المتشحة بالفقد تطأ شظاياها

حتى أتخلى عن فكرة البيوت القريةُ والقارة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

السيد فاروق رزق

ممر معتم يصلح لتعلم الرقص، الديوان الثاني للشاعرة المصرية إيمان مرسال، يمثل نقلة حقيقية للشاعرةتنطوي على تحول إيجابي، يتضمن بعض المشاكل الفنية التي تحوط كل تحول أو انعطاف صوب المجهول.

تخلت الشاعرة هنا عن محاكاة الآخرين في البحث عن قناع جاهز للاختباء خلفه واللجوء إلى استخدام الموروث الثقافي (كتابات المتصوفة وتجارب الرمزيين والسرياليين وغيرهم) دون معرفة أو تمييز، هل هناك قسوة في الزعم أنه لم يكن في تجارب الشاعرة الأولى بحثاً حقيقياً وسعياً جاداً وراء السير في شعبان غير مطروقة، ولكن قصائدها تلك جاءت، كأغلب أعمال من انبهروا بالمحاولات الأولى لشعر السبعينات، إهداراً للطاقات الإبداعية الفعلية في أداء ألعاب لغوية وجمالية تقتفي أثر الرواد الحداثيين، وتمضي تنتقل من طريق لآخر تبعاً لمسارات خطها آخرون؟

في ديوانها الثاني، تكتشف الشاعرة قيمة الألم والمعاناة في تمزيق الأنا وفضح خطاياها وأوهامها، دون الوقوع في هوة التفجع المبتذل ورثاء النفس وتبرير الخطايا بإلقاء اللوم على الآخرين.

“سأفرغ يدي من الأكاذيب المسكنة”، هكذا يعلن الصوت المستعار “في حياد”، فهل هذا هو ما يحدث فعلاً؟ كيف يستطيع المرء أن يعيش بدون تلك الأكاذيب المسكنة؟

(من الضروري أن نشير هنا إلى أن تحليلنا لقصائد هذا الديوان لا يعتمد على أية معرفة شخصية بالشاعرة، فهي بالنسبة لهذا المقال غير موجودة كشخص، أما ضمير المتكلم في قصائد هذا الديوان فهو مجرد صوت مستعار، أو ربما قناع، نشير إليه أحياناً بلفظة الشاعرة على سبيل التبسيط، ولكن مع كل الاعتذار الواجب عما قد يثيره ذلك من خلط أو التباس غير مقصود. .)..

“من الأفضل أن أتأمل المشهد كأنه لا يخصني”

حياد المتكلمة هنا لا يمثل نوعاً من اللامبالاة، بل هو إحدى وسائل تعذيب النفس، إذ يضيف إلى قسوة تمزيق الأنا وسحق شظاياها كبحاً لجماح الرغبة في البكاء وقمعاً للتفجع والرغبة في رثاء النفس، كما أن ذلك الحياد نفسه مفتعل ومزعوم، كأنه لون من التهكم الذي تستخدمه الشاعرة كثيراً بدقة وخفاء:

“لن أخجل من ذِكر أشباحي المزمنين

وقد أتذكر التفاصيل

التي كذبت كثيراً لجعلها محايدة”

الحياد كذب يخفي تورطاً حقيقياً، إن كل شيء يخصها، ولكن الاستسلام لتلك المقولة نفسها يخفي كذباً آخر، لأن كل ما يخصها إنما يكون كذلك في لحظة بعينها، كل لحظة تحمل حقيقتها الخاصة، صدقها المؤقت ووجودها النسبي الذي يغدو في أي زمن آخر مجرد سراب، أو قناع آخر تختفي خلفه الشاعرة، حتى الألم الناتج عن فضح النفس وتعريتها وتمزيقها، أحياناً، قد يبدو محض محاولة أخرى للاختباء والتخفي.. طلاء للوجه، مؤلم، ولكنه يخفي وراءه حقيقة أكثر إيلاما:ً

 “أما بالنسبة لي

فأكاد أجزم

أنني أفضح نفسي

لأختبئ وراءها”

ما الذي تختبئ منه؟ بل، ما الذي تخفيه حتى عن نفسها؟

***

التشظي: التكفير

“لابد أن أقول لأبي

أن الرجل الوحيد الذي فتنتني من الرغبة فيه

كان يشبهه تماماً”

