ما لم تمسسه نار

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الحمراوي

استيقظ من نومه ، أبصر النيران من حوله تلتهم كل شئ ؛ بذلاته الغالية ، ربطات عنقه الأنيقة ، أحذيته اللامعة ، السّاعات السويسرية ، والعطور الباريسيّة ، بل وحتّى اللوحات التي اشتراها بمبالغ باهظة ، لتزيّن حائطه ، سقطت كلّها كذلك ، الواحدة تلو الأخرى ، في فم النيران التي لا تشبع  . 

تدحرج متثاقلاً إلى حافة الفراش الذي لم تمسسه النار بعد ، باحثاً عن خُفّيه ، أراح قدميه في فردتيه ، ضامًّا إياهما إلى حافة الفراش الآمنة . التي باتت تمثّل الآن حدود عالمه الناجي من النّيران ، وإن يكن لبرهة من الوقت .

ألقى نظرة غائمة على (الكومودينو) ، مفتّشاً بعينين نصف مغمضتين عن علبة سجائره التي تركها بالأمس كاملة العدد ، إلا سيجارة واحدة ، دخّنها قبل أن يخلد إلى النوم ، فيستيقظ وسط هذه النيران .

لكنّه لم يُبصر سجائره أو القدّاحة الذهبية التي أهدتها له زوجته ، قبل أن تهجره لتتزوّج من إبن عمّه .

ألسنة اللهب المتصاعدة تُضعف الرؤية ، وتُخضع عينيه المستيقظتين لتوّهما لسطوتها .

إمتدت يده على إستحياء إلى سطح الكومودينو عابثة بين كومة من الأشياء التي لا يذكرها ولا يذكر حتّى متى وضعها في هذا المكان ، حتى تعثّرت في علبة سجائره بينما سقطت القدّاحة أسفل الكومودينو .

لا يهم ، لقد كان يكره هذه القدّاحة على كل حال ، لتحترق هي وصاحبتها في هذا الجحيم .

سحب سيجارة وبينما يفكّر في كيفية إشعالها ، لمح النيران تتسلل صاعدة عبر أرجل (الكومودينو) ، فاقترب منها حتى تمكّن له إشعال سيجارته أخيراً .

نفث دخانها فتشكّل الدخّان على هيئة جنّي ، مارد عملاق ، يخيّل إليه أنه قادر على أن يُطبق السماء فوق الأرض ، أو أن يبتلع هذه الشقّة ، بل البناية بأسرها دون أن يحتاج إلى شربة ماء .

قال المارد :

– إن قلت كن سيكون .

قال :

– فليكن كوباً من القهوة .

نظر المارد حوله فتتبع نظرته بدوره محاولاً إدراك ما يرمي إليه المارد الدخّاني ، وحين عاد ببصره إليه وجده ممسكاً بفنجان القهوة بيده الضخمة ، مد يده ليتناوله ، لكنّ المارد سكب الفنجان فوق ألسنة اللهب فكانت كقطرة ماء سقطت فوق المحيط . ثم نظر إليه المارد وهز كتفيه وزم شفتيه وهم بالإنصراف ، لكنّه استوقفه :

– انتظر ، ماذا أفعل الآن ؟

بسط المارد ذراعيه أمامه فارتفع الفراش عن الأرض لسنتيمترات . فارتعد ، وألقى بجسده فوق عارضة السرير الخشبيّة ، وتشبّث بها بكلتا يديه .

لم يداهمه هذا الخوف حين التهمت النيران كل ما حوله ، لكنه ارتعد حين اهتز الفراش الذي يحمله ، حين بلغ التهديد مساحته الخاصة .

– ماذا تفعل ؟

رفع المارد ذراعيه بحركة تدريجيّة بطيئة ، فارتفع معها الفراش حتى بلغ سقف الغرفة ثم اخترقها كأنه سقف من الدخّان ، سقف من الوهم .

ولمّا عاود النظر إليه وجده يرفع ذراعيه أكثر فيحلّق الفراش في السماء . مجاوراً الطيور الهائمة بلا هدى في سماوات يخنقها الدخان بحثاً عن مأوى جديد .

لقد أُتيح له أخيراً أن يرى ما لم يره قبلاً ؛ لم تكن شقّته التي احترقت ، بل البناية بأسرها ، الشارع الذي مشت فيه سيّارته الـ BMW ، وسيّارته الـ BMW نفسها كذلك ، البناية التي يسكنها صديقه الوحيد ورفيق عبثه ، وتلك – المتواضعة – التي سكنتها زوجته بصحبة زوجها الجديد ، مقرّ عمله ، والبار ، والسينما ، ومدرسة إبنه .. لم تكن شقّته التي احترقت ، بل قطعة منّه ، بل إن روحه قد تفحّمت وتصاعدت أبخرتها حاملة رائحتها ، رائحة روح متفحّمة ، روح مظلمة ، جاهد صاحبها في أن يُبقي جسده بعيداً عن النيران ، دون أن يدرك أن النيران لم تذر له سوى جسد بارد بلا روح ، بلا حياة .

كيف نشبت هذه النيران وأحرقت كل شئ دون أن يشعر حتّى بها ؟ كيف بقي نائماً ، مستمسكاً بفراشه ، بمساحته الخاصّة ، فيما تحترق الحياة من حوله وتسقط في أعماق هذا الجحيم الذي يبتلع الجميع دون تفرقة ؟

ثم تساءل بصوت مسموع :

– ألم يكن بالإمكان تفادي هذه النيران ؟

ما إن نطق جملته الأخيرة تلك حتى هوى به الفراش نحو الأسفل ، مخترقاً طبقات الهواء والدخّان والندم ، حتى إصطدم بالأرض فتحطّم فراشه إلى أشلاء .

حينها إنتفض من نومه فزعاً ، ينظر حوله فلا يرى شيئاً من النيران التي لا تزال سخونتها تُسيل العرق على جبهته .

أحس بحركة من حوله فالتفت ، فإذا بالمارد الدخّاني المنبعث من سيجارته الملقاة بإهمال في منفضة السجائر واقفاً في مواجهته ، يحمل بيده الضخمة فنجان قهوة .

نظر إليه محاولاً إستيعاب وجوده ، بينما تحضره ذكرى ظهوره الأول ، لكن المارد قدّم له فنجان القهوة هذه المرة وهو يقول :

– إن قلت كن سيكون .

قال وهو يجهد في كبح جماح انفعاله :

– سيكون .

وأمسك بما تبقّى من سيجارته فأطفأها.

ـــــــــــــــــــــــــ

محمد الحمراوى –  قاص – مصر 

مقالات من نفس القسم