ليلى عبدالله: أغلب الاهتمامات النقدية أصبحت موجَّهة لأصحاب الجوائز والمشاريع الثقافية

ليلى عبد الله
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورها: حسن عبد الموجود

في مجموعتها الجديدة “فهرس الملوك” تشيِّد الكاتبة العمانية ليلى عبدالله عالمًا مدهشًا، لا نعرف في أي زمن يدور، لكننا نفهم ضمنيا أنه في زمن قديم، هو زمن تجبُّر الملوك. تبدو الأجواء أقرب إلى ألف ليلة وليلة، لكن ليلى تكتب صوتها الخاص وعالمها الفريد، تتقصَّى أحوال الناس المحاصرين بالجهل والخوف والبطش، وتساعدهم في التحايل بذكاء كبير على الملوك ليأكلوا ويشربوا ويعيشوا حياة مرفَّهة يحلمون بها حتى لبضع لدقائق. تنجح ليلى في إبقائنا غارقين في عالمها لا نريد أن نغادره سريعا، بل ونتمنى لو أن الكتاب يطول قليلا لنمضي معه فترة أخرى من المتعة. أصدرت ليلى رواية هي “دفاتر فارهو” حظيت بنجاح نقدي وقرائي واسع، كما أصدرت عددا من المجموعات القصصية هي “كائناتي السردية”، و”صمت كالعبث”، وأخيرا مجموعتها البديعة “فهرس الملوك” التي يدور عنها هذا الحوار.

في قصة “ليلة سقوط شهريار” تثور شهرزاد على شهريار وتأمر السيَّاف بجزِّ عنقه، وقد بدا لي أن هذه القصة تريد أن تقطع العلاقة بين مجموعتك “فهرس الملوك” وألف ليلة وليلة.. كأنك قصصك تبدأ بعد أن تنتهي الليالي.. ما رأيك؟

قصة الملك شهريار وشهرزاد معروفة ومخلدة تاريخيا، لكن نهايتها مضبَّبة على نحو ما، هناك من يرى أنهما ظلّا متوافقين كزوجين وأنجبا ذرية، وهناك من رأى أنها ظلت تروي حكايات إلى ما لا نهاية. في قصتي أردت أن أضع النهاية التي أحببتها أنا شخصيَّا. ما أردته هو أن أكسر تلك العظة التي تجعل المرأة مجرد حريم في قفص الملوك، أردت للحكاءة شهرزاد أن يكون لها تكوينها الخاص، أن تحل محل الملك وتستقوي بشخصيات حكاياتها لا لكي نظل حيَّة فحسب بل لتكسب مُلكا وقوة. وحين تقوِّض سلطتُها شهريار فهذا بمثابة ولوج عهد جديد كليا حتى على صعيد رواية الحكايات، ترويها لا لإمتاع الجنس الآخر بل لذاتها، لمتعتها الشخصية، وهذا ما ينبغي على القصص والحكايات أن تفعله. قصص ألف ليلة وليلة مبنية على الخوف والهلع من مصير محتوم، لكن فهرس الملوك هي حكايات مبطَّنة بالسخرية لشخصيات تحتال بطريقة ما على الملوك وعلى القوانين لغايات شخصية وعامة في آن.

كيف استفدتِ من “ألف ليلة وليلة” بدون أن تقلديها سواء في اللغة أو في الحكايات المتداخلة؟

سؤالك هذا يعيدني لعبارة شيخ الحكائين الروائي الروسي دوستويفسكي، حين قال عبارته الشهيرة: “كلنا خرجنا من معطف غوغول”. أعتقد أن هذه العبارة تلخص النظرة إلى الأدب بشكل عام، هناك حكاية واحدة نرويها جميعا باختلاف الأزمنة والأمكنة والشخوص، لكن ما يميِّز كل منا، نحن -كتَّاب السرد- هي بلورتها من خلال خيالنا الشخصي ومدى ما تمسُّ ذواتنا، وعلى أي نحو نريد أن نعيد صياغتها للآخرين؟ باختصار.. جميعنا خرجنا من معطف ألف ليلة وليلة، لكن خرجنا على الهيئة التي تشبهنا نحن.

غابت الأسماءُ في المجموعة تماما، كأن الناس كتلة لا معنى لها، ويمكن الاستعاضة عن أسمائهم بذكر صفات معينة لهم.. لماذا؟

ربما لكي لا تمثِّل هذه الشخصيات ذاتها فحسب، بل تمثِّل الجميع باختلاف الهيئات والبيئات، ولتكون حكاية حشود لا حكاية فرد واحد فحسب.

الروائي البرتغالي ساراماغو في روايته المهمة “كل الأسماء” يشير إلى خصوصية اسم الإنسان بقوله: “أنت تعرف الاسم الذي أطلقوه عليك، ولكنك لا تعرف الاسم الذي هو لك”.