لماذا يأتي ذلك الاعتراف في بداية قطعة بعنوان “أفضح نفسي”؟

هل لأن الرجل الوحيد الذي “فتتها” من الرغبة فيه- فتت مفردة غريبة ودالة في هذا السياق- ذلك الرجل هو الأب، وليس آخر يشبهه تماماً. فالمسكوت عنه هنا هو تلك الجريمة التي لم تحدث، الخطيئة الأولى أو العلاقة المحرمة المشتهاة في صورتها الأولية، علاقة بدأت منذ أن رأت الطفلة، أو خُيل لها أنها رأت جماع الأب والأم للمرة الأولى. منذ أن عاينت الطفلة ذلك المشهد الأول Primal Scene وهي تشعر في قرارة نفسها أن الأم قد استولت على مكانها هي، وأنها يجب أن تموت. وما يحدث عادة هو أن تموت الأم في أحلام الطفلة، أما هنا فإن الأم قد ماتت فعلاً، ومن ثم أضحى الشعور بالذنب مضاعفاً.. فالطفلة التي تكمن وراء صاحبة الصوت تتصور أنها مسؤولة عن موت الأم وأنها قد حلت محلها مرتكبة ذلك الإثم الكبير  

: Incest

“الميتة أمي تزورني في الأحلام كثيراً

أحياناً تنظف لي أنفي مما تظنه تراباً مدرسياً

وأحياناً تعقص شعري،

بقسوة كفين مدربتين على تضفير طفلة”

الشاعرة تبدأ بكلمة “الميتة”، وكأنها تؤكد لنفسها تلك الحقيقة الأولية لكي تطمئن إلى أن كل تلك الزيارات مجرد أحلام. أما ما تفعله الأم في تلك الزيارات فهو ما ترغب فيه تلك الطفلة الكبيرة، إنها الرعاية الممتزجة بشيء من القسوة، لكي “تنظف” تلك الروح مما علق بها من أدران وتخلصها من وطأة الإحساس بالذنب. إن الأم هي القادرة على منح المغفرة ولكنها لا تفعل؛ إنها ميتة، ولكن زياراتها لا تنقطع مما يؤكد للبنت أن كل محاولاتها للتكفيرعن تلك الرغبة المحرمة، غير المتحققة أيضاً، قد باءت بالفشل، وهو ما يجعلها تشعر بأنها منبوذة ومغضوب عليها من الأب والأم.. والله ذاته،

“يبدو أن الله لا يحبني

كبرت بما يكفي لأصدق أن الله لا يحبني من قديم”..

وبالرغم من أن الشاعرة تصف ذلك الأمر بأنه ليس مهماً، فإننا نرى أن تلك هي التجربة التي تصنع ذلك الشعور المهيمن بالذنب والمهانة، شعورلا ينفيه ذلك التهكم الصريح الذي تحاول به الشاعرة أن تزعم أن كل شيء يتكرر، وأن كل شيء يعدل كل شيء، فهي تستطيع أن تصف الأب المحتضر في رقدته كواحد من جنود الأمن المركزي، وأن تعلن:

“سأفرغ يدي من الأكاذيب المسكنة

وأحرق أمام عينيه

الصلصال الذي أشكله على مقاس أحلامه”

لكن كل تلك القسوة والحياد المُدعى لا يحول دون شعورها بالحنين للزمن الذي كانت تعيش فيه في أسر صورته عنها:

“أضم شعري للخلف

حتى أشبه بنتاً أحببتها من قديم”

إنها تحب تلك البنت التي عاشت تجربة العشق الأولى مع الأب. ولكن البنت الصغيرة التي تحن إليها، وإلى أن تعود فتكونها، هي التي عانت تجربة التفتت الأولى ،هي التي كان يحبها الأب، ولكنه لم يستطع أن يكون لها، فهي تلومه على تلك الرغبة الخفية التي لم تصارح بها حتى نفسها، وتلومه على رفضه لها.

لم يحدث شيء “ليس هناك ما يستحق غفرانك إذن” ولكن الذنب قائم والحرمان الذي عانت منه تلك البنت الصغيرة يظل ظمأ دائماً لا ري له، فكأن هناك عوداً أبدياً لتلك التجربة الأولى.. للرغبة، والحرمان والشعور بالإثم، ومحاولة التكفير عن الذنب الأصلي بارتكاب العديد من الآثام البديلة، ومن ثم تجد المبررلاحتقار الذات وتعذيبها.

