أحمد برحال
وقد غادر الأطفال المدرسة في المساء، وفي بعض أحوال فصل الشتاء يكون الخروج تحت جنح الظلام، يهرولون هربا من أمطار السماء ورياح الجانب الغربي المبشرة بالخير، يجْرون في اتجاه سكناهم، منهم من يصل سالما ومنهم من يتعرض للسقوط في برك الماء، نتيجة عثرة في حجرة من الأحجار المنتشرة بكثرة في المكان. أبقى وحيدا لِأعيش العزلة القسرية بلذة الحكماء. أهجع إلى نفسي في محاورات تَغزرُ معانيها في لحظات، وتَشحُّ في أخرى، معانٍ تتوالد كلما امتد التفكير في الأشياء، ويزيد خصوبة إذا ارتبط بأمكنة وأشخاص بعينها، أستغل فرصة السكون لِأقبضَ على بعض الأفكار الهاربة طوال اليوم. هي لحظات تفرض إعادة قراءة أحداث مرت، أحداث بسيطة ربما، لكن إعادة قراءتها من زوايا ميتة تَبثُّ فيها حياة جديدة. في هذه الوضعيات يصبح التأمل ممارسة يومية، يجنح بالمرء في بعض اللحظات إلى منعرجات خطيرة يلقي الصعوبة البالغة في تجاوزها. تتوالد المواضيع من الحركات، من الأصوات، من السكون الذي يَعُم المكان، وأحيانا حتى من الشقوق الصغيرة التي تبدو على جدار لأول مرة تكتشف أنه بدأ يتصدع. يصبح المكان فضاء لهجوم الأفكار المنفلتة خلال لحظات النهار المليئة بثرثرة الصغار. تتراقص فوق رأسي فأعيش حالة فيلسوف اقترب من القبض على حقيقة كان يُلاحقها لفترة طويلة من الزمن، فتمكَّن أخيرا من محاصرتها في زاوية من زوايا النفس المظلمة.
أفكر في أناس يتلذذون بالنوم على الأسرة الناعمة، وغالبا ما تحضر إلى ذهني صور المسؤولين عن التعليم، فأرسم لهم حالة مَعيشٍ في اللحظة، لِأفترض أن أغلبهم تخلص من ربطة العنق وعانق اللذة في ركن من أركان العَتَمة. أستعيد شريط أحداث قديمة أثقلت ذاكرتي، فأحاول جاهدا أن أُسْقطها من رأسي، فتعيد التزاحم على مقدمته. أرفع يدي لأحك المنطقة بأصبعي، فتسيل الأحداث بغزارة تغرق ذهني في تلك الليلة لِأبيت بلا نوم. أبيتُ طائراً في سماء الذكريات، أفكر في طريقة أقطع خيوطا تَدَلَّت من الزمن الماضي، فأحاول بكل جهد أن أغيب عن المكان وأسافر في رحلة نوم، ولتكن مزعجة، المهم أن أغيب. لكنَّ الثِّقل يزداد على الذاكرة، ويستمر في إثقال وثيرة السير نحو الهدوء، وإن تمكنت من غمض الجفن فإن خيط التاريخ يبقى موصولاً بفُتحة الأحلام يمارس لُعبة الظهور والاختفاء، جيئة وذهابا بين الماضي والحاضر.
أدخل في محاورة شخصيات سبق أن احتككت بها في مسيرتي العملية، محاورات لا تشبه في شيء محاورات سقراط، أعيش لذة التساؤل ثم الافتراض، فالتحقق، لأخلص إلى نتائج لم تفدني في شيء حتى الآن على الأقل، وبالأحرى أن تفيد العالم من حولي. أدخل في نقاش بيني وبين نفسي التي تسكن جسدي، أحاورها في حقيقة الأشياء، في شكل الفضاء الخارجي، في حالة المدينة التي تركتها لأَقْبَعَ في هذا الركن المُطل على عالم الموتى. وأنا أعيش افتراضاتي، أسمع نباح كلاب متواصل، فأفترض أن غرباء عن زماننا ومكاننا دخلوا الدوار، مخلوقات من العالم الآخر قررت أن تقوم بجولة لعالمنا، واختارت هذا الوقت بالذات كما هي عادتها، اختارت الظلام. الكلاب فقط هم الذين تمكنوا من رؤيتها، ولذلك ينبحون في جنون، تكاد حناجرهم تنفجر من النباح. فهم المطلعون على حقيقة هذه الكائنات، والعارفون بأحجامهم وأشكالهم الحقيقية.
