إلى من يذهب المرء بين كل هؤلاء؟ ولأيهم يوجه الحديث والأسئلة؟ أكثر من 200 روائي/ة وناقد/ة جاءوا ليشاركوا في مؤتمر الرواية العربية بالقاهرة. حدث يراه البعض الأهم فيما يخص فن الرواية العربي. الروائيون/ ات والناقدون/ ات يجلسون في حلقات بساحة المجلس الأعلى للثقافة في دار الأوبرا، مشهد يظهر زخمه من اللحظة الأولى لكل مهتم بالشأن الثقافي.
يحاول الصحفيون التسلل لهذه الجلسات، تسهم في ذلك علاقاتهم الإنسانية مع المبدعين. تعلو الضحكات والصخب. هناك شيء في هذا البلد يجعل الغريب يقع في حبه من أول مرة. شيء لا أفهمه ولكنني أرى أثره. أربعة أيام من الندوات، الشهادات، الدوائر المستديرة. في الندوات يظهر الجانب الأكاديمي بشكل أكثر كثافة بالمقارنة مع الشهادات التي دائما ما تكون إنسانية تدور حول ماهية الكتابة ومحاولة الإجابة على السؤال الدائم: لماذا أكتب؟ والذي يظل الشاغل الأساسي لحضور المؤتمر. الدوائر المستديرة أكثر خصوصية، كأنها تقف في المنتصف بين الأكاديمية الجافة والإنسانية المرهفة. تظهر الأسئلة المتخصصة والدقيقة في الندوات، والتصفيقات بعد كل شهادة روائية، أما في الدوائر المستديرة، فغالبا ما تسود الابتسامات المختلطة بتقطيب جبين هنا أو اسناد رأس بيدٍ هناك.
أمر ملفت بكل تأكيد أن يكون التنظيم جيدًا.يظهر أثره في تفاصيل صغيرة معبرة. والبرد الذي يزداد بحلول الليل، لم يمنع الكثيرين من مواصلة تسامرهم حتى الحادية عشر أو ما بعدها.
الحبيب السالمي، الروائي التونسي، رأيته أول يوم يدير ندوة، يجلس في منتصف المائدة بهيئة كاريزمية وبصوت دافيء يضبط النقاش. أطلب الكلمة لأسأل، ملامحه تزداد جدية مع الأسئلة، رغم أنها غير موجهة له. رأيته في الأيام التالية، يأتي إلينا كلما لاحظ وجونا. يخبرنا أنه يحب الحديث مع الشباب أكثر من كبار السن. يجد فيهم طاقة وصدق.
تحاول لنا عبدالرحمن، اللبنانية المقيمة في القاهرة، معالجة “تنشيط حواس” الكاتب عبر لوحات تشكيلية أو مقطوعات موسيقية. تربط بين أشكال الفن بتأمل. تقول أن الكتابة ليست بمعزل عن الفنون الأخرى. توافقها صفاء النجار. التي تربط بين الأعمال الروائية والسينمائية المأخوذة عنها. يدور الجدل المعتاد حول مدى التزام السينما برؤية الرواية وإن كان يجب من الأصل أن تلتزم بهذا الأمر. فيظل محلا للجدل طالما هناك أفلام تستند على أعمال روائية.
في دائرة مستديرة، يتجادل مجموعة روائيين عن الغرائبية والفانتازيا: نائل الطوخي، أحمد عبداللطيف، طارق إمام، منصورة عزالدين وغيرهم، فيما تدير الناقدة شيرين أبو النجا، النقاش الذي يبدو عالما موازيا لما نحيا فيه.
في اليومين الثاني والثالث تتألق الشهادات: المغربي عبدالعزيز الراشدي، والجزائري واسيني الأعرج، بنظرات عينيه ونبرة صوته الحالمتين. الإردني الفلسطيني إبراهيم نصرالله، والسوداني حمور زيادة. يأتيه الأعرج خارج القاعة بنسخة من روايته “شوق الدرويش” ويطلب توقيعه عليها. يخجل زيادة ويرتبك.
يثيرااللبناني رشيد الضعيف جدلا بشهادته حول “أثر الروائي ليس سوى نقطة حبر في نهر”. يختلف معه نصرالله ويتجاذب الحضور وجهات النظر. ينتهي الأمر بتعليقات مبهمة تبعث على الابتسام، عدا الضعيف.
يخبرنا حمور أثناء الغداء، كم تردد أثناء كتابة شوق الدرويش. نتناقش حول الفرق بين اللغة الشعرية والشعر، بين الملحمة والنفس الملحمي. يأتي الجزائري سمير قسيمي ويحتضن حمور ممازحا: “لنأخذ شيء من بركاتك عسى أن يكون لنا نصيب من الجوائز.”
في المساء، بعد أن تتلو السورية سلوى النعيمي شهادتها عن تجربتها مع برهان العسل، وكيف شغلها إظهار جانب مغمور، عمدا، من تراثنا، تقول أنها حزينة لأن برهان العسل طغى على عملها الآخر “شبه الجزيرة العربية”. ترى أن مجتمعاتنا لن تتغير إيجابيا إلا عندما نتصالح مع أجسادنا. يوافقها السالمي. يتسائل بأرق: أين ينتهي الواقع وتبدأ الذات، معترفا بأنه لم يجد إجابة.
نخرج من القاعات، أجلس في حضور الناقد المغربي محمد برادة. يخبرنا بصوت خفيض عن رؤيته للكتابات المعاصرة، الجوائز، حالة النقد. تشعر بحزن متخف في إيقاع صوته، سرعان ما تنفيه نظراته الألقة من وراء نظارته، رقيقة العدسات. يتساءل شريف حتاتة في بداية شهادته: كيف يُطلب مني أن أتحدث عن تجربة خمسين عاما في 15 دقيقة.
يوم الختام، تداعب العراقية إنعام كجه جي الحضور: “وأنا صغيرة، شغلني: من سيقرأ لامرأة تدعى كجه جي؟ بالتأكيد الأسماء حظوظ، فأنا لي كجه جي، وأمير تاج السر له اسمه الساحر”. تعلو الضحكات، لكنها لا تغلب الضحكة الجهورة لصاحب صائد اليرقات.
………………….
*نشر في جريدة القاهرة