ولعل تلك المازوكية تنطوي على قدر من السادية أو الرغبة في تعذيب الآخرين والانتقام منهم، حتى ولو بمجرد الكراهية، تلك الكلمة الأثيرة لدى الشاعرة، إذ تتكرر كثيراً في هذا الديوان بشكل يكاد يفقدها قيمتها الأصلية.كأنها محاولة للتأكيد على عدم الحاجة للآخرين، جزء من “تمارين الوحدة” كما تسميها الشاعرة، لكن ذلك الزعم أوالتأكيد يبدو قناعاً يخفي وراءه نداء صامتاً ومناجاة حارقة ورغبة في التواصل تؤدي بصاحبتها، أحياناً إلى استجداء المحبة والتواصل حتى لو كان الثمن ابتذال النفس وتقديمها للآخرين بلا ثمن، شيء:

“لن يفهمه أبداً

من لم يضطروا لسرقة حنان الآخرين”

إنها، مرة أخرى، كأبيها تحمل

“طفولة حرمت من الذهاب

إلى مدينة الملاهي”

ولكنها، على العكس منه، لا تحمل إيماناً، بأن هناك ثمة تعويض أو مكافأة قد تنالها إذا ما تحملت ذلك الغبن، بل هي ترى الحرمان كعقاب تجاهد كي تبرره بأفعالها.

وإذا ما كان الأب/ الإله قد أنكرها وحرمها من محبته، فإنها سوف تفعل ما يجعلها تستحق ذلك الحرمان، انتقاماً منه، وفي نفس الوقت إثباتاً لهويتها التي صارت الآن مرتبطة بذلك الإثم، حقيقياً كان أو متوهماً، إنه الصفة التي اختارتها لنفسها، أو ربما اختيرت لها، ولكن هذه الصفة قد أضحت لا تنفصل عن حقيقة وجودها نفسه، إنها تتحقق من وجودها عبر تكرارالخطيئة وما يعقبها من شعور بالذنب ورغبة في التكفير، تكفير تم على طريقة العذاب في جحيم دانتي، أي بمحاصرة الخاطئ بالخطيئة، وتعذيبه بالتكرار اللانهائي لما ارتكبه من إثم.

إن صاحبة الصوت تختار لنفسها صورة العاهرة لكي تعذب نفسها بتكرار الخطيئة التي ارتكبت في حق الأب حين استسلمت لآخرين:

“لرجال مروا ، تحت عيني

تاركين رائحة تتحداني”

وهونفس الذنب في حق الإله؛ فقد أشركت به وأدخلت معه آلهة آخرين. فهي جومر، الزانية الأشهر في العهد القديم، والتي يصبح ارتكابها لفعل الزنا تحقيقاً لنبوءة الرب، واستعارة تكشف قبح أولئك الذين عبدوا مع الرب آلهة آخرى. إن خطيئتها هي التي تعطي للقصة التي يرويها العهد القديم دلالاتها، ومن ثم تصبح حياة الزانية أليجوري- أمثولة- تصلح للوعظ وتكشف المعنى الغامض لغضب الرب من أولئك الذين عقد معهم عقد ارتباط أبدي، ولكنهم انصرفوا عنه بحثاً عن مطامع قريبة، يعدهم بها بعل والآلهة العابرون، فكأن كل ما ارتكبت الزانية من خطيئة هو تحقيق لإرادة الرب وتنفيذاً لما قدره هو.

في مقطوعة “الصالحون لصداقتي” تعدد الشاعرة تلك المثالب والجرائم الشائعة المعروفة عن مثقفي المقاهي “مروجوا الشائعات.. الصرحاء كالقمامة.. الطيبون لعدم وجود بديل” ثم تفجؤنا بقولها:

“أشباهي،

الصالحون لصداقتي،

الذين تخلقهم من أجلي،

وفيرون هذا العام

يا إلهي

أرفع عطاياك عني”

فكأن الشاعرة لا تجد في هؤلاء مجرد أصدقاء، بل إنهم وحدهم الصالحون لصداقتها. ليس فقط بسبب التشابه القائم بينها وبينهم، ولكن لأنهم يخلقون من أجلها، إنهم أمر مقدر عليها، صفة ملازمة لها كلون البشرة وتفاصيل الجسد وملامح الوجه.. أو القناع.