أرهف السمع ليصلني دبيب أصوات تقترب مني وتقترب، أسمعها وهي تدخل معي إلى فراشي، أطير في عالم التخمينات وأسير في دروب الطفولة، لِألتقيَ الوحوش التي قاسمتني فصولها. كلها حضرت في سماء الغرفة المظلم، “عمي الغول” بأنيابه البارزة من جوانب فمٍ مفتوح مستعدٍ لالتهام الغرفة بمن فيها وما فيها. شعر “مامة غولة” المجعد يملأ عليَّ فضاء الغرفة بأكمله يلمسني في كل الجسد على الرغم من المحاولات الجادة في دفع الخطر عني من خلال إحكام تلابيب الغطاء على كل جسدي، وعلى الرأس بوجه خاص، فهي تصيب الدماغ كما حكت أمي ذات ليلة من الليالي التي رفضت فيها النوم عندما اقتضت رَغبتُها أن أنام.
“حمو قيو” أَدْخَل الغرفة كلّها في رأسه الغليظ، وأنا من داخلها أصرخ بلا صوت، عروقي تتمزق، لتشكِّل منبع وادٍ من الدماء، تتلقف كلَّ حمولته الهائجةِ زوجتُه “قنديشة” وهي تشرب في نهمٍ غير متناهٍ، وتصرخ متعطِّشة للمزيد.
الأصوات في الخارج تتزايد وتتنوع نبراتها، وأنا في الداخل أقاوم غارات كائنات صاحبتني منذ الصغر، حالة أخرجتني من زمان الأرض إلى واجهتها الخلفية، عشت بِحقٍّ تجربة مغادرة الأرض إلى عالم ما وراء الأرض، قاومت في معركة خارقة رغبتهم في جَرّي إلى باطنها.
وفي لحظة من اللحظات، حاولت استجماع ما بقي في جسدي من بقايا شجاعة، وحاولت في خوف أن أطل على الخارج من النافذة الصغيرة، عبر الشباك الحديدي الرقيق لأكتشفَ أن كل شيء في المكان يعوي، أصوات تتشابه وتتناغم، الرياح الدائرية الهوجاء تلعب بأشياء المكان وتعزف معزوفتها الأسطورية اللامتناهية، وحتى أشجار الأوكاليبتوس المحيطة بالبناية المعزولة تزيد من وحشة أصوات الخارج عندما تشارك هي الأخرى في رقص متواصل وإن كان ذلك بغير إرادتها، فالرياح تُجبر عناصر الطبيعة على الانسياق لرغباتها. أعيد النظر إلى الخارج مرة أخرى، فيعتريني يقين أن كل أشياء المكان لها رغبة في الافتراس.
أعود إلى مكاني في محاولة أخرى للنوم، ومحاولة الغياب عن المكان، فتهجم على الإحساس كائنات غريبة الشكل والسلوك، تقوم بحركات الذهاب والإياب في منطقة ضيقة وهي تستعد للهجوم على أول كائن يأتي في طريقها، وإن لم تجد ستتحول معركة إثبات الحق في التواجد بالقوة بين عناصرها إلى احتفال بطعم الدماء.
تزورني أفكار، أنسج بها حكايات، أغذي بها خوفي، لأسافر في عالم الخوارق.
