله وأنه أخمد ثورة أقضت مضجع الرومان عام 547 م أي بعد ثلاثة قرون من حكم فيليب. وكان الغساسنة يتبعون الإمبراطورية الرومانية الشرقية وليست روما. كانت روما في ذلك الوقت قد انتهت كإمبراطورية. ولم يقتصر الخلاف بشأن الغساسنة على عدد ملوكهم بل امتد ليشمل مناطق سلطات الغساسنة لأنها كانت متغيرة وفقا للظروف السياسية والاقتصادية.

 

 

مقالات من نفس القسم