***

“أن لدي حداداً يخصني

حين تندلع موسيقى أفراح مجاورة”

لعله ينبغي علينا أن نتذكر أن هذه المرأة التي تعيش حداداً متصلاً قد فقدت إيمانها بالأب وبالمطلق وبإمكانية الخروج من الممرالمعتم الذي تعيش فيه، وأن كل ما ترويه عن علاقات خفيفة، وعن حرصها على بهجة الحياة دون “… تفريغ وردة من بهجتها،/ لتليق بميت عزيز” كل ذلك التهكم الصارخ ومظاهر الاستهتار والتهتك الأخلاقي، “سأمسك يد أول شخص يقابلني” كلها مجرد مساحيق تخفي وراءها وجه امرأة لا تملك أن تفرح إلا “باتساع روحها لكل هذه المفقودات”

عنوان الديوان “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص” يعد عبارة ملتبسة تثير عدة أسئلة، فهل نحن أمام عبارة تسعى فقط لإثارة الدهشة.. والتهكم، عبر تلك المفارقة التي تجمع ما بين الخوف والغموض الذي يحوط الممر المعتم والخفة أو البهجة اللتان تثيرهما لفظة الرقص؟ أم أن تلك العبارة، “ممر معتم يصلح لتعلم الرقص”، خبر لمبتدأ محذوف هو: هذا الديوان.

فكأن الديوان نفسه هو ذلك الممر المعتم الغني بالدلالات الغامضة، ليس فقط لكون الغموض قد أضحى سمة مميزة للكتابة الحداثية، ولكن لأن هناك ثمة عتمة أخلاقية وظلمة روحية تعيش في رحاهما تلك التي جاءت لتتعلم الرقص، فلم تجد غير الموتى ترثهم:

“حيث جسدي سلة كبيرة

ترك فيها الراحلون

ما يدل عليهم”

الممر الذي تقف فيه الشاعرة لا يؤدي إلى شيء، لا يقود إلى مخرج، لا يحدث فيه غير ذلك الفعل العبثي: تعلم الرقص في العتمة، بل إن ذلك نفسه لا يحدث، إنها فقط تقبع في مكانها.. تنتظر “في يقظة كائن ينتظر انهياراً ما”، كل ما يحوطها يتصدع، “تشققات الأسرة”، ود يتعفن، وصداقات يتخثر الدم الذي يسري في شرايينها، وتحتضر، لكن لا شيء يموت، الانهيار لا يحدث، والنار المطهرة لا تندلع أبداً. العالم كله يقبع في الممر المعتم يعيد اجترار موتاه الذين لا يدفنون.

أما هي فتنفرد بأمواتها الأحياء، والأحياء الموتى، الذين يعيشون موتهم المرجأ، وتمتلأ ذاكرتها بعلب تضمهم جميعاً، تسهر مع هذه الثروة من الأموات

“فرحة باتساع روحي

لكل هذه المفقودات”

أم ترى أن المقصود هنا هو سعي الشاعرة وبحثها عن ممر معتم يصلح لتعلم الرقص، في عالم ليس فيه مكان خاص، لا تصل إليه عيون الآخرين، “عيون أكاد أعرفها/ ولكنها قادرة على القيام بالمهمة”، أي قادرة على القتل، بل ربما كانت أقدر على القتل من الـ “رصاصات” والـ “مقصات”، التي لا تملك سلطة الإدانة والحكم التي تملكها وتمارسها العيون في كل لحظة.

