جابرييل جارسيا ماركيز
ترجمها عن الأسبانية : صالح علماني
دققها : سعيد حورانية
نزع الكولونيل غطاء علبة البنْ فتأكد من أنه لم يبق فيها سوي قدر ملعقة صغيرة. فتناول إبريق القهوة عن الموقد، وسكب نصف ما يحتويه من ماء على الأرض الترابية، ثم كشط بسكين محتويات العلبة ونفضه فوق الإبريق إلى أن سقطت آخر ذرات البنْ مختلطة بصدأ العلبة.
وبينما كان ينتظر غليان القهوة، شعر الكولونيل وهو يجلس إلى جانب الموقد المصنوع من لبن، وعلى وجهه تبدو مظاهر الانتظار الواثق البريء، بأن نبتات فطر وزنابق سامة تنمو في أحشائه. حدث هذا في أكتوبر. في صباح يوم من الصعب تصنيفه، وخاصة لرجل مثله عاش أصباحا كثيرة مثل هذا الصباح. فطوال ست وخمسين سنة منذ انتهت الحرب الأهلية الأخيرة لم يفعل الكولونيل خلالها شيئا سوي الانتظار، وكان مجيء أكتوبر أحد الأمور القليلة التي تمر في حياته.
رفعت زوجته الكلة عندما رأته يدخل حجرة النوم حاملا القهوة. لقد عانت تلك الليلة من نوبة ربو، وتنتابها الآن حالة من النعاس. ولكنها اعتدلت لتتناول الفنجان، وقالت:
– وأنت!
فكذب الكولونيل قائلا:
– لقد تناولت قهوتي، ومازالت لدينا ملعقة كبيرة من البنْ.
في تلك اللحظة شرعت الأجراس تقرع. كان الكولونيل قد نسي الجنازة. وبينما كانت زوجته تتناول القهوة، نزع شبكة النوم المعلقة في أحد أركان الغرفة وطواها في الركن الآخر وراء الباب. فكرت المرأة بالميت، وقالت:
– ولد سنة .1922 بعد شهر تماما من ميلاد ابننا. يوم السادس من نيسان (ابريل).
وتابعت رشف القهوة ما بين شهقات تنفسها المتقطع. كانت امرأة تبدو وكأنها مبنية من غضاريف بيضاء مسندة إلى عمود فقري متقوس وبلا مرونة. واختلاجات أنفاسها تضطرها إلى ضغط أسئلتها. وعندما انتهت من تناول القهوة كانت ما تزال تفكر بالميت فقال: ‘لابد أن دفن المرء في أكتوبر شيء رهيب’. ولكن زوجها لم يعرها اهتماما. فتح النافذة. كان أكتوبر قد استقر في البهو. فأخذ يتأمل النباتات التي كانت تنشق عن اخضرار كثيف. والأخاديد الدقيقة التي خلفتها الديدان في الوحل، ثم أخذ يحس من جديد بالشهر المشئوم في أمعائه.
****
قال
– أشعر بأن عظامي رطبة.
فردت زوجته:
– انه الشتاء. منذ بدأ المطر يهطل وأنا أقول لك بأن تنام لابسا جرابك.
– منذ أسبوع وأنا أنام بالجراب.
كانت السماء تمطر ببطء ولكن دون توقف. وكان الكولونيل يود أن يلف نفسه ببطانية صوفية ويعود من جديد إلى سريره المعلق. ولكن إلحاح الأجراس البرونزية ذكٌره بالجنازة، فدمدم: ‘يا لأكتوبر’، وسار نحو وسط الغرفة. وعند ذلك فقط تذكر ديك المصارعة المربوط بقائمة السرير.
وبعد أن حمل الفنجان الفارغ إلى المطبخ، ملأ الساعة ذات البندول المثبتة ضمن إطار خشبي مزخرف في الصالة. وعلى العكس من غرفة النوم الضيقة التي لا تناسب تنفس المريضة بالربو. فقد كانت الصالة واسعة. وفيها أربعة كراسي هزازة من الليف حول طاولة من الجص. وعلى الجدار المقابل لذلك الذي علقت عليه الساعة. علقت لوحة لامرأة متكئة وسط حرير ناعم شفاف ومحاطة بعشاق في مركب يغص بالزهور.
كانت السادسة وعشرين دقيقة عندما انتهي من تعبئة الساعة. بعد ذلك حمل الديك إلى المطبخ، وربطه إلى دعامة بجانب حفنة من الذرة. نفذت مجموعة من الأطفال من خلال السور المتشقق، وجلست حول الديك لتراقبه بصمت.
– لا تنظروا كثيرا إلى هذا الحيوان. فالديوك تتآكل من كثرة النظر إليها قال لهم الكولونيل.
ولكن الأطفال لم يرفعوا أنظارهم عن الديك، وراح أحدهم يعزف على الهارمونيكا أنغام الأغنية الدارجة ‘لا تلمسني اليوم’، فقال له الكولونيل: ‘هناك ميت في القرية’ فدس الطفل الآلة في جيب بنطلونه ومضي الكولونيل إلى الغرفة ليرتدي ملابسه ويذهب إلى الجنازة.
لم تكن ملابسه البيضاء مكويّة بسبب نوبة الربو التي أصابت المرأة. وهكذا كان عليه أن يستقر رأيه على ارتداء بدلة الجوخ السوداء التي استخدمها في مناسبات خاصة جدا بعد زواجه. وقد كلفة العثور عليها في أسفل الصندوق جهدا ليس بالقليل. كانت ملفوفة بأوراق الصحف، ومحفوظة من العث بكرات صغيرة من النفتالين. تابعت المرأة التي كانت مستلقية على السرير التفكير بالميت وقالت:
– لابد وأنه التقي مع أغوستين الآن. ويمكن ألا يكون قد حكي له عن الحالة التي وصلنا إليها بعد موته.
فقال الكولونيل:
– لابد وانهما يتناقشان عن الديوك الآن.
عثر في الصندوق على مظلة كبيرة وقديمة. كانت زوجته قد ربحتها في سوق خيري أقيم لجمع تبرعات لصالح حزب الكولونيل. في تلك الليلة ذاتها حضروا عرضا في الهواء الطلق. ولم يتوقف العرض برغم المطر الذي كان يهطل. وشاهد الكولونيل، وزوجته، وابنه أغوستين الذي كان عمره حينئذ ثماني سنوات العرض حتى نهايته، وهم جالسون تحت المظلة. لقد مات أغوستين الآن وبطانة المظلة التي هي من الأطلس قد اهترأت يفعل العث.
– انظري كيف صارت مظلتنا كمظلات مهرجي السيرك. قالها الكولونيل وكأنه يقول عبارة قديمة كان يستخدمها بكثرة. وفتح فوق رأسه جهازا غامضا من القضبان المعدنية. ثم تابع:
– إنها تنفع الآن لعدّ النجوم فقط.
ابتسم. ولكن المرأة لم تتكلف مشقة النظر إلى المظلة ودمدمت: ‘كل شيء هكذا’. ‘إننا نتعفن في الحياة’. وأغمضت عينيها لتفكر بالميت بتركيز أكبر.
بعد أن حلق الكولونيل ذقنه بالتلمس إذ لم تكن عنده مرآة منذ زمن بعيد ارتدي ملابسه بصمت. كان البنطال ضيقا وملتصقا بالساقين مثل سروال داخلي طويل تقريبا، ويغلق عند الكاحلين بعقدتين منزلقتين، ويثبت عند الخصر بلسانين صغيرين من القماش نفسه يمران من خلال ابزيمين مذهبين ومخاطين على ارتفاع الكليتين، فهو لم يكن يستخدم حزاما، أما القميص الذي كان بلون الكرتون، وبقساوة الكرتون أيضا، فانه يغلق في أعلاه بزر نحاسي، وهذا الزر نفسه يثبت أيضا الياقة المستعارة. ولكن الياقة المستعارة كانت ممزقة، لذلك فان الكولونيل تخلي عن وضع ربطة العنق.
كان يقوم بكل حركة وكأنه يؤدي مهمة خطيرة. عظام يديه كانت مغطاة بالجلد اللامع المشدود والمخطط بتفرعات العروق كجلد الرقبة. وقبل أن يلبس حذاءه ذا الكعب العالي اللامع حكّ الوحل العالق بنعله. وفي هذه اللحظة فقط رأته زوجته وهو يرتدي ملابس يوم عرسه. وعندها أدركت كم هرم زوجها.
قالت:
– يبدو وكأنك ذاهب إلى حدث هام.
فقال الكولونيل:
– هذه الجنازة حدث هام. فهذا هو الميت الأول الذي يموت ميتة طبيعية منذ سنوات عديدة.
انقطع المطر بعد التاسعة. وأخذ الكولونيل يستعد للخروج عندما جذبته زوجته من كم سترته، وقالت:
– سرح شعرك.
حاول أن يثني شعره الخشن بمشط عظم، ولكن جهده ذهب سدي.
– لابد أني أبدو كببغاء.
تفحصته المرأة. وفكرت أن لا. فلم يكن الكولونيل يبدو كببغاء. كان رجلا جافا، له عظام متينة متمفصلة كبراغ وصمولات. وبسبب حيوية عينيه فقط لا يبدو ككائن محنط بالفورمول.
‘حسن هكذا’، وافقت هي، وأضافت عندما كان زوجها يغادر الغرفة:
– اسأل الطبيب عما إذا كنا قد ألقينا عليه ماء ساخنا في هذا البيت.
كانا يعيشان في طرف القرية، في بيت سقفه من السعف وجدرانه مطلية يكلس قد تقشر. وكانت الرطوبة ما تزال منتشرة ولكن المطر كفّ عن الهطول، فهبط الكولونيل باتجاه الساحة عبر زقاق يفصل بيوتا متلاصقة. وعند وصوله إلى الشارع الرئيسي شعر برجفة، فإلى أبعد مدي يبلغه بصره كانت القرية مفروشة بالزهور. بينما جلست النساء أمام أبواب البيوت بانتظار الجنازة وقد ارتدين السواد.
عندما وصل إلى الساحة أخذ مطر ناعم يهطل من جديد. ورأي صاحب صالة البيليار الكولونيل وهو أمام محله فصرخ له وقد فتح ذراعيه:
– أيها الكولونيل، انتظر وسأعيرك مظلة.
فأجابة الكولونيل دون أن يلتفت:
– شكرا، فالحال حسنة هكذا.
لم تكن الجنازة قد خرجت بعد. وكان الرجال وهم يرتدون ملابس بيضاء وربطات عنق سوداء يتبادلون الحديث أمام بيت الميت تحت مظلاتهم. ورأي أحدهم الكولونيل وهو يقفز فوق برك الماء في الساحة فصرخ:
– تعال وانضم إلى أيها الصديق.
وأفسح له مكانا تحت مظلته.
قال الكولونيل:
– شكرا أيها الصديق.
لكنه لم يقبل الدعوة، بل دخل من فوره إلى البيت ليعزي والدة المتوفي. كان أول ما أحس به هو رائحة زهور كثيرة متنوعة. وبعد ذلك شعر بالحر. وحاول أن يشق طريقه وسط الحشد المجتمع في غرفة النوم. ولكن أحدهم وضع يده على ظهره، ودفعه نحو عمق الغرفة عبر دهليز من الوجوه الحائرة إلى حيث توجد واسعتين وعميقتين فتحتا أنف الميت.
هناك كانت الأم تهش الذباب عن التابوت بمذبة من السعف المجدول. ووقفت نساء أخريات يرتدين السواد ويتأملن الجثة وعلى وجوههن تعبير من يتأمل تدفق الماء في نهر. وفجأة انبعث صوت من آخر الغرفة. فمال الكولونيل مجانبا امرأة، ووجد نفسه بمحاذاة وجه أم الميت، فوضع احدي يديه على كتفها وضغط على أسنانه وقال:
– تعازي ومشاعري.
لم تلتفت إليه. فتحت فمها وأطلقت نباحا حادا. فذعر الكولونيل. وشعر بأنه مدفوع نحو الجثة بحركات الحشد المضطرب الذي انفجر يهتز من حوله. فبحث بيده عن شيء يستند إليه ولكنه لم يجد الجدار. فقد كانت أجساد أخرى مكانه. همس أحدهم في أذنه بصوت ناعم جدا: ‘انتبه، أيها الكولونيل’. أدار رأسه فوجد أمامه الميت. ولكنه لم يتعرف عليه فقد كان قاسيا وديناميكيا، وتبدو عليه الحيرة مثله، وهو مغطي بخرق بيضاء والبوق بين يديه. وعندما رفع رأسه فوق الصرخات بحثا عن الهواء، ورأي التابوت المغطي وهو يهتز متقدما باتجاه الباب وعليه إكليل من زهور تتفتت وهي تصطدم بالجدران. تعرّق. وشعر بألم في مفاصله. وبعد برهة عرف أنه أصبح في الشارع لأن قطرات المطر الخفيف أصابت رموشه، شدّه أحدهم من ذراعه وقال له:
– تعال أيها الصديق، لقد كنت أنتظرك.
كان هذا دون ساباس عراب ابنه الميت، والوحيد بين زعماء حزبه الذي استطاع الإفلات من الاضطهاد السياسي وبقي يعيش في القرية بعد ذلك. ‘شكرا أيها الصديق’، قال الكولونيل، وسار بجانبه صامتا تحت المظلة. بدأت الفرقة الموسيقية تعزف اللحن الجنائزي. وأحس الكولونيل بأن ثمة آلة نحاسية ناقصة، وللمرة الأولي تأكد بأن المتوفي قد مات، فدمدم:
– يا للمسكين.
تنحنح دون ساباس. وكان يحمل المظلة بيده السري، وكانت قبضتها في مستوي رأسه تقريبا، إذ كان أقصر بكثير من الكولونيل. وعندما خرج الموكب من الساحة أخذ الرجال يتناقشون. حينئذ التفت دون ساباس نحو الكولونيل بوجهه المكتئب، وقال:
– ما هي أخبار الديك أيها الصديق.
– انه هناك أجاب الكولونيل.
وفي هذه اللحظة سمعت صرخة متسائلة:
– إلى أين تذهبون بهذا الميت؟
رفع الكولونيل نظره، فرأي العمدة يقف على شرفة المركز وقفة خطابية. كان يرتدي سروالا داخليا وفانلٌة، وأحد خديه متورم وغير حليق. أوقف الموسيقيون عزفهم للّحن الجنائزي.
وبعد لحظات تعرف الكولونيل على صوت الأب أنخل وهو يصرخ متحاورا مع العمدة. وفك رموز الحوار من خلال فرقعة قطرات المطر على المظلات.
– وماذا الآن؟ تساءل دون ساباس.
فأجاب الكولونيل:
– لاشيء، ولكن لا يمكن للجنازة أن تمر من أمام مركز الشرطة.
فهتف دون ساباس:
– لقد نسيت هذا. إنني انسي دائما أننا في حالة طوارىء.
قال الكولونيل:
– ولكن هذا ليس تمردا. أنها جنازة موسيقيٌ ميت مسكين. غيرٌ الموكب اتجاهه. وعند مروره في الأحياء الواطئة تطلعت إليه النسوة وهن يقضمن أظافرهن بصمت. ولكنهن خرجن بعد ذلك إلى منتصف الشارع وأطلقن صرخات الإطراء، والامتنان والوداع، وكأنهن يعتقدن بأن الميت يسمعهن وهو في تابوته. شعر الكولونيل بالتوعك وهو في المقبرة. وعندما دفعه دون ساباس نحو الجدار ليفسح الطريق أمام الرجال الذين يحملون النعش، التفت إليه مبتسما، ولكنه التقي بوجه قاس.
سأله:
– ماذا جري لك أيها الصديق.
فتنهد الكولونيل:
– انه أكتوبر يا صديقي.
رجعا من نفس الشارع. كان المطر قد انقطع. وأصبحت السماء أعمق، وأشد زرقة. وفكر الكولونيل: ‘لن تمطر أكثر’، وشعر بأن حالته تتحسن، ولكنه استمر في ذهوله. وأيقظه دون ساباس:
– أيها الصديق، عليك أن تعرض نفسك على طبيب.
فقال الكولونيل:
– لست مريضا. كل ما في الأمر إنني أشعر في أكتوبر وكأن ثمة حيوانات في أحشائي.
‘آه!’، قال دون ساباس. ثم ودعه أمام باب منزله، وهو بناء جديد، من طبقتين، بنوافذ من حديد مزخرفة. واتجه الكولونيل إلى منزله قانطا ليخلع بذلة المناسبات. ثم عاد وخرج من جديد بعد لحظات ليشتري من الدكان الذي على الناصية علبة قهوة ونصف رطل من الذرة للديك.
****
شغل
الكولونيل نفسه بالعناية بالديك رغم انه كان يفضل قضاء يوم الخميس في سريره. لم ينقطع المطر طوال أيام. وخلال الأسبوع انبجست نباتات أحشائه. وأمضي عدة ليال في سهر متواصل، يتعذب بصفير رئتي المريضة بالربو. ولكن أكتوبر منحه هدنة مساء يوم الجمعة. وقد استغل أصدقاء اغوستين وهم معلمو خياطة مثلما كان هو، ومتعصبون لمصارعة الديكة استغلوا الفرصة ليتفحصوا الديك. فوجدوا انه في وضع جيد.
وعاد الكولونيل إلى الغرفة عندما ذهبوا وظل وحيدا مع زوجته التي بدت منفعلة. سألته:
– ما رأيهم.
أنهم متحمسون. وجميعهم يدخرون المال ليراهنوا على الديك.
فقالت المرأة:
– لست أدري ما الذي رأوه في هذا الديك القبيح. انه يبدو لي كظاهرة غريبة، فرأسه صغير جدا بالنسبة لقائمتيه.
أجابها الكولونيل:
– أنهم يقولون بأنه أفضل ديك في المنطقة. ويساوي حوالي خمسين بيزو.
كان متيقنا انه بهذه الوسيلة سيبرر قراره بالاحتفاظ بالديك، الموروث عن ابنه الذي مات مطعونا قبل تسعة شهور في حلبة مصارعة الديكة، لأنه كان يوزع منشورات سرية. قالت المرأة: ‘أن ما تقوله حلم يكلف غالىا. فعندما تنتهي الذرة سيكون علينا أن نغذيه بأكبادنا’. فكر الكولونيل طوال الوقت الذي كان يبحث فيه عن بنطاله القطني في صندوق الملابس، وقال:
– سيكون هذا لبضعة شهور فقط. فقد أصبح معروفا، بشكل مؤكد أن مصارعة للديوك ستجري في كانون الثاني (يناير) وبعد ذلك نستطيع بيعه بسعر أفضل.
كان البنطال دون كي. فمسدته المرأة فوق فتحة الموقد على صفيحتين من الحديد المحمي على الفحم.
سألته:
– ما هي ضرورة خروجك إلى الشارع؟
– البريد.
‘لقد نسيت أن اليوم هو الجمعة’، علقت وهي عائدة إلى الغرفة. كان الكولونيل قد ارتدي ملابسه كاملة ما عدا البنطال. ولاحظت هي حذاءه، فقالت:
– هذا الحذاء للرمي. داوم على لبس الجزمة اللامعة ذات الكعب.
أحس الكولونيل بالكدر. وقال معترضا:
– أنها تبدو كأحذية الأيتام. وكلما لبستها أشعر وكأني هارب من مأوي للأيتام.
– نحن أيتام من ابننا قالت المرأة.
لقد أفحمته هذه المرة أيضا. اتجه الكولونيل إلى الميناء النهري قبل أن تصفر المراكب. كان يلبس جزمة لامعة، وبنطالا أبيض دون حزام، وقميصا دون ياقة عنق مغلقا في أعلاه بزر نحاسي. وراقب مناورة المراكب وهي تحاول الدخول إلى الميناء بينما كان يقف في متجر موسي السوري نزل المسافرون منهكين بعد ثماني ساعات لم يغيروا خلالها من وضعياتهم. لقد كانوا المسافرين أنفسهم الذين يأتون دائما: باعة متجولين، وبعض أهل القرية الذين سافروا في الأسبوع الماضي وعادوا كالمعتاد.
المركب الأخير كان مركب البريد. وقد نظر إليه الكولونيل وهو يرسو بجزع قلق. واكتشف كيس البريد على السطح، معلقا بأنابيب البخار ومغطي بقطعة قماش مغلقة. فقد شحذ حسه خمسة عشر عاما من الانتظار. كما شحذ الديك أشواقه. ومنذ اللحظة التي صعد بها موظف البريد إلى المركب، وفك الكيس وألقي به على ظهره، كان الكولونيل يراقبه بنظراته.
وتابعه عبر الشارع الموازي للميناء، حيث تمتد متاهة من المخازن والباركات التي تعج ببضائع ذات ألوان استعراضية في كل مرة كان الكولونيل يفعل هذا، وكان دوما يحس بقلق مختلف ولكنه كالرعب، باعث على الترقب المتوتر.
كان الطبيب ينتظر في مكتب البريد ليستلم الصحف. فقال له الكولونيل:
– زوجتي تسألك عما إذا كان أحد ألقي عليك ماء ساخنا في بيتنا.
كان الطبيب شابا جمجمته مغطاة بشعر مجعد مطلي بمادة براقة. وكان ثمة شيء لا يصدق في دقة ترتيب أسنانه. وقد أبدي اهتماما بصحة المريضة بالربو. وزوده الكولونيل بمعلومات مفصلة عن حالتها دون أن يتوقف عن مراقبة حركات موظف البريد الذي كان يفرز الرسائل مصنفا إياها كلا في كوة خاصة. وقد أغاظت الكولونيل طريقته المتثاقلة في العمل.
استلم الطبيب رسائله الخاصة مع رزمة الصحف. ووضع جانبا النشرات الدعائية الطبية. ثم تصفح الرسائل الخاصة. وفي أثناء ذلك، قام الموظف بتوزيع الرسائل على أصحابها الموجودين. تطلع الكولونيل إلى الكوة الخاصة به في اللائحة الأبجدية. بينما كانت في يد الموظف رسالة مرسلة بالطائرة حوافيها زرقاء ضاعفت من توتر أعصابه.
نزع الطبيب مغلف الصحف. وقرأ الأخبار البارزة، بينما كان الكولونيل الذي يثبت نظره على كوته ينتظر من موظف البريد أن يتوقف أمامها. ولكنه لم يفعل ذلك. قطع الطبيب قراءته للصحف. ونظر إلى الكولونيل. ثم نظر إلى الموظف الذي جلس أمام جهاز البرق وعاد ينظر مرة أخرى إلى الكولونيل، وقال:
– فلنذهب.
قال الموظف الذي لم يرفع رأسه:
– لاشيء للكولونيل.
فأحس الكولونيل بالخجل، وقال كاذبا:
– لم أكن أنتظر شيئا والتفت نحو الطبيب بنظرة طفولية تماما، وتابع:
– ليس لي من يكاتبني.
رجعا صامتين. الطبيب مركزا اهتمامه في الصحف. والكولونيل بطريقته المعتادة في المشي التي تبدو كمشية رجل يذرع الشارع بحثا عن قطعة نقود ضائعة. كان مساء ساطعا. وأشجار اللوز في الساحة تلقي آخر أوراقها المتعفنة. وعندما وصلوا إلى باب العيادة كان الليل قد بدأ يخيم.
– ما هي الأخبار سأله الكولونيل.
فقدم إليه الطبيب عدة صحف، وقال:
– لست أدري… فمن الصعب قراءة ما بين السطور التي تسمح الرقابة بنشرها.
قرأ الكولونيل العناوين البارزة. كلها أخبار عالمية. في أعلى الصفحة، وعلى أربعة أعمدة، تقرير حول تأميم قناة السويس. الصفحة الأولي كانت ممتلئة كلها تقريبا بالنعوات.
– لا أمل في إجراء انتخابات قال الكولونيل.
فقال له الطبيب:
– لا تكن ساذجا أيها الكولونيل. فقد أصبحنا كبارا على انتظار المسيح المخلص.
حاول الكولونيل أن يعيد إليه الصحف، ولكن الطبيب اعترض قائلا:
– خذها معك إلى البيت.. اقرأها هذه الليلة وأعدها لي غدا.
بعد الساعة السادسة بقليل قرعت في برج الكنيسة أجراس الرقابة السينمائية. إذ أن الأب أنخل يستخدم هذه الوسيلة ليشير إلى النوعية الأخلاقية للفيلم استنادا إلى قائمة التصنيف التي يتلقاها بالبريد كل شهر. عدت زوجة الكولونيل دقات الناقوس، فكانت دقتين.
– انه فيلم سيء لجميع الأعمار… منذ سنة تقريبا وجميع الأفلام سيئة لجميع الأعمار.
أسدلت ستارة الكلة ودمدمت: ‘لقد فسد العالم’. أما الكولونيل فلم يعلق بشيء. وقبل أن ينام ربط الديك إلى قائمة السرير. ثم أغلق البيت ورش مبيد الحشرات في الغرفة. وضع بعدها المصباح على الأرض، وعلق سرير نومه واستلقي ليقرأ الصحف.
قرأها جميعا حسب تسلسل تواريخها ومن الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. في الحادية عشرة تعالى صوت نفير منع التجول. وختم الكولونيل القراءة بعد نصف ساعة من ذلك. فتح باب البهو باتجاه الليل القاتم، وبال على دعامة السقف الخشبية، التي تعج بالبعوض.. وعندما رجع إلى الغرفة كانت زوجته مستيقظة. سألته:
– أليس في الصحف شيء عن قدماء المحاربين.
– لا شيء.
قالها الكولونيل ثم أطفأ المصباح قبل أن يدس نفسه في السرير، ثم أردف:
لقد كانوا سابقا ينشرون على الأقل قائمة بأسماء المحالين الجدد على التقاعد. ولكنهم منذ حوالي خمس سنوات تقريبا لا يذكرون شيئا.
أمطرت بعد منتصف الليل. واستجاب الكولونيل للنعاس ولكنه استيقظ بعد لحظة مذعورا بسبب أمعائه. وانتبه لوجود ثقب في السقف يتسرب منه الماء إلى مكان ما من البيت. فنهض وقد لف نفسه ببطانية صوفية حتى رأسه وحاول تحديد مكان الثقب في الظلام. انزلق خيط من العرق البارد على عموده الفقري. فأدرك انه مصاب بحمي. وأحسٌ بأنه يطفو في دوائر ذات مركز واحد ضمن بركة من الهلام. تكلم احدهم. فرد عليه الكولونيل من سريره المعلق الذي كان يستخدمه وهو ثائر.
سألته زوجته:
– مع من تتكلم.
– مع الإنجليزي المتنكر كنمر، الذي ظهر في معسكر الكولونيل اوربليانو بوينديا أجابها الكولونيل. ثم استدار في السرير، وهو يتقد بالحمى، وتابع:
– لقد كان دوق مارلبورو.
استيقظ في غاية الإنهاك. وعندما دق ناقوس الصلاة للمرة الثانية قفز من سريره المعلق وانتصب في واقع من الاضطراب والضوضاء التي كان يسببها صراخ الديك. كان رأسه ما يزال يلف في دوائر ذات مركز واحد. أحس بالغثيان. فخرج إلى البهو واتجه نحو المرحاض عبر الحفيف الناعم وروائح الشتاء المكفهرة. حجرة المرحاض الصغيرة المصنوعة من الأخشاب والمغطاة بسقف من التوتياء كانت تعبق بأبخرة الامونياك المنطلق من المبولة. وعندما رفع الكولونيل الغطاء انطلقت من الفتحة سحابة من الذباب.
لقد كان ذعرا مزيفا. فعندما اتخذ وضع القرفصاء على الأرضية المصنوعة من خشب لم تصقله فارة النجارة، أحسن بتفاهة رغبته الخائبة. فقد شعر بدل الغثيان بألم ثقيل في الجهاز الهضمي. ‘لاشك في هذا’ تمتم الكولونيل ‘فدائما يحدث لي نفس الشيء في أكتوبر’. وظهرت عليه سيماء الواثق البريء الآمل إلى أن خمد الفطر الذي في أحشائه. عندئذ عاد إلى الغرفة ليري الديك.
قالت له زوجته:
– لقد كنت تهذي من الحمي في الليل.
كانت قد بدأت بترتيب الغرفة التي لم تنظم طوال أسبوع الأزمة، وحاول الكولونيل جاهدا أن يتذكر. ثم قال كاذبا:
– لم تكن الحمي، وإنما هو حلم العناكب من جديد.
وكما يحدث دائما، خرجت المرأة من الأزمة بحماسة شديدة. ففي فترة الصباح قلبت البيت رأسا على عقب. وأبدلت مكان كل الأشياء ما عدا الساعة ولوحة حورية البحيرات. لقد كانت ضئيلة ومرنة لدرجة أنها عندما كانت تتنقل بخفها الذي صنع من القطيفة وثوبها الأسود المغلق بكامله، تبدو وكأنها تملك خاصية المقدرة على اختراق الجدران. ولكن قبل أن تصل الساعة إلى الثانية عشرة كانت قد استعادت كثافتها، وثقلها الإنساني. لقد كانت في السرير فراغا. أما الآن، وهي تتحرك بين أصص السرخس والبيجونيا، فإن و جودها يملأ البيت. ‘لو أن سنة مضت على وفاة أغوستين لكنت غنيت’ قالت، وهي تحرك القدر الذي يغلي على الموقد والذي يحتوي على جميع أصناف نباتات الأكل التي بامكان أرض الاستواء إنتاجها، مقطعة إلى قطع متشابهة.
قال لها الكولونيل:
– إذا كنت تشعرين برغبة في الغناء غني. فهذا مفيد من أجل الغدة الصفراء.
بعد الغداء حضر الطبيب. كان الكولونيل وزوجته يتناولان القهوة في المطبخ عندما دفع الباب المؤدي إلى الشارع وهتف:
– لقد مات المرضي.
نهض الكولونيل لاستقباله، وقال وهو يقوده إلى الصالة:
– أن الأمر كذلك أيها الدكتور. ودائما كنت أقول لك أن ساعتك تمضي مع ساعة الدجاجات.
ذهبت المرأة إلى الغرفة لتعد نفسها للفحص. وبقي الطبيب في الصالة مع الكولونيل. ورغم الحر، فإن بدلته المصنوعة من الكتان السادة كانت تطلق نفحة من البرودة. وعندما أعلنت المرأة أنها مستعدة، قدم الطبيب إلى الكولونيل ثلاث رزم من الورق ضمن مغلف. وقال: ‘هذا هو ما لم تقله صحف الأمس’. ثم دخل إلى الغرفة.