ساراماغو يعبِّر عن ظاهرة في غاية الأهمية وهي ظاهرة الألقاب التي تمثلنا في حياتنا اليومية، ومع مَن هم جزء مِن تكويننا الاجتماعي، فنحن نحمل أسماء لم نخترها، لكن نحمل أسماء أخرى تمثّل طباعنا وجزءا من سماتنا ونشعر مع الوقت أنها تمثّل حقيقتنا أكثر من أسمائنا في بطاقة الهوية.

وقد لمست هذه الظاهرة بشدة في حرب غزة منذ السابع من أكتوبر، صارت الأوصاف الخارجية هي الحقيقة المطلقة للتعرف على الجثث المجهولة، لعل أكثر عبارة هزتني شخصيَّا هي عبارة أم يوسف وهي تعيد بصوتها المنهار أوصاف ابنها الوحيد: “يوسف سبع سنين شعره كيرلي وأبيضاني وحلو”. لماذا حشدت أم يوسف أوصاف ابنها؟ لأن هناك كثيرين يحملون الاسم نفسه، لكن لا يحملون الأوصاف عينها.

ارتفعت خصوصية الأوصاف في غزة لا الأسماء، لكي لا يكون الموتى مجرد أرقام، بل هم بشر لهم أسماء وإن تشابهت، فلهم أوصاف تُعبِّر عنهم، وأيضاً أحلام وحياة.

في عالمك فإن الملوك القدامى متباهون ومشغولون برسم لوحات تظهر ملامحهم العظيمة، أو بارتداء ملابس مختلفة، أو بتناول طعام فاخر غير مسموم.. إلخ، لماذا غابت صور الملوك العادلين، حتى حينما ظهر ملك جيد في قصة “الناطق الرسمي” كان قد مات منذ أيام؟

حين يكون هناك ملك عادل فلن يكون هناك شعب ثائر أو جائع أو ناقم. وكل الأحداث والنهايات تكون سعيدة. الصراعات تظهر والحبكات تتعقَّد أكثر حين يموت العدل في العالم!

عناوين القصص بسيطة وهي غالبا ملخِّصة لمحتواها.. لماذا؟

اخترت عناوين تُعبِّر عن روح الحكاية بعيدا عن عناوين ذات شاعرية عالية تصلح لأن تكون عناوين نصوص شعرية لا حكايات سردية. أردت من الحكايات أن تحتفظ بقالبها الكلاسيكي، كثير من القصص الجديدة تفتقد لعنصر مهم من عناصر القصة وهو الحكاية، الحكاية الممتعة والمشوقة، ذات الشخصيات الظريفة والساخرة، أردت أن أروي حكاية تُضحكني وتُبكيني في آن بعيدا عن شخصيات معقدة، وحبكات كالمتاهة.

“ذوَّاق الملك” هل هي قصة عن الجوع والشبع؟ أم قصة عن ارتياب الملوك؟

هي حكاية عن الجشع أيضا، وكيف أن خوف الملوك أيضا لا سطوتهم فحسب يمكن أن يخلق فرصا للرعيِّة، رغم أنها فرص مغموسة بالدم والموت.

يمكن قراءة “حاملو اللواء” باعتبارها قصة عن بيع الرجل المثقف لنفسه، حيث يعرضُ ما أطلقتِ عليه لقب “الخاطَّ” أفكاره للملك.. لماذا ترتبط الدونية بمن يُفترض امتلاكهم للثقافة على مدى الدهر؟

هذه القصة تحديدا تجسيد لفكرة كان قد طرحها المسرحي الألماني برتولت بريخت، ففي ختام مسرحيته “في غابة المدن” يقول: “هل بعت نفسي؟ ويأتي الجواب عن هذا السؤال قاطعا: “لا تأتي آرائي من كوني هنا وإنما أنا هنا لأن لديَّ هذه الآراء”.

ظل بريخت طوال عشرين عاما يلاحق هؤلاء المثقفين الذين يبيعون آراءهم للناس، لدرجة اخترع مفردة تعبِّر عنهم وهي لفظة “التوي” –من الالتواء – ويعني المثقفين الرسميين الذين يبيعون الأفكار الجاهزة ويتلاعبون بالكلام الأفكار والآراء مقابل حفنة من المال.

صورة بائع الآراء بوصفها صِنْو الفنان المنتِج تُعتبر هاجسا من هواجس بريخت منذ إقامته في هولندا، حيث لا يتحدث المهاجرون الذين حققوا ثروة فيها إلا بـ”الصكوك” وحيث الفنان التقدمي كما يرى بريخت لا يمكنه أن يعيش إلا إذا صار بائعا للأكاذيب كما يقول: “أقصد كل يوم، لأكسب لقمة عيشي، السوق التي تُشترى فيها الأكاذيب”.

