تدحرج متثاقلاً إلى حافة الفراش الذي لم تمسسه النار بعد ، باحثاً عن خُفّيه ، أراح قدميه في فردتيه ، ضامًّا إياهما إلى حافة الفراش الآمنة . التي باتت تمثّل الآن حدود عالمه الناجي من النّيران ، وإن يكن لبرهة من الوقت .
ألقى نظرة غائمة على (الكومودينو) ، مفتّشاً بعينين نصف مغمضتين عن علبة سجائره التي تركها بالأمس كاملة العدد ، إلا سيجارة واحدة ، دخّنها قبل أن يخلد إلى النوم ، فيستيقظ وسط هذه النيران .
لكنّه لم يُبصر سجائره أو القدّاحة الذهبية التي أهدتها له زوجته ، قبل أن تهجره لتتزوّج من إبن عمّه .
ألسنة اللهب المتصاعدة تُضعف الرؤية ، وتُخضع عينيه المستيقظتين لتوّهما لسطوتها .
إمتدت يده على إستحياء إلى سطح الكومودينو عابثة بين كومة من الأشياء التي لا يذكرها ولا يذكر حتّى متى وضعها في هذا المكان ، حتى تعثّرت في علبة سجائره بينما سقطت القدّاحة أسفل الكومودينو .
لا يهم ، لقد كان يكره هذه القدّاحة على كل حال ، لتحترق هي وصاحبتها في هذا الجحيم .
سحب سيجارة وبينما يفكّر في كيفية إشعالها ، لمح النيران تتسلل صاعدة عبر أرجل (الكومودينو) ، فاقترب منها حتى تمكّن له إشعال سيجارته أخيراً .
نفث دخانها فتشكّل الدخّان على هيئة جنّي ، مارد عملاق ، يخيّل إليه أنه قادر على أن يُطبق السماء فوق الأرض ، أو أن يبتلع هذه الشقّة ، بل البناية بأسرها دون أن يحتاج إلى شربة ماء .
قال المارد :
– إن قلت كن سيكون .
قال :
– فليكن كوباً من القهوة .
نظر المارد حوله فتتبع نظرته بدوره محاولاً إدراك ما يرمي إليه المارد الدخّاني ، وحين عاد ببصره إليه وجده ممسكاً بفنجان القهوة بيده الضخمة ، مد يده ليتناوله ، لكنّ المارد سكب الفنجان فوق ألسنة اللهب فكانت كقطرة ماء سقطت فوق المحيط . ثم نظر إليه المارد وهز كتفيه وزم شفتيه وهم بالإنصراف ، لكنّه استوقفه :
– انتظر ، ماذا أفعل الآن ؟
بسط المارد ذراعيه أمامه فارتفع الفراش عن الأرض لسنتيمترات . فارتعد ، وألقى بجسده فوق عارضة السرير الخشبيّة ، وتشبّث بها بكلتا يديه .
لم يداهمه هذا الخوف حين التهمت النيران كل ما حوله ، لكنه ارتعد حين اهتز الفراش الذي يحمله ، حين بلغ التهديد مساحته الخاصة .
– ماذا تفعل ؟
رفع المارد ذراعيه بحركة تدريجيّة بطيئة ، فارتفع معها الفراش حتى بلغ سقف الغرفة ثم اخترقها كأنه سقف من الدخّان ، سقف من الوهم .
ولمّا عاود النظر إليه وجده يرفع ذراعيه أكثر فيحلّق الفراش في السماء . مجاوراً الطيور الهائمة بلا هدى في سماوات يخنقها الدخان بحثاً عن مأوى جديد .
لقد أُتيح له أخيراً أن يرى ما لم يره قبلاً ؛ لم تكن شقّته التي احترقت ، بل البناية بأسرها ، الشارع الذي مشت فيه سيّارته الـ BMW ، وسيّارته الـ BMW نفسها كذلك ، البناية التي يسكنها صديقه الوحيد ورفيق عبثه ، وتلك – المتواضعة – التي سكنتها زوجته بصحبة زوجها الجديد ، مقرّ عمله ، والبار ، والسينما ، ومدرسة إبنه .. لم تكن شقّته التي احترقت ، بل قطعة منّه ، بل إن روحه قد تفحّمت وتصاعدت أبخرتها حاملة رائحتها ، رائحة روح متفحّمة ، روح مظلمة ، جاهد صاحبها في أن يُبقي جسده بعيداً عن النيران ، دون أن يدرك أن النيران لم تذر له سوى جسد بارد بلا روح ، بلا حياة .
كيف نشبت هذه النيران وأحرقت كل شئ دون أن يشعر حتّى بها ؟ كيف بقي نائماً ، مستمسكاً بفراشه ، بمساحته الخاصّة ، فيما تحترق الحياة من حوله وتسقط في أعماق هذا الجحيم الذي يبتلع الجميع دون تفرقة ؟
ثم تساءل بصوت مسموع :
– ألم يكن بالإمكان تفادي هذه النيران ؟
ما إن نطق جملته الأخيرة تلك حتى هوى به الفراش نحو الأسفل ، مخترقاً طبقات الهواء والدخّان والندم ، حتى إصطدم بالأرض فتحطّم فراشه إلى أشلاء .
حينها إنتفض من نومه فزعاً ، ينظر حوله فلا يرى شيئاً من النيران التي لا تزال سخونتها تُسيل العرق على جبهته .
أحس بحركة من حوله فالتفت ، فإذا بالمارد الدخّاني المنبعث من سيجارته الملقاة بإهمال في منفضة السجائر واقفاً في مواجهته ، يحمل بيده الضخمة فنجان قهوة .
نظر إليه محاولاً إستيعاب وجوده ، بينما تحضره ذكرى ظهوره الأول ، لكن المارد قدّم له فنجان القهوة هذه المرة وهو يقول :
– إن قلت كن سيكون .
قال وهو يجهد في كبح جماح انفعاله :
– سيكون .
وأمسك بما تبقّى من سيجارته فأطفأها.
ـــــــــــــــــــــــــ
محمد الحمراوى – قاص – مصر