ولعل الخوف من الآخرين: الغرباء، الجيران، الأصدقاء، الأحباب، الأب والأم “الميتة”، هذا الخوف العصابي هو أحد الثيمات المهيمنة على الشاعرة، والتي لا تنفيها معاناتها من الوحدة، بل لعل ذلك الإحساس بالوحشة وافتقاد التواصل الحقيقي يؤكد على أن الآخرين هم دائماً بالنسبة لها أغراب وقتلة، مهما كان بينها وبينهم من شبه معرفة.. وشبه تآلف.. وشبه محبة:

“كدت أقبض على التألق

الذي ينمو في عنقك

وأثبت بالدماء

بالنهب المتواصل للعروق

عفونة الود الذي بيننا”

برغم غموض مفردتي “التألق” و “ينمو” في هذا السياق، إلا أن هذه المقطوعة تظل من أكثر مواضع الديوان إضاءة على النص ككل، هي لحظة شبق عارم، تتسرب من خلاله الرغبة في الخلاص، في الوصول إلى طوق تتعلق به تلك الغارقة في لجج بحر من الزيف، من الأقنعة التي لا تكاد تستر “عفونة الود”، “الأكاذيب المسكنة”، الأحقاد التي تتجدد في كل يوم والكراهية المطمورة في داخل “جسد يتآكل ذاتياً” لـ “قطة لها أظافر امرأة محبطة”. لكن الطوق الذي تريد أن تقبض عليه هو سراب آخر، لا تملك أن تؤذيه. بل هو الذي يفعل. إنها تدرك أنه يفسدها “فعلاً”، ولكن بدلاً من ترحل عنه تنتظر حتى ينكرها هو:

لتخرج لي في كامل أبهتك

عارياً من الرغبة في

وحافياً تمشي على أعضائي”

كأنها تكرر تلك التجربة الأولى التي أنكرها فيها رجل فتنها من الرغبة فيه. إنها تكرر الذنب، لتفكر بعذابات التكرار عن تلك الخطيئة الأصلية أو ربما لاسترداد حق لم تستطع الحصول عليه في طفولتها، حين اكتشفت للمرة الأولى أنها لا تملك أن تلج أحشاء الآخرين وأن تخدش أجسادهم.. وأن تكون فاعلاً يحمل المقصات ولا يخضع “لسلطتها عليه”. وصورة المقص ترتبط في ذاكرة الشاعرة بالأم، ارتباطاً وظيفياً على الأقل، ولكنها تمثل في اللاوعي صورة رمز قضيبي يذكر بما فقد. فالأم تعقص شعر الطفلة التي كانت “دون أن تنتبه/ للمقصات التي مارست سلطتها عليه/ ولا لأطرافه المجزورة في حدة.” وكأنما الطفلة هنا تلوم الأم على ذلك الإخصاء. ومن ثم تغدو المقصات دائماً “.. وسيلة صامتة للقتل”، والشاعرة تستخدم المقصات لا الخناجر مثلاً، وتستعمل الصيغة المؤنثة، لا المفرد المذكر “مقص”، إمعاناً في التخفي وهروباً من مواجهة الصورة الأصلية للرمز القضيبي. كما أن المقص أداة للقطع.. الحذف.. الإخصاء. هل يمكن أن يرتبط هذا أيضاً بعملية تقطيع الجمل، وحذف التفاصيل، والميل أحياناً للتحكم من الخارج، والمحافظة على الحياد، أو إدعاء ذلك، وكأنها جميعاً آليات للتخفي، للإعراب عن عدم اهتمامها بالأطراف “المجزورة في حدة” وتأكيد الأنثوية المفروضة عليها، بل التباهي بها، كما يريد الذكور، ومحاولة الانتقام من السلطة المهيمنة عبر الإجادة في أداء الدور الذي حددته سلطة المقصات.. أليست هذه جميعاً أنماط من اللذة/ الألم، وما الفرق؟

 “أن تمزق طلقة من مسدس مجهول

استقراراً معتماً

تشوش عظيم

تصدّع

وارتطام شظايا ليس بينها سابق معرفة،

اللذة أيضاً

أن تنتفض مواضع الاحتكاك بمجرد التذكر”

إن الشظايا التي لم يكن بينها سابق معرفة قد بدأت الآن تكتسب تلك المعرفة المستحيلة: معرفة النفس، بكل ما تنطوي عليه تلك المعرفة من لذة وألم.

حقاً، قد يكون أمام الشاعرة الكثير كي تصبح قصائدها على قدر من الكثافة والعمق المعرفي يعادل تلك الدرجة من الصدق الموجع والتفرد الخالي من الافتعال، لكنها بالفعل قد بدأت تكتب قصيدتها.. هي، ولها أن تسعد باتساع روحها لكل هذه المفقودات.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم