فبعد أن كانت مملكة من عصير التفاح نص من الخيال الخالص تظهر ماندورلا بالواقعية المؤلمة الكئيبة مضفرة بالخيال ، و خلال إعادة البعث لشخصيات الرواية التي تتآكل وتموت و تبعث في حيوات مختلفة ، يختلط الممتع بالمحزن فلا يظل المؤلم ممتع (لذة الالم ) و لا يظل الممتع محزن ( الوصول للذروة يفقد المتعة رونقها ) بعدم استمرارها الأبدي . و التفريق بين الشعور بالرضي و لذة الإشباع التام .
يقدم المؤلف إعادة حكي أو يلعب بالكتابة مستخدما العديد من العوالم الافتراضية المعروفة و يوظفها في مخيلة شخصيات الرواية او في واقعها فيعيد كتابة الأساطير القديمة و حكايات ما قبل النوم و عالم الانترنت و إعادة حكي مختلف الأفلام و شخصيات كرة القدم الشهيرة ، و عالم الأحلام ، و يبحر في خيالات متعددة فينتقل من ذهول الطفل أمام أفلام الكرتون الي ذهول الناضج أمام إبحاره في (( الفراغ السيبري )) و غرقه في بحور المعلومات اللامتناهية و هو جالس علي حافة (( وادي السليكون )) ، و يستخدم كل ما يذهب إليه البشر هروبا من واقعهم المرير و يعيد كتابته و تشكيله برؤية واقعية مريرة ، فيصبغ الخيال بألم الواقع فلا ينتصر للخير علي حساب الشر و لا يترك الشر ينتصر كما في الواقع ، بل يقدم تلك الصورة الرمادية التي تتوه فيها بين الأبيض و الأسود فلا تعرف أيهما صحيح أو أيهما منطقي او أيهما الأبيض و أيهما الأسود ، فالحس الفلسفي الخفي بين ثنايا النص ملتوي و غاضب و يرفض الإفصاح عن نوعه فقط يصرخ بألمه من مرارة الحياة و محاولة خلق عالم مواز افتراضي يمتزج بالواقع فيختلط الخيال به و تتوه بينهم ، (( الفضيلة أفضل غطاء للشياطين ، الرزيلة أفضل غطاء للملائكة )) ، (( تحليل سطحي و معلوماتي غير دقيق الحياة أكثر عمقا من ذلك )) ، الخيانة (( لا احد يقرر ان يمتلك العالم دون قليل من الخيانات ))
المتاهة في الرواية عنصر أساسي متاهة الدخول الي عالم ماندرولا الخيالي ، مدينة خيالية ابتدعها احد شخصيات الرواية ليتوه بها الجميع و تتبادل الأدوار في ملحمة محيرة للقارئ فلا يتذكر سوي من تعليقات الراوي العليم في مخاطبته المباشرة للقارئ بان هناك تبادل للأدوار يحدث ، بل يوضح أحيانا (( متاهتك تداخلت مع متاهتي )). و يقدم طقس قطع الأذن اليمني كبداية الدخول الي متاهة ماندورلا .
و يخرج في بنائه للرواية عن التسلسل الزمني للأحداث و لكن يعتمد مجموعة من القفزات الي الأمام و الخلف و يستخدم في بعض الأحيان أسلوب الكولاج فيجمع قصاصات إعادة حكيه ليشكل جزء من الحكاية مجملة ليصل للحكاية الكلية ، و قد يربط المؤلف عقدة الحكي ليعيد فكها و ربطها من جديد و تتعقد كأنها خيط فار من بكرة غزل ، لتخرج حكايته متاهة أو إعادة غزل للكثير من الحكايات او يتعقد غزل الحكاية من المؤلف ، ليوضح (( الأمور ليست بتلك البساطة و ان الخيارات المعقدة تحرمنا أحيانا من السيطرة علي الحياة )) فبينما الواقع ملئ بالصدف لا يسمح للخيال بارتكاب الصدف لأنه وقتها سيصبح خيال غير واقعي فالصدف تحدث في الواقع فقط و لكنه يستخدمها في الخيال ليكسبه بعض من الواقعية فالفرق بين الحقيقة و الخيال ان علي الخيال ان يكون معقولا و منطقيا حتي تستطيع تصديقه و لكن الواقع غير معقول فعندما يكسب الفخراني خياله لا معقولية يعطيه حسا واقعيا .
