ما يعرفه أمين.. ستة أبواب للمتاهة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مرآة فارغة فقط، معلقة في فضاء غلاف المجلد الذي جمع مؤخراً الروايات التي أتمها "مصطفى ذكري" إلى الآن. مرآة فارغة، تنتظر، ربما، أن يرى القارئُ وجهَه فيها، رغم أنها تبدو متوحدةً مكتفيةً بصفحتها الناصعة.

 “ما يعرفه أمين”، “هراء متاهة قوطية”، “الخوف يأكل الروح”، “لمسة من عالم غريب”، “مرآة 202″، و”الرسائل”.. ست روايات قصيرة، تحققت في نحو عشر سنوات، وشكلت مجتمعةً 359 صفحة، بمتوسط حسابي 60 صفحة للرواية الواحدة. المجلد، الذي أصدرته دار “التنوير”، يتيح فرصةً مثالية لقراءة “العالم الروائي” لكاتب مجرب ومجدد، بشكل متصل وشمولي، وهو ما يترك أثراً مختلفاً تماماً عن قراءته عملاً بعد عمل في سياقات متباعدة.

     القراءة الجديدة، بسطت أمامي عالماً موحشاً متسعاً، أقربُ لحكاية واسعة تُبدل وجوه أبطالها، وأدوار شخوصها المغتربين، مُبقيةً على نفسها، في عالمٍ منسجم مع نفسه، مخلص لشروطه، وسابح في زمنه الخاص، الموزع على ستة مفاصل.

     القارئ للنصوص الستة،  سيقف بداءةً على خاصية تميز العالم الروائي لذكري، فهو حسبما أرى ينتمي لفصيلة الكتاب الذين يزدرون فكرة “التنوع”، وبالمقابل تعكس النصوص “أسلوبية” مهيمنة لا تكف عن  اختبار نفسها، لكن ترفض تغيير جِلدها.  يبدو عمل المدونة الروائية لذكري تعميقاً دائباً لأسلوبيته هذه، في سياق المحور الاستبدالي/ الرأسي الكبير للمعجم النصي، في مواجهة التوسع الأفقي الذي يوهم بالاختلافات العميقة والهوات التي يسهل الوقوف عليها بين نص وآخر لنفس الكاتب. لا ينفصم ذلك في ظني عما أراه في العالم الروائي لذكري من حضور للعلاقات المكانية، القائمة على اختبارات مختلفة للتجاور، على حساب العلاقات الزمانية التي تنحو لتتابع.  مِن هُنا في ظني يتحقق البُعد الشعري لكتابة ذكري، في سياق كلي يتجاوز البعد اللغوي في حد ذاته، كما يمكن أن يفسر ذلك النمط من الاشتغال قِصَر رواياته التي تشهد دأباً على الاستبعاد، وضغط مساحات الحكي الإطنابية، القابلة للإسهاب، بقسوة.

     يستعير ذكري، بشكل لافت، أشكالاً وتقنيات سردية لا تنتمي، للوهلة الأولى، للأدب، أو تقف، في أفضل الأحوال، على الشاطئ الآخر من مرافئ “الأدب الرفيع”. يذهب ذكري مباشرةً، ودون تردد،  لأشكال كالسيناريو السينمائي، يغور في أدبيات الرواية البوليسية، الرسائل، واليوميات. يستخدم ذكري هذه التقنيات بإخلاص، وليس كقشور هشة. يستخدمها بحرفية، بل وباجتهاد يبدو أكاديمياً للعمل من داخل شروطها العميقة. ولا يتورع السارد في كل مرة عن كسر الإيهام العميق للاستفاضة في تأمل تقنيته وأمثل الطرق لاستخدامها واستثمار عناصرها العميقة كخطابات سردية. في الوقت ذاته، لا يتورع ذكري عن استلهام الميلودراما كـ”كيتش” عظيم يصلح لإعادة التلاعب بجاهزيته. غير أن النصوص، بقدر ما تذهب لأبعد مدى في “إحياء” هذه الأشكال والطرائق، بقدر ما تقوض “اتصاليتها” بنفس القوة، ليتحول المألوف، أو المبذول إلى كيان غارق في التغريب والانقطاع.

        “ما يعرفه أمين” مثلاً، تتحقق بالكامل في بناء أقرب ما يكون للسيناريو السينمائي. ولا تخرج اللغة عن حدود لغة السيناريو، المتقشفة جمالياً، والمكرسة للوصف المشهدي السلوكي. يجيد السارد/ المحايد، الأشبه بعين كاميرا، تشييد الرتابة المقصودة في لغة لا تطمح في شئ أكثر من مشهدة العالم، وتتهادى مُساويةً بين مشهد النوم ومشهد سفك الدماء. إنه برود لغة السيناريو التي لا تطمح في خلق الأثر بـ”لغويتها” لكن بقدلاتها على تجسيد المطلوب من المشهد. اللغة في هذه الراوية تكاد تكون، في رؤية أعمق، معادلاً للشخصية التي ترصدها: أمين، المحايد حيال عالمه بالضبط كاللغة التي تتبعه.

     ستتحول هذه اللغة، كلياً، في “هراء متاهة قوطية” ـ التي صاحبت “أمين” في كتاب واحد عند صدور الطبعة الأولى ـ لنجد أنفسنا أمام توظيف شبه كلي لتقنية تيار الوعي، الباطنية تماماً، وحيث اللغة بطل مطلق يشحب أمامه العالم نفسه.

          في “الرسائل”، سنغور في العالم العميق للرسالة، كشكل اتصالي بالأساس، فليست الرسالة بالوعاء الملائم للغموض، إنها تقنية مكرسة للتواصل المباشر، ولا وجود لرسالة بلا غرض، لا وجود لرسالة معنية بنفسها. لكن فكرة الرسالة، المهيمنة على أجواء النص، كخطاب تواصلي بين شخصين، مرسل/ متلقي، تفقد مغزاها  تدريجياً كلما تقدم النص حتى تَفنى نهائياً بانتهاء النص، لتصبح، في التتمة الكابوسية، مرادفاً عميقاً للقطيعة وانعدام الأمل في التواصل. الرسالة، بعالم إكليشاتها الجحيمي، في البداية والختام، تغدو في نص ذكري تجربة في الاحتفاء بخواء اللغة. اللغة، كنظام علاماتي يدل على العالم، هي في جوهرها ـ حسب “الرسائل” ـ  غياب للعالم:

     “أكتب لك بعد أربع ساعات من زمن المكالمة.الساعة الأن الثالثة صباحاً. أستعيد صوتك اثناء المكالمة بتعب يشبه السعادة، سعادة غامرة – هشة تذوب فب الفم بسهولة ويسر- مصحوبة بيأس مطلق مفاده أنني هنا وأنت هناك دون أن تعني تلك الحقيقة شيئاً آخر وراءها،حقيقة لا هي عادلة ولا هي ظالمة.أعددت نفسي للمكالمة قبل شهرين، وعندما جاء صوتك علي التليفون تعثرت في فمي الكلمات، وظهر في الحال العداء بين الوقت والرغبة. تخيلت أن إهدار زمن المكالمة في صمت هادىء ـ يتخلل بدعة مسافات بين الكلمات كما كان يحدث بيننا في زمن آخر ـ سينفي ضيق الوقت.. وبينما كانت الرغبة في اتساع دائم كان الوقت في ضيق مستمر”.

     هذه الخيانة لالتباس الطريقة السردية بمغزاها الدلالي، تتخذ وجهاً آخر في “مرآة 202”. تحضر تقنية “اليوميات”، في مقاطع صغيرة منثورة،  متباعدة لأنها مكتفية بالرابط الوحيد الممكن: وحدة الذات المنتجة، قبل أن تلتئم في قسم ثانٍ، بنفس قوامها الأول على وجه التقريب، لكن بروابط خافتة، تجعل من النويات المتباعدة نصاً سائلاً متماسكاً، وتُحيل الذات المتماسكة ذواتاً عديدة متشظية داخل خطاب السارد.

      اليوميات شكل آخر، ينتمي للسرد لكنه ليس خطاباً جمالياً أدبياً. هو أيضاً شكل ملتصق بالحياة، بالواقع اليومي، وربما عمل وقائي للذاكرة. وعلى العكس من الرسائل، لا تُكتب اليوميات ليقرأها الآخرون. المنتج والمتلقي هنا هما الشخص نفسه، لذا، فجوهر كاتب اليوميات هو في ظني افتقاره للطموح، بل ودعمه لهذا الافتقار، بحرصه على صقله. اليوميات إذن هي كتابة العزلة التي يعيد ذكري استثمارها في هذا النص، بغية تفكيكها. اليوميات ستكتسب الحبكة الروائية في القسم الثاني من النص، لتصبح نصاً ينتمي لشفرة الخطاب الأدبي الجمالي، وحيث نواجه غرابة تحول شكل إلى شكل آخر، متخلياً عن خواصه.

     في “الخوف يأكل الروح” و”لمسة من عالم غريب”، يتجلى الشغف بالحبكة البوليسية. على نفس النهج، ستُفضي الحبكة البوليسية المُشبعة في بنائها ونسج خيوطها لذروة عدم الإشباع، كل ما يتم التمهيد له وتعبيد الطريق السردي ليحيل إليه، ينهار، بالضبط في اللحظة المهيأة لتتويجه. وبالتوازي، يحضر المنطق في قمته “لعبة الإحصاءات الرياضية والتوازيات الزمنية” ليؤكد على العبث.   

   وفي المحصلة، نحن أمام لعبة كبرى تمارسها رواية مصطفى ذكري، تُخاصم فيها تعميق الثنائيات من أجل تذويبها بحسم. تنتفي الحدود بين لغة الاتصال ولغة الاكتفاء والانكفاء، بين المهجور الموروث والحالي القائم، بين الشخصية القابلة للتصديق والتي هي، في الوقت نفسه، شخصية يستحيل العثور عليها في الواقع. بل إن العالم الروائي هنا يذهب لأكثر اقتراحاته جنوناً، عندما يساوي بين الزمن، في سيولته ووجوده القهري، وبين انتفاء الزمن تماماً، حتى يُهيأ لك أنك تتحرك في دائرة مغلقة، توحي بالتقدم في الحدث، بالانتقال من نقطة لأخرى، لتكتشف أن كل شخصية فنية هي في حقيقة الأمر شخص يركض في مكانه.

     التشييد هنا يساوي بالضبط التقويض، ففضلاً عن الاستبعاد القيمي أو الأخلاقي لثنائية الهدم والبناء/ الموجب والسالب، يبدو فعل التشييد شديد الإخلاص لذاته، وكذلك يُخلص معول الهدم لجماليات المحو. هناك دائماً في روايات ذكري حكاية جرى تأسيسها جيداً، بحبكة رئيسية مغلقة تغذيها حبكات فرعية، بشخصيات رئيسية وأخرى ثانوية حُسِبت مساحات وجودها بعناية. في ظل هذا الإخلاص للبنية، يحضر الإخلاص لتفتيتها وتذريتها.

 ليس من الصعب العثور على إجابات محتملة، غير منتهية للسؤال “لماذا؟”، لكن اللعبة الأصعب هي الكيفية، حيث يتحول الشئ لنقيضه، بسلاسة ويسر، فاتحاً باب الشك العميق على حقيقة ما يمكن أن ندعوه بالمتناقضات أو حتى الثنائيات.

      يتحول كل احتشاد، كطرف انطلاق، تدريجياً، إلى طرفه النقيض عند الوصول. تتحرك اللغة كالبندول بين حدين نقيضين نظرياً،  لغة الكلام المبذولة، ولغة الكتابة المهجورة، وبينهما جسر يمتزج عنده الخطابان على مستوى المقطع الواحد، بل والسطر. تذهب اللغة التداولية، العامية في أشد أشكالها مجانية وابتذالاً وحضوراً في الواقع، إلى أبهة اللغة القاموسية وصعوبتها، لغة “التراث” المسجوعة الفخمة في أقسى تجلياتها اغتراباً عن “الفهم”. هكذا تتحقق مستويات اللغة في العالم الروائي لذكري (ليس كأداة فحسب، بل وكموضوع)، مختبرةً، في ظني، ليس فقط حضور اللغة في العالم، لكن، وبنفس القوة: غيابها فيه.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم