أحمد رحيمة
أحترم تمامًا ما تعنيه الكتابة بالنسبة لكل كاتب، المختلفين عني والمشابهين لي. وقرأت وأقرأ وسأقرأ تجارب عشرات الكتّاب السابقين والمعاصرين المختلفة شديدة التباين عن علاقاتهم بها. أحترم الجميع، ولكن أريد أن أدلو باعتراف لا أقصد به الإساءة ولا التقليل من احترام أحد.
هناك من المعاصرين الآن مثلًا من يمقتها، وهو واحد من أكبر الكتاب حاليًا، ويراها عملية مقززة مؤلمة لا يفعلها إلا لأنه مجبر على ذلك، وينتج فنًا، ثم يكتب العمل التالي. وهناك من المتحققين أيضًا من يكتب كتابًا ينتشي أثناء كتابته وينشره ثم يرتعد ويكتئب ويتمنى الموت، مع أنه أنتج فنًا، ثم بعدها يكتب العمل التالي. وهناك من المعاصرين المتحققين كذلك من يعشقها ويلتزم بها ويكتب وينشر ولا يكتئب، ويكتب الكتاب التالي، بالكثير من الحب لما كتب سابقًا وما سيكتب تاليًا. وأنا أحب ذلك الأخير وأختار أن أكون مثله. وهناك الكثير من الأنواع الأخرى.
ما أريد الاعتراف به هو أني لا أستطيع كبح مشاعر الغضب نحو الذين يمقتونها ثم يستمرون في ممارستها، أو الذين يكتبون ثم يرتعدون خوفًا من كيفية تلقي العالم لما كتبوا ثم يفكرون بعدها في ترك الكتابة. أشعر بالغضب حين أرى كاتبًا يصنع فنًا ولا أراه سعيدًا مكتفيًا. إنه بذلك يهين الكتابة. كأنها قليلة لدرجة أن ممارستها وحسب لا ترضيه. وكأنها غير كافية، كأن مجرد وجودها في حياته غير كافٍ. أغضب وأنا أراه لا يدرك أي حرفة عظيمة يمارسها، ولا يستوعب أنه يملك الكون بين يديه. لو فتح عينيه وأدرك عظمة ما يفعله لما انحنى لمشاعرٍ كالكره أو الحزن أو الخوف أو الندم، بل سيروضها ليستخدمها في الكتابة، دون أن يقلل من قيمة صناعة الكلمة، دون أن ينحني فيصل إلى خاطرة وضيعة مثل أن يتركها، دون أن تخطر تلك الخاطرة على باله ولو للحظة واحدة. وكأنه هو الذي يمنُّ عليها باستخدامها فيملك حق تركها كما يشاء وقتما شاء. أو كأنه لا يفتخر بممارستها، فينظر إلى نفسه بدونية وهو لا يدرك أن مجرد اختياره بأن يمارسها قد رفع من شأنه بالفعل. يشعر بالدونية رغم اعتناقه لها. أليس في ذلك تقليل من شأن الكتابة؟ ألا يعتبر ذلك احتقارًا للكتابة نفسها؟
أعترف أني أنظر إلى أمثال هؤلاء بازدراء حقيقي.
كيف يستقبل العالم العمل الفني، أذكر نفسي دائمًا أن ذلك لا يجب أن يعنيني. وهذا درس تعلمناه جميعًا من الأساتذة الكبار أمثال محفوظ. لا أقول كلامًا جديدًا. أذكِّر نفسي طوال الوقت أني لن أسيطر أبدًا على أي شيء سوى لحظة الكتابة. أن أنتج فنًا عظيمًا أو أنتج عملًا عاديًا. ذلك ليس بيدي، لا أملك إلا أن أقدم أفضل ما عندي، وألا أتوقف، وأن أكون صادقًا في كل حرف. قد أكون كافكا وأنا لا أدري، والعالم لا يدري، ولن يدري إلا بعد أن أموت، مثل كافكا، وقد لا أكون. أكون أو لا أكون، ذلك لا يهم. كل ذلك لا يهم. لا يهم سوى لحظة الكتابة وحدها. لا يهم سوى الانتشاء بما أكتبه الآن وما سأكتبه بعد ذلك، وأن أحترم الصدق الذي كتبتُ به الأعمال السابقة حتى لو كنتُ أنظر إليها الآن وأنا غير راضٍ تمامًا. أن يمجدني العالم ويعطيني الأموال الطائلة، أو يرميني بالأحجار والقمامة، كل ذلك أعراض جانبية. كل ذلك ليس المغزى من ممارسة الحرفة التي أتشرف بها. لا أنكر اهتمامي بالأعراض الجانبية مثل أي إنسان، ولكني أستمر في تذكير نفسي بالسبب الأساسي، الهدف الأول والأخير، والوحيد الذي يهم حقًا: الكتابة. الكتابة وحسب.