و كثيرا ما يستخدم الراوي العليم ليبرر ما يقوم به شخصيات الرواية او يوضح شئ ما او يذكره بإبدال الأدوار او بأصل الحكاية بل يصل الي ان يخبر القارئ (( اختر التعبير المناسب او اخترع واحدا مناسبا )) ليصنع تبادلا معرفيا بين القارئ و نص الرواية فيمنح فرصة اختيار اللفظ المناسب او (( لا يمكن التحكم في شخصيات روايتك )) ، او علي لسان الماما (( لا تأخذ الأمور بحساسية نحن فقط نلعب )) . أو ان يتحدث عن المبرر الدرامي الذي يفتقد للمنطق و القوة (( فيما بعد سأعرف ان الحياة لا تستلزم تنقلاتها أسباب درامية مقنعة ، فالهواجس ، الظنون ، الحر الشهوة ، الملل ، الصدفة ، الغرور ، الصداع ، الرغبة في الخلود ، لدغة بعوضة ، كلها مبررات قادرة علي تحريك الإحداث ، رغم انها أيضا مبررات درامية غير مقنعة )) .(( الكتابة هي الفعل الأكثر وقاحة في العالم لا يجيده سوى السفلة و الغرباء ))(( لا احد يعي ما يفعل عندما يخط فكرة في كتاب أو مخطوطة ))
الوحدة و الاكتئاب يستخدم كثيرا صور الوحدة مع جو من تأمله العنكبوت و معاركه مع الأشباح و بناء بيته و هدمه و طوابير النمل و معاركه لاصطياد فرائسه ، او في نصه (( فصادق الوحدة لأنها الشخص الوحيد الذي بإمكانه ان يصادق شخصا بلا هيئة . لكن أحيانا تتجلي الوحدة رغم لطفها و طيبتها – كشخص خائن )) .
يستخدم في كثير من الأحيان مفردات لغوية خاصة يستفيد بثراء العامية المصرية للتعبير عن مفردات (( فجة )) او بتعبير ألطف سوقية و ان كان استبدلها في كثير من الأحيان بألفاظ منتقبة أفقدت المفردة رونقها العامي فاستبدل ( كس ) ب ( فرج ) في عدة مواضع ( فرجها الجائع الذي يبتلع العالم ) بينما في بدايات الرواية كان يحتفظ برونق العامية في مفردات معينة ( سرتنة – ضرب العشرة – بضينة – و غيرها الكثير ) توظيف تلك المفردات كان موفق لحد كبير و لكن استبدال تداولها العامي المعروف بتفصيحها في بعض المواضع كان موصل للمعني دونما متعة استخدام اللفظ في ذاتها ، تلك المفردات ذات المدلولات الجنسية او (( مصطلح محظور في الحديث العادي مع أشخاص من طبقة اجتماعية معينة او ذوي مسئولية اكبر او يخجل من استخدامها أمام محارمه )) يستخدمها بتلقائية في إطار لغة جميلة ، فلا تكون تلك المفردات خارجة عن السياق و لا تكون صادمة بل تتسق مع موضوع الحكي التي استخدمت من اجله خاصة في تبادل الأدوار بين الحوريات و العاهرات او في وصف متعة راهبة الاكورديون او في وصف الماما او غيرها من المواضع المختلفة .الي درجة تسمية احد الفصول ( الطرطرة )
وإعادة الحكي او إعادة الكتابة لحكايات الأطفال و التي استخدمها كجزئية في كولاجه النصي الجزئي للرواية جزء من مشروعه العام في خلق عالم مواز و استخدمها كثيرا في مملكة من عصير التفاح أما في ماندورلا لا يكتفي باللعب علي الحكايات فيحول ذات الرداء الأحمر الي ذات الحذاء الأحمر آو ( بيتر بان ) الولد الذي لا يكبر ابدا ، او خلق مدينة ماندورلا كأليس في بلاد العجائب ، لكنه يخلق خيال جديد و متعة طفولية أخري كالفرولة التي لا تجلب الحساسية او نافورة الفاصوليا البيضاء ، مما يلعب علي حس القارئ بالحنين الي الطفولة و حكاياتها .
اللا سلطوية متمثلة في الإحداث في البحث عن الذات و التحقق و ما يريده شخصيات الرواية من ان يصبح عليه عندما يكبر و تمرده علي ما يفرضه عليه المجتمع او الواقع ، و التحرر من تابوه الدين ، فيحول الإله المغلوب ( البحار التائه ) او ( باباي ) الذي يسعي للتحرر من سجنه و بدء انتصاراته ، بل يستمر في لعبه و يعكس الأدوار في العلاقة بين التابع و المتبوع و الاله و الرسول ، ليصبح التابعين آلهة و يخلقوا عالمهم الخيالي الخاص ، آو حتي يصبح الاله تابع و التابع اله ، و تبادل الأدوار مستمر علي طول الرواية احيانا مباشرة او باستخدام حلول جو في جسد شاهر و حلول الماما في جسد راهبة الاكورديون ، أو تحول الرسول الي قائد و هكذا
ليكسر قواعد كسر التابوه (( سيدي جوجل الذي حل في كل شئ و حل كل شئ و أحل كل شئ . اغفر لي الهي ))
(( إنا اله قتلني جوجل و اتخذ مقعده فوق العرش أنا ياهو رب الأرباب سيد محركات البحث و ملك الملوك ))
او أن يستخدم نص كنص مقدس في نهاية الرواية و يمزجه بالسرد و يحدده بخط بارز للانتباه للفرق .
و يستخدم الثالوث الأب ( عبد الجبار )و الأم ( الماما ) و الابن الضال ( شاهر / جو ) . او استخدام الموت كبرزخ التراب و النار .و اعتبار الموت حلم جميل
(( فشيدت له الكنيسة و تليت له الصلوات )) . و استخدام سلطة رب العمل علي العامل في المصنع (( لكل عامل شبح موكل بخصيتيه كتهديد اذا ما قصر او تثاءب )) او استخدام الثورة علي سلطة الماما او سلطة جو فتقدم الماما الطعام و الأمان و يقدم جو الحرية و يتبعهم أهل ماندرولا بالتوالي .
او استخدام الاستهزاء بدلا من الشفقة و الاحترام (( دمعة تبلل إصبعا وسطي كعلامة استهزاء )) .
الجنس في الرواية و استخداماته ليس فقط من اجل المتعة لأشخاص الرواية و لكن كوسيلة للموت و اعادة البعث في حالة جو و علاقته بالكسندرا التي تحل له في جسد نساء فيتحول لرماد و يبعث من جديد ( تلك لعنة الكسندرا تقتله بالمضاجعة و كلما قتلته عاد .. لتقتله من جديد ))، او استخدام الجنس كعامل امتهان للمفعول به كاغتصاب الرجل ( عبد الجبار او عمه او غيره ) كنوع من كسر العين و احيانا وسيلة لكسب المعرفة التي يحصل عليها من ياهو . او كتطهر روحي (( أن النظر الي المؤخرات المهتزة ، هو نوع من الرياضة الروحية التي تطهر نفس صاحبها من الأدران المصاحبة لممارسة الحياة )) .
فمندورلا (( مدينة الغرباء و الشحاذين و المجاذيب و العشاق و الحمقي و البنات المجروحات و التافهات و كل من اختلط عليهم النداء و استسلموا للخيوط الرديئة )) تفتح متاهتها للقارئ لينضم لكل هؤلاء او ليخلق ماندورلا الخاصة به .
فتعبر ماندرولا ان متعة الحقيقة ليست في إدراكها بل في تخيل أوجهها العديدة الكاذبة و ان العالم الافتراضي الذي يصنع من اجل الهروب من الواقع ايا كان نوعه هو أيضا ليس كامل و ملئ بالأوجه المتعددة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماندورلا – رواية – دار العين بالقاهرة – 2013
ــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة