هبة حافظ
“مش احنا اللي نشكي م الهوا
ونقول تعبنا.. آه
ونقول تعبنا لا”.
صوت صباح..
ذلك الصوت الواسع منفرج الطبقات كأنه بالأساس صدى لصوت أعمق وأوسع، يقشع ليل شتاء بارد فيصيبه بالدفء، ليس كصوت فحسب بل كضوء أيضاً، ضوء ملون: أزرق السماء الصافية وأخضر الغابة العجوز، وأبيض زبد البحر ومزيج من أحمر وأصفر. أصابت تلك الألوان مع صوتها سلسلة من جبال شاهقة طويلة متصلة فأنارتها بالكامل. صوت يليق بسلسلة جبال، عندما ينزل ليقترب بلطف من صخرة صغيرة على الجبل يصدر تلك البحة التي نسمعها وتحمل مخزون الدنيا من الحنان والسلطنة والدلع.
لم أفهم صباح أو صوتها إلا بعد أن غادرت ثلاثيناتي، فصباح لا تناسب إلا النضج على أية حال، نضج التجربة أو تجربة النضج، تسمعها وتدندنها كأنك هي، واقفة هناك، صوت شامخ بنعومة وقوة التجربة وكسرة الدلع ولطافة الإحساس ومتعة عشق الحياة.
كأنك أمضيت نهارك كاملا في طبخ أكلة معقدة ببعض الطماطم والثوم والأعشاب فقط ولا تبالي بالوقت أو المجهود، صوت له رائحة اعشاب برية جبلية وله طعم “طبيخ” منزل ريفي يقبع بعيداً وحده كأنه بلا شريك.
“مش احنا اللي نرضى بالعذاب
ونقول نصيبنا آه
ونقول نصيبنا لا”
وعلى النوتة التشايكوفيسكية بألحان الرائع جمال سلامة، ولمدة أربعة عشر دقيقة تقريبا، وبداية كأنها لأوبرا روسية عتيقة أنقذها دخول الناي ليستقر باللحن في أرض عربية، شدت صباح أغنية التحدى “اتخدعنا”، كأنها تحكي فيلماً داخل الفيلم.
يتنقل بي اللحن، يحكي لي حكاية لم تسردها الكلمات، يعيش بي في حزن الخداع بضربات الإيقاع والطبل، ينقل لي كبرياء وتحامل وكسرة أنثى مخدوعة بالكمان والبيانو، واعتنقت الناي كأنه صوت العقل ليذكرها بمعاناة لم تكن له، ويمنعها من مجرد التفكير بالرجوع أو التفكير فيه من الأساس.
تعلو وتخفض طبقات صوتها كأنها تحلق بأجنحة الحكي، تحكي لنا عن قصتها وقصته، عن التائهين والليل ونجومه الدبلانين والموال الحزين، عن مباركة الزمان ومطاوعة الطريق، ومساعدتهم لها ووقفتهم معها لما رأوها قد خدعت!
“اوعى تندم عليه …
اوعى تحن ليه…
خسارة دمعة واحدة
الغالي بس هو اللي بيبكوا عليه”
من الانسجامات النادرة السماع، أن تتشابه طبقة عند مطربة مع طبقة آلة موسيقية، فينتج عن ذلك الانسجام مزيج يلعب بنا ومعنا، هل تلك دندنتها أم الناي؟، نغمة صوتها أم أنين الناي؟
في مزيج اللعب هذا، لا تعرف صوت صباح من صوت الناي! صارا واحدا في اللعبة، تفتتح وتنهي الحكاية بذلك اللعب، صوتها والآلة نفس الطبقة، نفس الألم والآهة والوجع، لم نعرف فعليا من الذي تألم؟ ألم صباح، أم ألم الناي، آهة صباح أم آهة الناي، هل تألما معاً؟ ام تألم كل منهما حزناً على الآخر؟
“وفوت وعدي…”
بنغمة تعلو فوق شموخ الناجي، وبحة تسمعها بقلبك لا بأذنيك، تقول: لا.. لا… “لا” يليق بها الانكسار والهزيمة.. ألف لا…تنطلق في فضاء حبها غير المشروط.. وكأنها تدخرها عند اللزوم.
تتجاوز.. تمسك بيد قلبها الطيب الذي يعرف كيف يغفر ويجهل كيف يكره، توضح له طريقا لم يعرفه، زرعت به علامات إرشادية كثيرة تقول:
“لا…
خليك يا قلبي قد التحدي…
أنساه….
مش احنا….”