لقد خمن الكولونيل ذلك. فقد كانت تلك الأوراق تحتوي أهم آخر الأحداث على المستوي الوطني مطبوعة على آلة سحب، للتداول السري، وتقريرا عن وضع المقاومة المسلحة داخل البلاد. أحس بالانهيار. فعشر سنوات من الإعلام السري لم تعلمه بأنه ليس هناك أي خبر أكثر مفاجأة من أخبار الشهر القادم. كان قد انتهي من القراءة عندما رجع الطبيب إلى الصالة وقال:
– إن هذه المريضة في حالة أحسن من حالتي. فبإصابة بالربو كهذه سأكون قادرا على العيش مائة سنة.
نظر إليه الكولونيل بتجهم. وأعاد إليه المغلف دون أن يتفوه بكلمة واحدة، ولكن الطبيب رده قائلا بصوت خافت:
– أطلع عليه آخرين.
وضع الكولونيل المغلف في جيب بنطاله. خرجت المرأة من الغرفة قائلة: ‘في يوم قريب سأموت وسأحملك معي إلى الجحيم أيها الدكتور’. رد الطبيب صامتا بإظهار ميناء أسنانه المرتبة. ثم أدار كرسيا نحو الطاولة الصغيرة وتناول من حقيبته عدة زجاجات من أدوية العينات المجانية. مضت المرأة مسرعة نحو المطبخ:
– انتظر ريثما أسخن لك القهوة.
– لا، شكرا جزيلا قال لها الطبيب وهو يكتب مقدار الجرعة على ورقة من الأوراق المرفقة بالزجاجات والتي تحتوي تركيب الدواء، وتابع:
– إني ارفض رفضا قاطعا منحك الفرصة لتسميمي.
ضحكت وهي في المطبخ. وعندما انتهي الطبيب من الكتابة، قرأ ما كتبه بصوت عال، إذ كان يعرف أن أحدا لا يستطيع حل رموز كتابته. حاول الكولونيل أن يركز انتباهه. وعندما رجعت المرأة من المطبخ لاحظت على وجهه الآم الليلة الماضية، فقالت للطبيب وهي تشير إلى زوجها:
– لقد عاني لليلة من الحمي. وأمضي حوالي ساعتين وهو يهذي بهراء عن الحرب الأهلية.
ذعر الكولونيل، وقال بإصرار:
‘لم تكن حمي’، ثم تابع وهو يستعيد رصانته: ‘وفوق ذلك، في اليوم الذي سأشعر فيه بأني مريض فاني لن أضع نفسي بين يدي احد. وإنما سألقي بنفسي إلى صندوق القمامة’.
ذهب إلى الغرفة لإحضار الصحف.
– شكرا أيها الزهرة قال الطبيب.
سارا معا نحو الساحة. كان الهواء جافا. وإسفلت الشارع بدأ يذوب بسبب الحر. وعندما ودعه الطبيب، سأله الكولونيل بصوت خافت، وقد ضغط على أسنانه:
– بكم نحن مدينون لك أيها الدكتور.
قال الطبيب:
– لاشيء في الوقت الحاضر ثم ربت على ظهره قائلا:
– سآتيك بلائحة ديون سمينة عندما يكسب الديك.
اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط ليعطي الرسالة السرية لأصدقاء أغوستين. لقد كان هذا المحل هو مأواه الوحيد منذ أخذ رفاقه في الحزب يموتون أو يطردون من القرية، وتحول هو إلى مجرد رجل وحيد لا اهتمامات لديه سوي انتظار البريد كل يوم جمعة.
دفء الأصيل أثار ديناميكية المرأة. وبينما هي جالسة إلى جانب أزهار البيجونيا التي في الممر وبجانبها صندوق ملابس قديمة لا نفع منها، مرة أخرى المعجزة الخارقة بصنع ملابس جديدة من لاشيء. فقد صنعت أطواقا للمعاصم، وياقة من نسيج ظهر رداء مهترىء ثم جمعت قصاصات مربعة، ومنتظمة، من أجزاء قماشية مختلفة الألوان. أطلق صرار لصفيره العنان في البهو. والشمس مالت للمغيب. ولكن المرأة لم تنتبه إليها وهي تحتضر فوق أزهار البيجونيا. ورفعت رأسها عندما خيم الليل فقط لدي عودة الكولونيل إلى البيت. عندئذ ضغطت الياقة بيديها الاثنتين ودعكت أماكن الوصل إلى القماش، وقالت: ‘لقد صار دماغي جامدا مثل هراوة’.
فقال لها الكولونيل:
– لقد كان هكذا دائما.
ولكنه انتبه بعد ذلك إلى جسد المرأة المغطي بقطع القماش الملونة، فقال:
– انك تبدين كعصفور نجار.
– يجب أن أكون نصف نجارة لأستطيع تأمين الملابس لك قالت ومدت إليه قميصا مصنوعا من أنسجة ذات ثلاثة ألوان مختلفة، باستثناء الياقة والمعصمين إذ كانت بلون موحد، ثم أردفت المرأة:
– يكفي أن تخلع الجاكيت فقط في الكرنفال.
قاطعتها أجراس الساعة السادسة. ‘أن ملاك الحرب ينادي للصلاة’، صلٌت بصوت عال، وهي تتجه إلى غرفة النوم حاملة الملابس، تبادل الكولونيل الحوار مع الصبيان الذين حضروا بعد خروجهم من المدرسة للتفرج على الديك. ثم تذكر أنه لم تعد لديهم ذرة تكفي الديك لليوم التالي فدخل إلى غرفة النوم ليطلب نقودا من امرأته.
– أعتقد أن لم يعد لدينا سوي خمسين سنتا قالت.
كانت تخفي النقود تحت حصيرة الفراش، وقد ربطت عليها عدة عقد في طرف منديل. كانت تلك النقود ثمن ماكينة الخياطة التي كان يملكها أغوستين. لقد أنفقوا خلال تسعة شهور تلك النقود سنتا بعد سنت، مقسمين إياها ما بين ضرورياتهم وضروريات الديك. ولم يبق منها الآن سوي قطعتين من فئة العشرين وقطعة من فئة العشرة سنتات.
قالت المرأة:
– اشتر رطلا من الذرة. واشتر بالباقي بنا لقهوة الصباح وأربع اونصات من الجبن.
– وفيلاّ مذهبا لنعلقه على الباب تابع الكولونيل مقلدا إياها، ثم قال:
– أن الذرة وحدها تساوي اثنين وأربعين سنتا.
فكرا لبرهة. ‘أن الديك حيوان، وسواء لديه أن انتظر بلا طعام’، قالت المرأة مبدئيا. ولكن تعابير وجه زوجها أجبرتها على إعادة النظر، جلس الكولونيل على السرير، وأسند مرفقيه إلى ركبتيه، بينما كانت قطع النقود المعدنية ترن بين يديه. ثم قال بعد برهة: ‘أنا لا أريد الديك لنفسي… لو أن الأمر متعلق بي لقمت هذه الليلة بالذات بإعداد وجبة من الديك. ولا شك أن تخمة من خمسين بيزو ستكون شيئا جيدا’. وتوقف قليلا ليسحق بعوضة على رقبته. ثم لاحق زوجته، بالنظر، وهي تمضي في أنحاء الغرفة. وقال:
– أن ما يشغل تفكيري هو أن هؤلاء الشبان المساكين يدخرون النقود للرهان على الديك.
عند ذلك بدأت هي بالتفكير. قامت بدورة كاملة في الغرفة وهي تحمل مضخة مبيد الحشرات. وأحس الكولونيل شيئا خرافيا في موقفها. شعر وكأنها تستدعي أرواح البيت لاستشارتها. وأخيرا وضعت المضخة على مذبح من الحجر المنقوش وثبتت عينيها اللتين بلون الرجبٌ، وقالت:
– اشترِ الذرة. والله يعلم كيف سنتدبر نحن أمرنا.
******
هذه
هي معجزة تكثير الخبز’، هكذا كان الكولونيل يكرر كلما جلس إلى المائدة طوال الأسبوع التالي. وبمهارتها المذهلة في الإصلاح والرفأ والترقيع، كانت تبدو وكأنها اكتشفت لغز تدعيم الاقتصاد البيتي في الفراغ. وقد أطال أكتوبر استراحته. وحلت الرطوبة محلٌ الغيبوبة. وانعشتها الشمس النحاسية، فخصصت المرأة ثلاث ليال لتنهمك بتسريح شعرها. ‘الآن بدأت الصلاة المغناة’، هكذا قال لها الكولونيل في الأمسية التي حلٌت بها فتائل شعرها الزرقاء بمشطي أسنانه متباعدة. في الأمسية التالية، وهي جالسة في البهو وشرشف أبيض على حضنها، استخدمت مشطا أكثر نعومة لتنزع القمل الذي تكاثر خلال الأزمة. وأخيرا غسلت شعرها بماء الخزامى، وانتظرت حتى جف، ثم عقصت الشعر على الرقبة في لفتين وثبتته بمشبك.
استلقي الكولونيل في الليل مسهدا في سريره، لقد قاسي كثرا وهو يفكر بمصير الديك. ولكن عندما وزنوه يوم الأربعاء كان في حالة جيدة.
في تلك الليلة ذاتها، وعندما غادر أصدقاء أغوستين البيت، وهم يضعون حساباتهم السعيدة عن فوز الديك، أحس الكولونيل أيضا بأنه في حالة جيدة. قصت امرأته له شعره. ‘لقد رفعتِ عشرين سنة عن كاهلي’ قال لها وهو يتلمس رأسه بيديه. ففكرت المرأة بان زوجها على حق، وقالت:
– عندما أكون في حالة جيدة فاني قادرة على بعث ميت من موته.
ولكن إيمانها هذا استمر لساعات قليلة فقط. إذ لم يبق في البيت شيء يستحق البيع، ما عدا الساعة واللوحة. وفي يوم الخميس ليلا، أبدت المرأة قلقها لهذا الوضع أمام نضوب آخر الموارد.
فقال لها الكولونيل مواسيا:
– لا تقلقي، فغدا يأتي البريد.
في اليوم التالي، وبينما كان ينتظر مركب البريد أمام عيادة الطبيب، قال الكولونيل وعيناه معلقتان على كيس البريد:
– أن الطائرة لشيء عظيم، فهم يقولون بأنها قادرة على الوصول إلى أوروبا في ليلة واحدة.