وغالبا ما أستدعي الصور الذهنية التي نسجتها عن الأشياء والأماكن لمّا كنت طفلا، ربما للتشابه الكبير بين المكان والمكان، بين الحدث والحدث. تطلُّ عليَّ شخصيات خرافية من بين شقوق النافذة فأقاوم هجومها بإحكام طبق الجفن على الجفن، ثم أندس في الغطاء حتى لا تكتشف مكاني بسهولة. لكنها العفريتة لا يغيب عنها شيء، بسرعة أجدها داخلي ترفع من سرعة الدم في عروقي. انتبهت للعبة، وتوقفت للحظات أفكر في الحدث. أسأل:
ـــ كيف امتلكت هذه الكائنات كل هذه الطاقة؟
ـــ وكيف استقر الخوف منها في نفسيتي طوال هذه المدة؟
ــ كيف تمكن هذا المخزون الخرافي من العيش داخلي كل هذه السنوات؟
أتذكر الحكاية كما قرأتها عن “عائشة القديشة” أعيد ملخصها لنفسي ثم أعيده، علها تستقر. لكنها التربية، لقد فعلت فعلتها. استقرت الحكاية التي كانت بها تخيفني أمي في الصغر، ولم تؤثر دروس التاريخ في سلوكي، كما لم تغير شيئا في بنية معتقداتي الباطنية الراسخة في كياني، وحتى عبد المجيد بن جلون من خلال مجموعته القصصية” وادي الدماء” التي درسناها في سنة من سنوات التعليم الثانوي، لم تحطم هذه الصورة الخرافية التي رسخت في جذوري رسوخا لم أستطع على الرغم من المحاولات الكثيرة والجادة التي قمت بها لإعادة بناء ذاتي من جديد. أتذكر أنه رسم لها صورة بطلة،” فعندما انتشر خبر سيطرة جيوش المستعمر على المنطقة، وتزايد عدد قتلى القرية الموجودة في الوادي، ورأت بأم عينيها تساقط أفراد الأسرة وهم يقاومون المستعمر، آنذاك قررت أن تعانق البندقية، فامتطت جوادها وغادرت إلى الغابة، فلا تظهر إلا ليلا، تصطاد جنود الغزاة ببندقيتها وتغادر مرة أخرى لتتستر عن الأنظار، وهكذا حار العدو في أمر هذه السيدة، ولم يتمكن من الإيقاع بها رغم المحاولات الكثيرة، لقدرتها الكبيرة على الاختفاء وتنفيذ المهمات بسرعة ودقة” [1]وقد أتعب أستاذ الاجتماعيات نفسه، أتذكر في حصة من الحصص، أفردها لمحو بعض ما علق في أذهان المتعلمين من الخرافة الموروثة، وقد أطال في التذكير ببطولات هذه السيدة، وحاول إفهامنا أن هذا النعت الذي لصق بها إنما هو ناتج عن البسالة التي أظهرتها في محاربة المستعمر، وعندما بدا له بما لا شك فيه أنه سيغادر البلاد ويتركها، حاول أن يشوه من صورة بعض الشخصيات وبعض الأماكن، وخصوصا المحرقة منها، وبذلك ألصق أوصافا قدحية بها، فجعل المناضلة عائشة جنية تعيش في المستنقعات، وهو في الحقيقة لم يتمكن على الرغم من الوسائل الكبيرة التي يتوفر عليها في ذلك العصر من مواجهة شجاعة وبسالة أفعالها. وقد ربط أماكن معينة بالدعارة، عندما ثَبَّتَ فيها أوكارا تمارس فيها بشكل شبه علني، حتى يحول الأنظار والفكر عن المقاومة الشديدة التي عُرف بها أهل المنطقة للمستعمر، فعوض أن تُربط تاريخيا بمقاومة المستعمر، تُرسخ في الذاكرة الجمعية للناس بما يمارس فيها من دعارة وهو تحويل لمركز الاهتمام.
عندما أستدعي العقل، أحلل بمنطق أستاذ الاجتماعيات، لكن عندما أعيش اللحظة يركب شعوري الصورة التي نحتتها أمي وجاراتها في ذهني. عندما لا نريد أن نسكت، عندما نصر على إزعاجهن وهن في حفلة رتق الكلام، هذا إذن ملخص الحكاية. وقد تمكنت مع الوقت من اقتلاع جذور الخوف القابع في ضلوعي.
تمكنت من العودة إلى الاستقرار النفسي، فوطّنت ذاتي في سيرورة المكان والزمان، وحاولت أن أضبط إيقاع أفكاري في اللحظة لِتسيرَ على سِكَّة العقل، وبكل وعي قررت أن أمسح صور الماضي من ذهني، على الأقل في هذه اللحظة حتى أترك لنفسي فرصة استراحة أخلد فيها للنوم، وليكن لساعات قلائل. المهم أن أقتطع فرصة لراحة الأعصاب. وأنا أسير إليه في هدوء تمكنت من ضبط ترانيمه اللحظة، فإذا بي أسمع وقع حوافر. اِنتفخ رأسي مرة أخرى، ولم أستطع حراكاً. كل شرور الدنيا تجمعت تخميناتٍ في رأسي. عادت من جديد صور الكائنات الغريبة لِتَستوليَ على تَنفسي، وزاد من حدة الموقف صوتٌ رخيمٌ انتهى إلى سمعي ينادي في تردد:
ـــ أسي محمد ! أسي محمد !
