محمد عبد الدايم هندام
“يا أنقاضي ما أجملك! كل حجر فيك حلم ببيت:
ورأيت فاطمة الليلة، حين فتحت باب بيتي، كما توقعت أن أراها: كانت تستند بظهرها إلى الجدار وترتجف. ركلتها بقدميّ، وسرت منتشية كتمثال من الشمع، سرت مسرعة خشية أن أذوب قبل أن أصل إلى غرفتي، خشية أن أراها تكشط – بانهماك- ما تجمد مني فوق الأرض”.
(فاطمة قنديل، بيتي له بابان، دار العين للنشر، 2017، ص 99)
منذ ما يقرب من عام حلمت بها، زارتني فاطمة قنديل في حلمي، استقبلتني على باب بيتها، حيث توجهت إليها لتوقع لي ديوان “بيتي له بابان” (دار العين للنشر، 2017)، فأهدتني كتابين من إبداعها، أحدهما “أقفاص فارغة”، وعندما استيقظت قررت الحصول على الرواية الصادرة عن دار الكتب خان، 2021، وحصلت على جائزة نجيب محفوظ في الآداب 2022.
تتكون الرواية من أربعة أجزاء عنونتها الكاتبة بـ:
- علبة شوكولاتة.. صدأت للأسف!
- البداية. حب وشجن وأوتار كمان.
- غرباء.. يلعبون معا البنج بونج.
- الغائب يعود في موعده. قبل بدء العرض!
عزوف البدايات:
أخصص وقتًا للرواية، يختلف في طبيعة حالتي المزاجية، وأوقات العمل والراحة، وقت الرواية يختلف عن وقت المجموعة القصصية عن وقت الديوان الشعري، استقللت القطار في موعد صباحي، وجدت مقعدًا بجانب الشباك، أغلقت بيانات المحمول كيلا أنشغل بالإشعارات والبريد، وشرعت في مطالعة أقفاص فاطمة قنديل.
ما إن بدأت القراءة حتى شعرت بعزوف، اختبرت الكتابة التي تستهل من علب الخيط والشكمجيات والشوكولاتة، عاينت كثيرا من الروايات المنبثقة من العلبة الصفيح التي تبقى في البيت، تحتفظ بعبق السكان والذكريات، هممت بإغلاق الرواية، لكن بعد عدة صفحات انجذبت كالولهان، انتهى عزوفي فورا عند الصفحة 12 مثلما انتهت شجرة الخشخاش بعدما أحرقتها أم فاطمة.
الكتابة هي الموت:-
تسير فاطمة على مهل، تتبع مسيرة أسرة مصرية، تتدحرج في مدارات الطبقة الوسطى، تصعد وتهبط، تدور في فضاء واسع يضيق بمرور الوقت، البطلة، الراوية العليمة، الابنة الصغرى للأسرة الصغيرة، آخر العنقود، التي تسير على مهل، تتلكأ كثيرا، تستمتع بطفولة عادية، لا تخلو من التعقيد، تتعايش مع رحلة طويلة لأسرتها من مدينة السويس، وصولا إلى أطراف القاهرة، الفارغة حينئذ، المزدحمة الكبيسة الآن.
فاجأني الأسلوب السردي السلس الذي تتناول به البطلة سيرتها الذاتية من الطفولة إلى اليوم، من التفتح إلى الذبول، هذا الأسلوب الذي يكشط بكل بساطة ذكريات تجمدت على حوائط البيت، كأنها جراح متمرس، يشق بالمبضع جسدًا مسجى على طاولة العمليات، يُخرج ورما متوحشا، وهو يدندن بمقطع لأم كلثوم، ويشرب شايا، تعاملت الراوية مع الأحداث مثلما تعاملت مع الأورام السرطانية التي ماتت بسببها أمها، وتركت نفسها ككرة بنج بونج، تتضاربها المضارب.
تتحرك أحداث الرواية أفقيا تارة، ورأسيا تارة أخرى، تعاين سيرة وطن، من وقت حرب 67 إلى اليوم، تهاجر البطلة من السويس، وتعيش مع أسرة تحطمت بأيدي الرأسمالية الجديدة، وأموال الخليج، والاغتراب في الوطن، والصراعات العائلية، وغيرها من القوى الباطشة التي هدمت حوائط البيت، حتى ارتفعت فوق أنقاضه عمارة شاهقة، كتبت موتًا لجيل كامل.
شجاعة الجبن:-
تتقاطع مسارات الرواية مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر، منذ وقت ما قبل الانفتاح، مرورا بالفترات الشائهة قبل الألفية الجديدة، وصولا إلى الحاضر المكتنف بغموض وريبة، تتناول فاطمة قنديل قضايا شائكة، وتتحدث عن تابوهات مصرية، بكل جرأة، وبكل وجع، تنز ألما مع كل سطر تكتبه، وكأنها تكشط من روح البطلة لتخط مسيرة شخصية مفعمة بذكريات الوحدة والاغتراب.
تتبدى ذاكرة القنوط والألم النفسي، وتداعي الذات وانكسار الروح، مع حديث البطلة عن عائلتها الكبيرة، واسرتها الصغيرة، في كل فقرة يتفكك جزء منها ليسقط في الطريق الوعر الذي سارته هذه البطلة من السويس إلى القاهرة، والمفارقة المدهشة أنها تكتب بكل شجاعة سردية، رغم أنها تقول إننا “نجبن حين نكتب، وننشر على الملأ ما عشناه“.
في أقفاص فارغة، تركت فاطمة قنديل اللغة الشعرية، نحتها جانبا، ظاهريا، لكنها لم تحل بينها وبين شعور المتلقي، فظهرت في تفاصيل حياة البطلة، رغم أنها قصتها تبدو وكأنها سرد متداع خال من القوالب البلاغية المعتادة، وثقت فاطمة أحداثا صغيرة وأخرى كبيرة، بأسلوب سردي جريء، لتكتب تأريخا عاما لملامح عصر وبيئة مصرية جرفتها تيارات هائجة، من الداخل والخارج.
تتحرك الشخوص في اتجاهات مغايرة، خطوط دائرية شكلت متاهات، تاه فيها الأب والأم، الأخ الهارب من واقعه إلى ألمانيا، والعائد ليلقى مصيره في دار مسنين، والآخر الهلامي، الذي قايض روحه وأسرته بأموال الخليج، صاحب البيت، والدادة، الزوج الأول المنتفع بالانفتاح، والثاني المضطرب نفسيا، العمة والخالة، وقبلهما الأجداد، وأخيرا البطلة التي يتحول صوتها السردي من البراءة إلى الجرأة، من الخنوع إلى التمرد، من الأنوثة إلى الذكورة، من التطلع الحالم للمستقبل، إلى القنوط واليأس، تجمع في علبة الشوكولاتة ماضيا، وتحبس روح الأنثى الحالمة في أقفاص فارغة فوق سطح بيتها، لكنها تُفاجأ باختفاء الأقفاص، وخروج الروح لتهيم في صورة إنسان مغاير تماما.
تدفق السيرة:-
وكأن الساردة قد تعمدت أن تترك الحكاية تتدفق دون أن تحبسها، أو تشذب أطرافها، أو تقوم تعاريجها، نحت خوفها، وأزاحت رعبها من وجود قارئ يقرأ ما كتبته، فقط ظلت طوال الرواية تكشط وتراقب الدم المتدفق، تغير ضمادات الجروح التي أنشبها الواقع، ونكأتها الذاكرة.
رواية السيرة الذاتية هي شكل من أشكال السرد يكشف فيه شخص واقعي عن سيرة حياته، عبر كتابة إبداعية، وتتفاعل هذه الشخصية، التي تتراوح بين الواقع والخيال في العمل، مع شخصيات أخرى، وإشكاليات اجتماعية، وفضاءات كائنة أو وهمية، من خلال أسلوب خاص، وتحدثت فاطمة قنديل في سردها معتمدة على الضمير الأول، ضمير المتكلم، فأكدت على تمثل شخصيتها حاضرة في عملها الروائي.
لم تعبأ فاطمة قنديل بالفوارق بين السيرة الذاتية بغرض التأريخ وضبط الحقائق، وبين رواية السيرة الذاتية ذات الصبغة الأدبية الخيالية، وإنما أقعدت بطلة القصة على كرسي اعتراف، تدخن السيجارة وتشرب البيرة وتربت على القطة، وتتداعى في طقس سردي اعترافي، لم يعد يهتم بالسبب والنتيجة، ولا يعبأ بما تصير إليه الأمور بعد جلسة اعترافاتها، الاعترافات التي تركت الأقفاص فارغة، وأصبحت حرة أخيرا، ترمم التصدعات، وتقوض أساسات أخرى، تبني وتهدم عبر فقرات سردية تحمل مفارقات خاطفة، تذروها الأيام خارج علبة الشوكولاتة الصدأة.
فتحت فاطمة قنديل علبة الشكولاته، لكنها لم تصلح أطرافها التي انزلق مسماراها، فظلت العلبة مفتوحة، لتخرج منها بداية الأحداث، أحداث الحب والقهر، الشجن واليأس، يتصارع خارجها الغرباء، يلعبون البنج بونج، وتنتظر الكاتبة أن يعود الغائب في موعده، قبل بدء العرض الذي يبدو أنها تعمدت أن يكون عرضا انفعاليا أناركيا تخرج بطلته عن النص.
…………………
*كاتب، صحفي حر، أكاديمي، مدرس الأدب العبري الحديث والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب، جامعة المنصورة، مصر