قصة “الملك المزيف” تُحكى بضمير الأنا، على لسان شخص عيَّنه الملك بديلا سريا له حتى يأمن شرَّ أعدائه، وقد مات ذلك البديل.. فكيف استمر سرد القصة؟

نعم، في هذه القصة تم استدعاء الراوي العليم لينهي الحكاية، فالراوي بدأ الحكاية بضمير المتكلم على لسان شبيه الملك لكنه دفع حياته ثمن الحيلة التي تفاخر بها بينه وبين رفاقه.

تبدو قصص المجموعة وكأنها تنويع على خلطة الجهل وقوة السلطة.. ما رأيك؟

لطالما كان الملوك يعوِّلون على جهل رعاياهم كي يتمركزوا في السلطة والنفوذ، لذلك على مرِّ العصور نصطدم بأسماء لملوك منعوا العلم وأحرقوا الكتب والمكتبات بل وأعدموا العلماء والفلاسفة والمتنورين.

لكن حاليا في عصر الهواتف الذكية يعوِّلون على العلوم والمعارف لتبقى السيادة محتكرة لهم وحدهم، ومن خلالها أخضعوا شعوبهم، فتجلَّت سلطة الأخ الأكبر في أعظم حالاتها تجبُّرًا ومنعا.

يُقال إن العقاب من جنس العمل.. فهل حكي الحكايات يمكن أن يقود شخصا إلى السجن كما حدث للفتاة على يد أبيها الملك في قصة “وريثة العرش”؟

للكلمات تاريخ طويل في تأثيرها العميق على الحس البشري منذ عرف الإنسان لغة الكتابة باختلاف أشكالها وألغازها المعبرة، خذ عندك مثالا الفيلسوف “سقراط” الذي كان نصيبه سم “الشكران” فقد تشربه ومات، ظنا من قاتليه أن بموته تموت الفلسفة! والكاتب “عبدالله المقفع” ضُربت أصابعه حتى تشنجت، فلم تعد صالحة للكتابة، والصحفي اللبناني “سليم اللوزي” وُجد مقتولا وقد دس القتلة أصابعه في فمه بعد اغتياله، وأيضا اغتيال “غسان كنفاني”، والرسام الكاريكاتوري “ناجي العلي”.

للكلمة ضريبة مكلفة، و”ما من موهبة تمر بلا عقاب”! كما ذهب الشاعر السوري محمد الماغوط. لهذا يوم طولب بجلد الشاعر “والت ويتمان” أمام جمهرة من الناس عقابا له على ديوانه “أوراق العشب” اكتفى ويتمان يومها بالقول: “توقعت الجحيم ونلته”!

لماذا ترتبط اللعنات بالمرايا دائما كما هو الحال عندك؟

المرايا تحتمل أبعادا فلسفية كما أرى، فهي ليست انعكاسا لذواتنا وهيئاتنا الخارجية فحسب، بل هي انعكاس لعوالمنا الباطنية، وكأن في أعماقها سماتنا غير المرئية ولا يراها سوانا.

اعتدت منذ سنوات على وضع مرآة دائرية صغيرة على سطح مكتبي جنبا إلى جنب مع جهاز الحاسب المحمول، ففي أثناء الكتابة أندفع وراء عوالم شخصياتي، أتقمّصها لدرجة أتيه فيها عن روحي وعن غرفتي، عن كل ما له صلة بواقعي، ولكي أرتد للحظتي الآنية أحتاج لاستعادة نفسي من خلال رؤية وجهي، حقيقتي في المرآة: أنا هنا، من هذا العالم.. فأستعيدني.

اليوم أصبحت شاشات هواتفنا هي مرايانا، أصبحت العدسات المفلترة تعطي انطباعات مزيَّفة غير أنها مريحة لكثير منا، الجميع يريد أن يفر من حقيقته، أن يتقمَّص هيئة أخرى لا تشبهه، وهذا اندفاع إلى ما وراء المرايا.

قصة “مدونو التاريخ” عن الطريقة التي تنتشر بها الخرافة على أوسع نطاق بفضل إحكام الكذب.. هل كان هذا ما تقصدينه؟

بل هي تدفعنا إلى التشكك في التاريخ وشخوصه، فمعظم الملوك والشخصيات التاريخية كانوا أصحاب سلطة، وأكبر سلطة كانوا يديرونها هي سلطة الإعلام والتدوين، فتوثقت سيرهم من قبل الكتبة بناء على أساطير وربما على بطولات وهمية أيضا. هذه الحكاية هي دعوة للتفكير بجدِّية حول صحَّة ما وصلنا، ومدى حقيقة ما دُوِّن في متون التاريخ.

تواجه هذه النوعية من المجموعات القصصية التي تكون أجواء قصصها متشابهة خطر انصراف القارئ عنها إذا لم يحب أولى قصصها فهل كان ذلك في ذهنك؟

هناك انطباع يمثلني شخصيا حول فن القصة القصيرة عموما، أنني لا أنهيها في جلسة واحدة إلا نادرا، فكل قصة معبأة بأجواء مكثَّفة وفي حال الانتهاء منها تشعر بأنك كنت في ماراثون، لذلك تحتاج إلى استعادة أنفاسك لتنتقل إلى القصة التي تليها، فلا يمكنك الجزم حين تقرأ مجموعات قصصية أو حتى شعرية بأنك فرغت منها تماما، تظل رهين شخوصها، كلماتها إلى ما لا نهاية.

فما بالك بمجموعات قصصية ذات طابع واحد وثيمة واحدة تنهيها في جلسة واحدة. وهذا التحدي الذي وضعته لمجموعتي القصصية، أن يتواثب القارئ من قصة إلى أخرى بخفَّة وحيوية، وحين ينهيها مرة واحدة تظل هناك قصص يعود لها، ويود قراءتها مرة بعد مرة، ومن خلال بعض الانطباعات التي وصلتني مؤخراً أعتقد أنني بلغت الغاية التي أردت تماما.

كتبتِ القصة وكتبتِ الرواية ما المختلف بين الاثنتين؟ وأيهما أقرب إليك؟ ولماذا؟

أميل للحكايات الطويلة، وحين كتبت روايتي الأولى “دفاتر فارهو” انغمست في عوالمها لدرجة اعتقدت بأن الحبل السردي الذي يربطني بالقصص القصيرة قد انقطع، لكن الأمر، على ما يبدو، أكثر تعقيدا من ذلك.

ففي أثناء اشتغالي على مشروع كتابي طويل نوعا ما، أردت أخذ فسحة قصيرة، لم يكن الأمر عن قصد، لكنني وجدت نفسي أندفع لكتابة قصة وهذه القصة صارت تجرُّ خلفها قصصا أخرى اتكاءً على الثيمة ذاتها، كان أمر كتابتها مسليا وظريفا في آن. وعلى الصعيد الشخصي أسعدتني هذه العودة إلى فن القصة القصيرة.

ما جيلك عربيًا؟ ومن الكتَّاب العرب الأقرب إلى ذائقتك؟ ولماذا؟

جيلنا جيل الإنترنت، عرفنا القارئ من خلال المنتديات الثقافية، جيلنا كسر نمطًا كان متجبِّرًا لسنوات مديدة، أعني سلطة الصحف والمجلات الورقية، قُرئنا من خلال الإنترنت ومن خلالها صار لنا صوتنا الخاص وطابعنا الكتابي وقراؤنا.

وكأكثر جيلي انبهرنا بترجمة الآداب العالمية إلى اللغة العربية، لذلك معظم من هم أقرب لذائقتي كتَّاب أجانب، لكن بعد أن قرأت الكتابات العربية في السنوات الأخيرة، أحببت تجارب كثيرة من مصر والسعودية.

هل ترين أنك حصلت على ما تستحقينه من اهتمام نقدي؟

أعتقد بأن كتبي حظيت بنقاد وقراء نوعيين، فمعظم كتاباتي هي مغامرات سردية، لا أمضي على النمط الكتابي نفسه، وأجدني أميل لأسلوب الكاتب الأمريكي “راي برادبيري” حين كان يردد: “أحب أن أفاجئ نفسي أثناء الكتابة”. أحب أن أفاجئ نفسي وأفاجئ القارئ بعد ذلك. أن أكون خارج التوقعات.

روايتي الأولى “دفاتر فارهو” حظيت باهتمام نقدي كبير، ونوقشت في عدة رسائل ماجستير ودكتوراة في جامعات عربية، وللآن تحظى بمقروئية واسعة. هذا يسعدني؛ لا سيما يبدو جليَّا لأكثرنا أن أغلب الاهتمامات النقدية أصبحت موجَّهة لأصحاب الجوائز المعروفة وأصحاب المشاريع الثقافية أيضاً، أي أن حشود الجماهير والحركة النقدية أصبحت منحازة وموجهة بطبيعة الحال.

لكن في الوقت نفسه حين تكون كاتبا فحسب وتحظى كتبك بمقروئية جيدة ونوعيَّة بعيدا عن الانحيازات الشخصية والعامة فهذا انتصار كبير لنصِّك ولشخصك ككاتب.

أخيرا، ما مشروعك القادم؟

يخيفني الحديث عن مشاريع كتابية غير مكتملة. لكنني منكبة منذ فترة ليست بقصيرة على مشروع سردي يعتمد على الأرشيفات بشكل كبير.

مقالات من نفس القسم