توقف للحظة ثم استرسل في النداء، ولمّا لم يتلقَّ إجابة، خفَّضَ من نبرته، وسمعته يُحدِّث أحداً إلى جانبه أو هُيّئَ لي ذلك.
يا إلهي! كل المحاولات التي قمت بها في سبيل التهدئة ذهبت سدىً.
لقد أقنعت نفسي قبل قليل أن ما يزورها في مثل هذه اللحظات مجرد أوهام آتية من عمق الطفولة البعيد، لكن ما يحدث الآن ليس له علاقة بالماضي، إنه فعل يحدث في الحاضر وأنا أعيش التجربة بشكل حيٍّ ومباشر على الواقع الذي تُصنع أحداثه على عيني اللحظة. هل يمكن أن أُدخل هذا في وهمٍ يزور الرأس في لحظات الفراغ؟ في تهيّؤات تحضر وتغيب؟ كلاّ. إنه المعيش الواقعي والآني والملموس، أنا في الغرفة والصوت في الخارج، والوقت ليلا من ليالي فصل الشتاء، والمكان بناية المدرسة في زاوية منعزلة من الجهة الشرقية للتجمع السكاني الصغير المسافر الآن في نوم عميق ولا أشك أنه هادئ. أنا في هذا المكان أتأرجح بين الشك واليقين، في رحلة بين الواقع وما وراء الواقع.
أتحسس نبضات الخارج مرة أخرى، وإذا بالحركة بدأت تقترب من أن مصدرها حيُّ وهي حقيقة لا غبار عليها. أقطع تنفسي لأتأكد من صحة ما تأتي به أذنايَ إلى مركز دماغي. إنه صوتٌ حقيقي، أو على الأقل كما أشعر به.
ترددت كثيراً في الاستجابة، لأقرر في الأخير بعد مخاضٍ أخذ من أعصابي الشيء الكثير أن أخرج. فحصت الوضعية بصعوبة من وراء النافذة، بسبب تحالف الظلام والرياح لم أتمكن من الرؤية الواضحة لِما يجري في الخارج. المهم استغللت شجاعةً تزورني في بعض اللحظات فركبت حُدوتها، وعزمت المغامرة وليكن ما كان.
شخصان ملثمان بمعية حمار، يحمل كلٌّ منهما حقيبة ظهر صغيرة، وعلى ظهر الحمار كيسين متقابلين، مشدودين بإحكام إلى بردعة. رأيت الأول يجلس على الأرض ويتكئ على الجدار، وقد أخذ منه العياء كل مأخذ، بمجرد ما وصل إلى الأرض نزع حذاء رجله اليسرى، فرأيته يزيل الغشاء البلاستيكي الذي حفَّ به القدم. تكهنت أنها تعرضت لجرح فلم يجد حلاًّ غير ما اهتدى إليه من وسائل وجدها أمامه، بدأ يتألم، بعدما تنهد بعمق، والظاهر أن الطريق استنزفت كل قواه.
عندما نظر إلى صاحبه، رأيت في عينيه احمرارا غير عادي، تحول بعدها إلى شعاع بَرق بشكل خاطف أنار منطقة صغيرة من جسد مرافقه، ولم أتمكن من تدقيق النظر فيها، غير أن ما أثار انتباهي تواصلهما بالإشارة التي لم أفهم معانيها على الرغم من الجهود التي بذلتها في سبيل ذلك. استرخيا قليلا فاتكأ أحدهما على الآخر، ولم يَكترِثا بوجودي. مددت يدي في محاولة لإيقاظهما، وإذا بها تلعب في الفراغ. فركت عينيَّ وأعدت النظر إلى المكان، تأكدت أنْ لا أحد فيه. تناهي إلى سمعي صوت طائر ليلي، أسرعت لدخول الغرفة وأغلقت الباب، وتأكدت من أن الباب محكم الإغلاق لِمرات عديدة، بقيت من ورائه مدة غير يسيرة، فعدت إلى فراشي بصعوبة وأنا لا أستطيع حمل رأسي.
ــ أيكون الشخصان تحولا إلى طائر ليلي؟
ــ ربما!
لكن.
أين الحمار؟
أَ يكون اتجه ناحية الجهة الخلفية من الأرض؟ أمر وارد!
……………………..