‘أجل، هذا صحيح’، قال الطبيب وهو يهوي وجهه بمجلة مصورة. ورأي الكولونيل موظف البريد يقف بين مجموعة من الناس وهو ينتظر انتهاء المركب من مناورته ليقفز إليه. كان أول من قفز. وتسلم من الكابتن مظروفا ختم بالشمع الأحمر، ثم صعد إلى سطح المركب، حيث كان كيس البريد معلقا فوق برميلين للبترول.
– ولكن رغم ذلك، فإن للطائرة مخاطرها قال الكولونيل. وأضاع نظره موظف البريد، ولكنه عثر عليه من جديد إلى جانب الزجاجات الملونة في عربة المرطبات. فتابع قائلا:
– إن الإنسانية لا تتقدم مجانا.
قال الطبيب:
– أنها حاليا أكثر أمانا من السفينة. فعلى ارتفاع عشرين ألف قدم يكون الطيران فوق العواصف.
– عشرون ألف قدم كرر الكولونيل وهو حائر، دون أن يستوعب الرقم تماما.
اهتم الطبيب بالأمر، فشٌد المجلة بيديه الاثنتين إلى أن تمكن من تثبيتها بشكل كامل، وقال:
ثمة استقرار تام.
ولكن الكولونيل كان يلاحق موظف البريد. رآه وهو يشرب مرطبا له رغوة وردية حاملا الكوب بيده السري، بينما كان يمسك كيس البريد بيده اليمني.
تابع الطبيب حديثه:
– إضافة إلى هذا، توجد بواخر راسية في البحر وهي على اتصال دائم بالطائرات الليلية. وبهذه الاحتياطيات الكثيرة. فإن الطائرات أكثر أمانا من السفن’.
نظر الكولونيل. إليه وقال:
– بالتأكيد. لابد أنها مثل البساط.
اتجه الموظف نحوهما مباشرة. مال الكولونيل برغبة لا تقاوم محاولا قراءة الاسم المكتوب على الظرف المختوم بالشمع الأحمر. فتح الموظف الكيس. وسلٌم الطبيب رزمة الصحف. ثم مزق طرف المظروف الذي يضم الرسائل الخاصة وتحقق من صحة جهة الإرسال، ثم قرأ عن الرسائل أسماء المرسل إليهم. فتح الطبيب الصحف وقال وهو يقرأ العناوين البارزة:
– ما تزال قضية السويس مستمرة. إن الغرب يفقد مواقعه.
قال الكولونيل الذي لم يقرأ العناوين، والذي قام بمجهود ليسيطر على آلام معدته: ‘منذ فرضت الرقابة والصحف لا تتحدث إلا عن أوروبا.. من الأفضل أن يأتي الأوروبيون إلى هنا ونذهب نحن إلى أوروبا. وهكذا سيعرف كل منا ما الذي يجري في بلده’.
فقال الطبيب ضاحكا، ودون أن يرفع نظره عن الصحف:
– أن أمريكا الجنوبية بالنسبة للأوروبيين هي رجل له شارب، يحمل غيتارا ومسدسا… أنهم لا يفهمون مشاكلنا.
ناوله موظف البريد رسائله، ودس الباقي في الكيس وعاد ليغلقه من جديد. استعد الطبيب ليقرأ رسائله الشخصية. ولكن قبل أن يشق مغلفاتها نظر إلى الكولونيل، ثم نظر إلى الموظف:
– ألا يوجد شيء للكولونيل.
أحس الكولونيل بالذعر. ألقي الموظف بالكيس على كتفه ونزل الرصيف وأجاب دون أن يدير رأسه:
– ليس لدي الكولونيل من يكاتبه.
على غير عادته، لم يذهب لتوه إلى بيته. تناول قهوة في محل الخياطة بينما كان أصدقاء اغوستين يتفحصون الصحف. أحس بأنه مغبون. وكان يفضل البقاء هناك حتى يوم الجمعة التالي كي لا يقف هذه الليلة أمام زوجته صفر اليدين. ولكن عندما أغلقوا المحل كان عليه أن يواجه الواقع. سألته المرأة التي كانت تنتظره:
– لاشيء.
– لاشيء أجابها الكولونيل.
يوم الجمعة التالي ذهب إلى حيث المراكب. ومثل كل جمعة رجع إلى البيت دون الرسالة المنتظرة. قالت له زوجته هذه الليلة: ‘لقد انتظرنا ما فيه الكفاية. يجب أن يكون للمرء صبر الجواميس مثلك لينتظر رسالة طوال خمس عشرة سنة’. فقال الكولونيل وهو يدس نفسه في السرير ليقرأ الصحف.
– يجب أن ننتظر دورنا أن رقمنا هو ألف وثمانمائة وثلاثة وعشرون.
ردت المرأة:
لقد كسب هذا الرقم مرتين في اليانصيب منذ بدأنا الانتظار.
قرأ الكولونيل الصحف كالعادة، من الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. ولكنه لم يركز انتباهه هذه المرة. إذ كان يفكر خلال القراءة بمعاشه التقاعدي: قبل تسع عشرة سنة، عندما أصدر الكونجرس القانون، بدأت عملية مماطلة استمرت ثماني سنوات، وبعد ذلك احتاج لست سنوات أخرى حتى تمكن من ضم اسمه إلى قائمة قدماء المحاربين. وكانت تلك آخر رسالة يتلقاها الكولونيل.
انتهي من القراءة بعد سماعه إشارة منع التجول. وعندما مضي ليطفىء المصباح تأكد اعتقاده بان زوجته مازالت مستيقظة:
– أما زلت تحتفظين بتلك القصاصة
فكرت المرأة، وقالت:
– أجل، يجب أن تكون محفوظة مع الأوراق الأخرى.
خرجت من تحت الكلٌة وأخرجت من الخزانة صندوقا خشبيا به حزمة من الرسائل المرتبة حسب تواريخها والمشدودة إلى بعضها برباط مطاطي. سحبت من بينها إعلانا من وكالة للمحاماة يعد بمتابعة فعالة لقضية رواتب المتقاعدين بعد الحرب.
– لو أنك فعلت هذا منذ بدأت أحدثك بموضوع استبدال المحامي لكان لدينا متسع من الوقت حتى لإنفاق المال قالت المرأة وهي تسلم لزوجها قصاصة الجريدة، ثم أردفت:
إذا ما وضعوه لنا في صندوق كما يفعلون بالهنود.
قرأ الكولونيل القصاصة التي تحمل تاريخا مضت عليه سنتان، ووضعها في جيب القميص المعلق وراء الباب.
– السيئ في الأمر هو أن استبدال محام بآخر يتطلب نقودا.
فقالت المرأة بتصميم:
– لاشيء من هذا. اكتب لهم قائلا بان يحسموا المبلغ الذي يريدونه من الراتب التقاعدي نفسه عندما يحصلون عليه. أنها الطريقة الوحيدة لجعلهم يهتمون بالقضية.
وهكذا ذهب الكولونيل مساء يوم السبت لزيارة محاميه فوجده مستلقيا على السرير المعلق دون هموم. كان رجلا اسود يشبه تمثالا ضخما، ليس له سوي نابين في فكه العلوي. دسٌ المحامي قدميه في خفٌ نعله من الخشب وفتح نافذة المكتب من فوق بيانو أوتوماتيكي يغطيه الغبار وعليه أوراق محشوة في فراغات لفافات اسطوانية وقصاصات من ‘الجريدة الرسمية’ ملصقة بالصمغ على دفاتر قديمة لمسك الحسابات، ومجموعة من نشرات المحاسبة للإطلاع. وكان البيانو الأوتوماتيكي الذي بلا مفاتيح يستخدم كطاولة للكتابة.
بدأ الكولونيل بعرض ما يساوره من قلق قبل أن يعلن عن غرض زيارته.
‘لقد حذرتك من قبل بأن القضية لن تحل بين يوم وآخر’، قال المحامي مستغلا احدي وقفات الكولونيل عن الحديث. كان الحر يسحقه. فشّد إلى الوراء نوابض مسند الكرسي وحرك أما وجهه قطعة من الورق المقوي عليها كتابة دعائية مستخدما إياها كمروحة، وقال:
– أن وكلائي كثيرا ما يكتبون إلى بأنه يجب ألا نيأس. فرد الكولونيل:
– إني أسمع هذا الكلام ذاته منذ خمسة عشر عاما. لقد أصبح هذا الكلام مثل حكاية الديك المخصي.
قدم المحامي شرحا بيانيا مسهبا للصعوبات الإدارية التي تعترضه. كان الكرسي ضيقا جدا بالنسبة لاليتيه الخريفتين.
قال ‘منذ خمس عشرة سنة كان الأمر أكثر سهولة، ففي ذلك الوقت كانت عناصر الجمعية البلدية لقدماء المحاربين مؤلفة من كلا الحزبين’. ملأ رئتيه بهواء حارق، ثم تلفظ بعبارة حكيمة وكأنه انتهي من اختراعها لتوه:
– الاتحاد يصنع القوة.
قال الكولونيل، وقد تنبه لأول مرة في حياته إلى عزلته:
– ولكنه لم يفعل ذلك في قضيتنا. فجميع رفاقي ماتوا وهم ينتظرون البريد.
لم يتأثر المحامي. وقال:
– لقد صدر القانون متأخرا جدا. ولم يحظ الجميع بحظ مثل حظك فقد كنت كولونيلا في العشرين من العمر. وأضيفت بعد هذا مادة خاصة للقانون، ولهذا كان على الحكومة أن تقوم بترقيع في الميزانية.
دائما نفس القصة. وفي كل مرة يسمعها الكولونيل يشعر بحقد أصم. ‘أن ما اطلبه ليس صدقة. ليس قضية تقديم إحسان. لقد تمزقت جلودنا لننقذ الجمهورية’.
فتح المحامي ذراعيه وقال:
– نعم. الأمر هكذا أيها الكولونيل. ولكن الجحود البشري لا حدود له وهذه لقصة يعرفها أيضا الكولونيل. فقد بدأ يسمعها منذ اليوم التالي لاتفاقية ‘نيرلانديا’ عندما وعدت الحكومة بتقديم بدل سفر وتعويض لمائتين من ضباط الثورة. وعسكرت حول شجرة الثييبا العملاقة في نيرلانديا فرقة ثورية مؤلفة في غالبيتها من شبان يافعين هاربين من مدارسهم، وانتظرت الفرقة طوال شهور ثلاثة. رجع أفرادها بعد ذلك إلى بيوتهم على نفقتهم الخاصة وهناك تابعوا الانتظار. وبعد مرور ستين سنة تقريبا مازال الكولونيل ينتظر.
وهاج الكولونيل بتأثير هذه الذكريات، فاتخذ وضعا خطيرا: اسند يده اليمني على عظم الفخذ، ودمدم:
– لقد صممت على اتخاذ قرار.
وقف المحامي حائرا:
– ماذا تعني
– استبدال المحامي.
دخلت بطة يتبعها عدد من فراخها إلى المكتب. فنهض المحامي ليطردها خارجا، ‘كما تشاء أيها الكولونيل’. قال وهو يهش تلك الحيوانات. ‘سيكون لك ما تريد. ولو كنت قادرا على تحقيق المعجزات لما عشت في هذا القن’. وضع حاجزا خشبيا على باب البهو ثم عاد إلى مقعده.
قال الكولونيل:
– لقد اشتغل ابني طوال حياته، وبيتي مرهون.. لقد أصبح قانون التقاعد مصدر تقاعد للمحامين مدي الحياة.
فاعترض المحامي:
– ولكنه ليس كذلك بالنسبة لي. فقد أنفقت النقود حتى أخرها في تقديم الالتماسات.
تألم الكولونيل لتفكيره بأنه وقع ضحية ظلم. فقال مصححا:
هذا ما أردت قوله ثم جفف جبهته بكم قميصه، وتابع:
– أن براغي الرأس قد صدئت بسبب هذا الحر.
بعد لحظة، قلب المحامي المكتب بحثا عن التوكيل. وتقدمت الشمس نحو منتصف الغرفة الضيقة المشادة من أخشاب دون سحج. وبعد أن بحث في كل مكان دون فائدة، انحني على يديه ورجليه، وهو يزفر، وتناول لفافة أوراق من تحت البيانو الأوتوماتيكي:
– هاهو.
ثم قدم للكولونيل ورقة عليها عدة أختام، وأضاف: ‘يجب أن اكتب إلى وكلائي لأتلاف النسخ التي لديهم’، نفض الكولونيل الغبار ووضع الورقة في جيب قميصه.
– مزقها أنت بنفسك.
‘لا’، أجاب الكولونيل. ‘أنها عشرون سنة من الذكريات’. وانتظر أن يتابع المحامي بحثه. ولكنه لم يفعل ذلك. مضي نحو السرير المعلق ليجفف العرق. ومن هناك نظر إلى الكولونيل من خلال الفراغ المتلالىء.
– إنني بحاجة للوثائق أيضا قال الكولونيل.
– أية وثائق.
– الإثباتات.
فتح المحامي ذراعيه قائلا:
– سيكون هذا مستحيلا أيها الكولونيل.
ذعر الكولونيل. لأنه عندما كان ضابطا ماليا للثورة في إقليم ماكوندو، قام برحلة شاقة استمرت ستة أيام وهو يحمل أرصدة وأموال الحرب الأهلية في صندوقين مربوطين على متن بغلة ليصل إلى معسكر نيرلانديا، وهو يجر البغلة التي قتلها الجوع. قبل نصف ساعة من توقيع الاتفاقية. وقد أعطاه الكولونيل اوريليانو بوينديا رئيس إدارة التموين العامة للقوات الثورية على شاطىء الأطلنطي إيصالا بالأموال وأدخل الصندوقين في قائمة الجرد الخاصة بالاستلام.
قال الكولونيل:
أنها وثائق ذات قيمة لا تقدر. ويوجد بينها إيصال مكتوب بخط ويد الكولونيل اوريليانو بوينديا.
قال المحامي:
أعرف ذلك. ولكن هذه الوثائق مرت على آلاف وآلاف الأيدي، وعلى آلاف وآلاف المكاتب حتى وصلت، من يدري، إلى أية دائرة في وزارة الحربية.
أن وثائق من هذا النوع لا يمكن أن تمر على أي موظف دون أن يوليها الأهمية قال الكولونيل.
فرد المحامي مدققا:
ولكن الموظفين تبدلوا عدة مرات خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة.. تذكر بأن ستة رؤساء قد تبادلوا السلطة وكل رئيس غير أعضاء حكومته عشر مرات على الأقل وكل وزير استبدل موظفيه مائة مرة على الأقل.
قال الكولونيل :
ولكن لا يمكن لأي منهم أن يأخذ تلك الوثائق إلى بيته. ولا بد أن كل موظف كان يجد الأوراق في مكانها.
يئس المحامي، فقال له:
– وإضافة إلى هذا، فان هذه الأوراق إذا ما خرجت الآن من وزارة الحربية ستخضع للسير في الدور من جديد في جدول أقدمية المتقاعدين.
– هذا لا يهمني قال الكولونيل.
– ولكنها ستكون مسألة قرون من الزمن.
– ليس مهما، فمن انتظر الكثير ينتظر القليل.
*******
حمل
إلى الطاولة الصغيرة في الصالة دفترا من ورق مسطر، وريشة ومحبرة وورقة نشاف، وترك الباب المؤدي إلى الغرفة مفتوحا حتى يستطيع استشارة زوجته إذا ما لزم الأمر. بينما كانت هي تصلي صلاة المساء.
سألها:
– في أي يوم نحن
27 أكتوبر (تشرين الأول).
بدأ يكتب متخذا وضعية مدروسة، فاليد التي تحمل الريشة موضوعة فوق ورقة النشاف، والعمود الفقري عمودي لتسهيل التنفس، كما علموه في المدرسة. أصبح الحر لا يطاق في الصالة المغلقة. وانزلقت منه قطرة عرق على الرسالة. فالتقطها الكولونيل بورقة النشاف. حاول بعد ذلك أن يحكٌ الكلمات التي تحلل حبرها، ولكنه أحدث لطخة. لم ييأس كتب نداء ودوٌن في الهامش: ‘الحقوق محفوظة’. ثم قرأ الفقرة بكاملها.
– في أي يوم ادخلوا اسمي في قائمة قدماء المحاربين. لم تقطع المرأة صلاتها لتفكر، بل قالت:
– في 21 أغسطس (آب) .1949
بعد لحظات بدأ المطر يهطل. ملأ الكولونيل صفحة كاملة بخط كبير مشوش وطفولي بعض الشيء، كما علموه في المدرسة العامة في ‘ماناوري’. ثم ملأ صفحة أخرى حتى منتصفها، ووضع توقيعه.
قرأ الرسالة على زوجته. ووافقت هي على كل جملة بحركة من رأسها. وعندما انتهي من القراءة أغلق المظروف وأطفأ المصباح.
– يمكنك أن تطلب من احدهم أن ينسخها لك على آلة كاتبة.
– لا، لقد تعبت وأنا اطلب المعروف من الآخرين. أجابها الكولونيل.
ولمدة نصف ساعة، أحس بالمطر الذي يتساقط على سفح السطح. وغرقت القرية كلها بالوابل. وبعد نفير منع التجول بدأت قطرات المطر تنزلق من مكان ما من البيت.
– كان يجب إصلاح هذا منذ زمن طويل قالت المرأة، ثم أردفت:
– من الأفضل دائما أن نفهم الأمور في حينها.
قال الكولونيل، مشيرا إلى الماء المتسرب:
– لاشيء متأخرا أبدا. يمكن أن تحل جميع هذه الأمور عندما ينتهي رهن البيت.
– بقيت سنتان.
أشعل المصباح ليحدد مكان الثقب الذي في سقف الصالة. ثم وضع تحته علبة الصفيح التي يشرب منها الديك وعاد إلى غرفة النوم تلحقه الفرقعة المعدنية التي يحدثها الماء. عند اصطدامه بالعلبة الفارغة.
– ربما فكوا الرهن قبل كانون الثاني (يناير) ساعين لكسب النقود قال، وأقنع نفسه بذلك، ثم تابع:
– عندها تكون قد انقضت سنة على وفاة اغوستين ونستطيع الذهاب إلى السينما.
ضحكت هي بصوت خافت وقالت: ‘حتى إني ما عدت اذكر صورا مشوشة منها’. حاول الكولونيل رؤيتها من خلال الكلة:
– متى ذهبت إلى السينما لآخر مرة؟
فقالت:
– سنة .1931 وكان يعرضون يومها فيلم ‘إرادة الميت’.
– وهل كان به رعب.
– لم يعرف ذلك أبدا. فقد انقطع وابل المطر عندما كان الشبح يحاول سرقة العقد من الفتاة.
هسسة المطر جعلتهما يغفوان. شعر الكولونيل بألم خفيف في أمعائه، ولكنه لم يفزع. كان على وشك أن يجتاز أكتوبر آخر وهو حي. لف نفسه ببطانية صوفية وأحس للحظة بتنفس المرأة المتقطع أحسه نائيا وهي تبحر في حلم آخر. عندئذ تكلم، وهو واع تماما.
استيقظت المرأة:
– مع من تتكلم
فرد الكولونيل:
– ليس مع احد. كنت أفكر بأننا كنا محقين عندما قلنا للكولونيل اوريليانو جوينديا، في اجتماع ماكوندو بأن لا يستلم. فهذا هو السبب في ضياع الجميع.
أمطرت طوال الأسبوع. وفي اليوم الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) وضد مشيئة الكولونيل – أخذت المرأة زهورا إلى قبر اوغستين. وعند عودتها من المقبرة، كانت مصابة بنوبة ربو جديدة. كان أسبوعا قاسيا.. أكثر قسوة من أسابيع أكتوبر الأربعة التي اعتقد الكولونيل انه لن يجتازها حيا.
حضر الطبيب لعيادة المريضة وخرج من الغرفة صارخا: ‘بربو كهذا، سأكون مستعدا لدفن القرية بكاملها’. ولكنه تحدث مع الكولونيل على انفراد ووصف للمريضة علاجا يعتمد نظاما خاصا.
عاني الكولونيل أيضا من نكسة صحية. واحتضر لساعات طويلة في المرحاض، وتعرق ثلجا، وهو يحس بنباتات أحشائه تتعفن وتسقط متفتتة إلى قطع صغيرة. ‘انه الشتاء’، كرر دون يأس. ‘كل شيء سيكون مختلفا عندما تنتهي الأمطار’. واقتنع بذلك فعلا، متأكدا انه سيكون على قيد الحياة عندما ستصله الرسالة.
لقد أصبح من واجبه هذه المرة أن يعني بترقيع الاقتصاد المنزلي. وكان عليه أن يضغط على أسنانه مرات ومرات وهو يطلب الاستدانة من الدكاكين المجاورة. ‘حتى الأسبوع القادم فقط’، كان يقول لهم، دون أن يكون متأكدا هو نفسه بأن هذا صحيح. ‘ثمة’ نقود كان يجب أن تصلني منذ يوم الجمعة’. وعندما خرجت المرأة من أزمتها تعرفت عليه مذهولة:
– لقد صرت عظما اجرد.
فقال لها الكولونيل:
– إنني اعتني بنفسي لأكون صالحا للبيع. وقد بعت نفسي لمصنع يصنع المزامير.
ولكنه في الواقع بالكاد كان يقف مستندا على أمل الرسالة. وبسبب إرهاقه، وبسبب عظامه التي سحقها الإجهاد، فانه لم يستطع أن يعتني بحاجاته وحاجات الديك الضرورية في الوقت ذاته. في النصف الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) رأي أن الديك سيموت بعد أن أمضي يومين بلا ذرة. عندئذ تذكر حفنة من اللوبيا كان قد علقها في شهر يوليو (تموز) فوق الموقد. فتح الكيس الذي يحتوي على اللوبيا ووضع أمام الديك علبة ممتلئة بالحبوب الجافة.
فقالت له:
– تعال هنا.
أجابها الكولونيل:
– سآتيك حالا – ثم قال لنفسه وهو يراقب ردة فعل الديك:
– عند الجوع لا يوجد خبز سيء.
وجد زوجته تحاول الاعتدال في السرير. ومن الجسد التالف كانت تصدر روائح إعشاب طيبة. تلفظت بالكلمات، كلمة كلمة، بتدقيق محسوب:
– اخرج بهذا الديك حالا من هنا.
كان الكولونيل قد أعد نفسه لهذه اللحظة. كان ينتظرها منذ الأمسية التي قتل بها ابنه وقرر هو الاحتفاظ بالديك. لذلك كان لديه وقت طويل ليفكر.
قال:
– لم يعد الأمر يستحق ذلك، فخلال ثلاثة شهور ستجري مباراة مصارعة الديكة وعندها نستطيع أن نبيعه بأغلى الأسعار.
فقالت المرأة:
– القضية ليست قضية نقود. عندما يأتي الشباب قل لهم أن يأخذوه وليفعلوا به ما يرغبون.
قال لها الكولونيل مستخدما حجة محضرة مسبقا:
– إني احتفظ به من أجل أغوستين… تصوري وجهه لو انه اتى يومها ليخبرنا بفوز الديك.
صرخت المرأة وقد فكرت فعلا بابنها:
‘لقد كانت هذه الديكة اللعينة هي سبب ضياعه. فلو انه بقي في البيت يوم الثالث من يناير (كانون الثاني) ذاك، لما كانت فاجأته ساعة الشر’. ثم وجهت سبابتها الضامرة نحو الباب وهتفت:
– يبدو لي وكأني كنت أري ما سيجري عندما خرج حاملا الديك تحت ذراعيه. لقد حذرته بألا يذهب بحثا عن موته في ملعب مصارعة الديوك، ولكنه كشر عن أسنانه وقال لي: ‘اصمتي، فهذا المساء سنتعفن من كثرة النقود’.
سقطت منهكة دفعها برفق الكولونيل نحو الوسادة. واصطدمت عيناه بعينين مشابهتين تماما لعينيه. ‘حاولي ألا تتحركي’، قال لها وهو يحس بالصفير وكأنه في رئتيه هو. راحت المرأة في غيبوبة قصيرة. أطبقت عينيها. وعندما فتحتهما من جديد كان تنفسها يبدو أكثر انتظاما.
قالت:
– أن هذا بسبب الحالة التي أصبحنا بها. فمن الكفر اقتطاع الخبز عن أفواهنا وإعطاؤه للديك.
جفف لها الكولونيل جبهتها بشرشف السرير.
– لا أحد يموت في ثلاثة شهور.
– وماذا سنأكل خلال هذا الوقت – تساءلت المرأة.
فقال الكولونيل:
– لست أدري ولكن لو إننا سنموت من الجوع لكنا قد متنا منذ زمن.
كان الديك يقف الآن بكامل حيويته أمام العلبة الفارغة. وعندما رأي الكولونيل أطلق صوتا حلقيا، شبه إنساني، وقذف رأسه إلى الوراء. فبادله الكولونيل ابتسامة شريك في الجريمة، وقال:
– إن الحياة قاسية أيها الرفيق.
خرج إلى الشارع. وتسكع في القرية التي تنام القيلولة دون أن يفكر بشيء، وحتى دون أن يحاول إقناع نفسه بان مشكلته ليس لها من حلٌ. سار في شوارع مقفرة إلى أن وجد نفسه منهكا. عندها رجع إلى البيت. أحست المرأة بدخوله ونادته إلى الغرفة.
– ماذا تريدين؟
فأجابت دون أن تنظر إليه:
– يمكننا أن نبيع الساعة.
كان الكولونيل قد فكر بهذا. قالت المرأة: ‘إني متأكدة بان ألفارو سيعطيك أربعين بيزو في الحال.. تصور بأية سهولة اشتري منا قبلا ماكينة الخياطة’.
أنها تتكلم عن الخياط الذي كان اغوستين يعمل عنده.
– يمكنني أن أحدثه في الصباح بهذا الخصوص – قال الكولونيل بضيق.
فقالت هي بصراحة:
– لاشيء للكلام في الصباح. خذ الساعة إليه الآن، وضعها أمامه على الطاولة وقل له: ‘يا الفارو، لقد أحضرت لك هذه الساعة لتشتريها مني’. وسيفهم هو في الحال.
شعر الكولونيل بالتعاسة، وقال معترضا:
– أن حملها سيكون كمن يحمل لحدا. ولو رآني الناس في الشارع حاملا هذه الواجهة فإنهم سيؤلفون عني أغنية من أغاني رافائيل اسكالونا.
ولكن زوجته أقنعته هذه المرة أيضا. ونزعت بنفسها الساعة عن الجدار، لفتها بورق الصحف ووضعتها بين يديه قائلة: ‘لن ترجع إلى هنا دون الأربعين بيزو’.
اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط حاملا اللفافة تحت ذراعه. ووجد أصدقاء أغوستين يجلسون أمام الباب.
قدم إليه أحدهم مقعدا. ‘شكرا’، قال الكولونيل وقد تبلبلت أفكاره، ثم أردف: ‘لقد كنت مارا من هنا بالصدفة’.
خرج الفارو من الدكان حاملا قطعة قماش قطني مبللة بالماء وعلقها في الممر على سلك ممتد بين دعامتين. كان شابا، له تركيب قاس كثير النتوءات وعينان ذاهلتان. وقد دعاه هو أيضا للجلوس. أحس الكولونيل بالانتعاش. أسند الكرسي الذي بلا مسند إلى إطار الباب وجلس ينتظر ريثما يبقي الفارو وحيدا ليعرض عليه الصفقة. وفجأة أحس بأنه محاط بوجوه مقطبة.
قال:
ألا أزعجكم.
اعترضوا جميعهم على هذا. وانحني أحدهم نحوه وقال بصوت لا يكاد يسمع:
لقد كتب أغوستين.
راقب الكولونيل الشارع المقفر، وسأل:
ماذا يقول؟
ما يقوله دائما.
أعطوه المنشور السري، فأخفاه الكولونيل في جيب البنطال. وبقي صامتا ينقر بأصابعه على الساعة المغطاة حتى انتبه إلى أن هناك من يكلمه. فتوقف عن النقر حائرا.
ماذا تحمل معك أيها الكولونيل؟
تفادي الكولونيل عيني خيرمان الخضراوين النافذتين. وقال كاذبا:
لا شيء. إني أحمل الساعة إلى الألماني ليصلحها لي.
‘لا تكن أحمق أيها الكولونيل. انتظر، وسأفحصها لك’، قال خيرمان وهو يحاول انتزاع الساعة منه.
قاوم. لم يقل شيئا ولكن رموشه أصبحت شهباء. فأصر الآخرون:
أعطه الساعة أيها الكولونيل، فهو يفهم في الآلات.
إنني لا أريد إزعاجه.
فرد عليه خيرمان، وهو يأخذ الساعة منه:
أي إزعاج هذا. أن الألماني سينتزع منك عشرة بيزوات ويترك الساعة على حالها.
دخل خيرمان إلى الدكان حاملا الساعة. كان الفارو يعمل وراء ماكينة الخياطة. و في آخر الدكان، تحت غيتار. معلق بمسمار، كانت تجلس فتاة تقوم بتثبيت الأزرار. وفوق الغيتار لوحة كتب عليها: ‘ممنوع التكلم بالسياسة’.
أحس الكولونيل بأن جسده أصبح أثقل. فأسند أقدامه على عارضة الكرسي.
خراء، أيها الكولونيل.
فوجىء الكولونيل لهذه العبارة، وقال: ‘بدون كلمات نابية’.
ثبت الفونسو النظارات على أنفه ليتفحص بشكل أفضل حذاء الكولونيل ذا الكعب العالي، ثم قال:
إني أتكلم عن الحذاء. فأنت تلبس حذاء مريعا.
ولكنك تستطيع قول ذلك دون كلمات نابية قال الكولونيل، وعرض عليه نعل الحذاء قائلا:
لقد أصبح عمر هذا الحذاء الفظيع أربعين عاما، وها هو يسمع الآن لأول مرة كلمة نابية.
‘قضي الأمر’، صرخ خيرمان من الداخل في نفس الوقت الذي انطلقت به دقات الساعة. وفي البيت المجاور، ضربت امرأة على الجدار الفاصل، وصرخت:
دعوا هذا الغيتار جانبا، فلم تمض سنة بعد على موت اغوستين.
انفجرت قهقهة عالية.
أنها الساعة.
خرج خيرمان حاملا الساعة الملفوفة، وقال:
لم يكن بها شيء، إذا أردت فسأصطحبك إلى البيت لأعلقها مكانها.
رفض الكولونيل العرض.
بكم أنا مدين لك؟
لا تهتم بهذا أيها الكولونيل، فالديك سيدفع في كانون الثاني (يناير). رد عليه خيرمان وهو يحتل مكانه بين المجموعة.
عندها وجد الكولونيل أن الفرصة مواتية، فقال له:
إني أعرض عليك شيئا.
ما هو؟
أهديك الديك. ثم تفحص الوجوه المحيطة به وقال:
إني أهدي الديك لكم جميعا.
تطلع إليه خيرمان حائرا.
‘لقد أصبحت عجوزا على هذه الأمور’، تابع الكولونيل كلامه وقد هيمنت على صوته صرامة مقنعة. ‘انه مسئولية كبيرة بالنسبة لي. ومنذ أيام وأنا أشعر بأن الحيوان يموت شيئا فشيئا’.
قال ألفونسو:
لا تهتم لهذا أيها الكولونيل، كل ما في الأمر أن الديك يبدل ريشه في هذه الفترة، ولذا فإن منابت الريش تكون ملتهبة.
وقال خيرمان مؤكدا:
في الشهر القادم سيكون في حالة جيدة.
على كل حال أنا لا أريده قال الكولونيل.
اخترقه خيرمان بنظرات حدقتيه، وقال بإصرار:
تذكر أيها الكولونيل أن الأمر المهم، هو أن تكون أنت من يضع ديك اغوستين في حلبة الصراع يوم المباراة.
فكر الكولونيل بهذا، وقال: ‘إني مدرك للأمر. ولهذا السبب احتفظ بالديك حتى الآن’. ضغط على أسنانه وأحس بقوة تجعله يتقدم:
ولكن السيئ في الأمر هو مازال أمامنا ثلاثة شهور. كان خيرمان أول من فهمه، فقال:
إذا لم يكن هناك شيء آخر سوي هذا الأمر فليس من مشكلة.
ثم اقترح حله للمسألة.. ووافق الآخرون. وفي أوائل الليل، عندما دخل إلى البيت واللفافة تحت ذراعه، شعرت امرأته بالإحباط، وسألته:
لا شيء.
لا شيء أجابها الكولونيل، ثم أردف:
ولكن الأمر ليس مهما الآن، فالشباب سيؤمنون الغذاء للديك.
انتظر وسأعيرك مظلة أيها الصديق.
فتح دون ساباس خزانة مركبة في جدار المكتب. وكشف عن محتوياتها المكركبة، منها جزم متلبدة لركوب الخيل، وحلقات ركائب، وأحزمة وسيور جلدية وإناء من الألمنيوم مليء بالمهاميز التي يستخدمها الخيالة. وفي القسم العلوي من الخزانة توجد نصف دزينة من المظلات المعلقة إلى جانب قبعة نسائية.
‘شكرا يا صديقي’. قالها الكولونيل وهو يستند بمرفقيه إلى النافذة، ‘أفضل الانتظار حتى يتوقف المطر’. لم يغلق دون ساباس الخزانة. وجلس وراء المكتب ضمن مجال المروحة الكهربائية. ثم أخرج من الدرج حقنة ملفوفة بالقطن، وأخذ الكولونيل يتأمل أشجار اللوز الرصاصية من خلال المطر. لقد كان مساء مقفرا.
قال:
أن المطر مختلف من خلال هذه النافذة، فهو يبدو كأنه يهطل في قرية أخرى.
المطر هو المطر من أية زاوية نظرت إليه رد دون ساباس، وهو يضع الحقنة ليغليها على اللوح الزجاجي الذي يغطي المكتب، ثم أردف:
ما هذه القرية سوي براز.
هز الكولونيل كتفيه. وسار إلى وسط المكتب: صالة واسعة بلاطها أخضر وبها قطع موبيليا مغطاة بقماش ألوانه حيوية. وفي طرفه أكياس ملح، وخوابي عسل، وسروج خيل مكومة بفوضى. تابعه دون ساباس بنظرة فارغة تماما.
لو كنت مكانك لما فكرت هكذا قال الكولونيل. جلس مقاطعا ساقيه، وثبت نظرته الهادئة على الرجل المنحني فوق المكتب. كان رجلا قصيرا، ضخما ولكن لحمه مترهل، وفي عينيه حزن ضفدع حديثة الولادة.
قال دون ساباس:
اعرض نفسك على طبيب أيها الصديق. فأنت تبدو جنائزيا بعض الشيء منذ يوم الدفن.
رفع الكولونيل رأسه، وقال:
إنني في حالة جيدة.
انتظر دون ساباس حتى تغلي الحقنة. وقال متأسفا: ‘لو إني أستطيع أن أقول هذا! كم أنت محظوظ! فأنت قادر على أكل ركاب نحاسي’. تأمل ظاهر كفه ذات الشعر الغزير والمليئة بالنمش البني. كان يضع خاتما به فص أسود فوق خاتم الزواج.
هذا صحيح قال الكولونيل موافقا.
نادي دون ساباس زوجته من خلال الباب الذي يصل ما بين المكتب وبقية البيت. ثم بدأ بشرح مؤلم للنظام الغذائي الذي يتبعه. تناول زجاجة دواء صغيرة من جيب قميصه ووضع فوق المكتب قرص دواء أبيض بحجم حبة لوبيا، وقال:
انه تعذيب أن أحمل هذا معي في كل مكان أذهب إليه. انه كمن يحمل الموت في جيبه.
اقترب الكولونيل من المكتب. وتفحص قرص الدواء في كف يده إلى أن دعاه دون ساباس لتذوقه. ثم قال له شارحا:
انه لتحلية القهوة. أي، سكر ولكن بدون سكر.
فقال الكولونيل، ولعابه مضمخ بطعم الحلاوة الحزين:
فعلا، انه شيء يشبه قرع الأجراس ولكن دون أجراس. اتكأ دون ساباس على المكتب بمرفقيه ووجهه بين يديه بعد أن زرقته زوجته بالحقنة. لم يعد الكولونيل يعرف ما يفعله بجسده. أطفأت المروحة الكهربائية، ووضعتها فوق الصندوق المصفح ثم اتجهت نحو الخزانة قائلة:
أن للمظلات علاقة ما بالموت.
لم يعرها الكولونيل اهتماما. كان قد خرج من بيته في الساعة الرابعة وغرضه انتظار البريد، ولكن المطر اضطره إلى أن يلتجىء إلى مكتب دون ساباس. وعندما صفرت المراكب كان المطر ما يزال يهطل.
‘الجميع يقولون بأن الموت هو امرأة’، تابعت المرأة حديثها. لقد كانت بدينة وأطول من زوجها، ولها تؤلول مغطي بالشعر على شفتها العليا. تذكر طريقتها في الحديث بأزيز المروحة الكهربائية. ‘ولكني لا أعتقد بأنه امرأة’، قالت. ثم أغلقت الخزانة والتفتت وكأنها تستشير عيني الكولونيل:
إني اعتقد بأن الموت هو حيوان بأظلاف.
فقال لها الكولونيل موافقا:
ربما. فأحيانا تحدث أمور غريبة جدا.
فكر بموظف البريد وتخيله وهو يقفز إلى المركب مرتديا ممطرا من المشمع. لقد انقضي شهر على استبداله المحامي. وله الحق الآن بانتظار الرد. وتابعت زوجة دون ساباس الحديث عن الموت إلى أن انتبهت لتعابير الذهول التي تلف الكولونيل. فقالت:
لابد أن هنالك ما يشغل تفكيرك أيها الصديق.
استعاد الكولونيل وعيه، وقال كاذبا:
أجل أيتها الصديقة. إني أفكر بأن الساعة قد تجاوزت الخامسة ولم أعط الحقنة للديك بعد.
وقفت مشدوهة، ثم هتفت:
حقنة لديك وكأنه كائن بشري. أن هذا دنس.
لم يعد بامكان دون ساباس احتمالها. فرفع وجهه المحتقن، وأمر زوجته:
أغلقي فمك للحظة.
وفعلا رفعت يديها إلى فهمها. فتابع هو:
منذ نصف ساعة وأنت تزعجين صديقي بحماقاتك.
لا، أبدا قال الكولونيل معترضا.
صفقت المرأة الباب. وجفف دون ساباس رقبته بمنديل مضمخ بالخزامى.
اقترب الكولونيل من النافذة. كان المطر يهطل دون توقف. ودجاجة لها قوائم صفراء طويلة تعبر الساحة المقفرة.
هل صحيح أنكم تحقنون الديك؟
أجل صحيح. فالتمرينات ستبدأ في الأسبوع القادم قال الكولونيل.
فقال دون ساباس:
أن هذا تهور. فأنت لست مهيئا لهذه الأعمال.
قال الكولونيل:
أجل، ولكن هذا ليس سببا للوي عنق الديك.
‘أنها مجازفة حمقاء’ قال دون ساباس وهو يتجه إلى النافذة. أخذ الكولونيل نفسا ككير حداد. وعينا صديقه جعلته يشعر بالشفقة على نفسه.
قال دون ساباس:
خذ نصيحتي أيها الصديق. خير لك أن تبيع هذا الديك قبل أن يصبح الوقت متأخرا.
ليس ثمة ما يؤسف عليه أبدا.
فقال دون ساباس بإصرار:
لا تكن واهما. أن هذا الديك صفقة بحدين: فمن ناحية سترفع عن كاهلك وجع الرأس، ومن ناحية أخرى ستضع في جيبك مبلغ تسعمائة بيزو.
تسعمائة بيزو هتف الكولونيل.
أجل، تسعمائة بيزو.
أتعتقد بأنهم يدفعون هذا الثمن مقابل الديك؟
أجابه دون ساباس:
ليس الأمر اعتقادا. إني متأكد من هذا.
كان هذا الرقم هو أعلى رقم دخل رأس الكولونيل منذ سلم ميزانية الثورة. وعندما خرج من مكتب دون ساباس أحس بأحشائه تتلوي، ولكنه كان على يقين هذه المرة بأن الألم لم يكن بسبب الطقس. وفي مكتب البريد اتجه مباشرة إلى الموظف، وقال:
إني انتظر رسالة مستعجلة. ستصل بالطائرة.
بحث الموظف في الكوى المصنفة وعندما انتهي من القراءة وضع الرسائل حسب الحروف المطابقة لها ولكنه لم يقل شيئا. نفض راحتيه ووجه إلى الكولونيل نظرة ذات مغزى.
كان يجب أن تصلني اليوم بكل تأكيد قال الكولونيل.
هز الموظف كتفيه. وقال
الشيء الوحيد الذي يصل بكل تأكيد هو الموت أيها الكولونيل.
استقبلته زوجته بطبق من عصيدة ‘ماثامورا’ الذرة. أكله صامتا، وكان يتوقف طويلا ليفكر ما بين ملعقة وأخرى. خمنت امرأته التي كانت تجلس مقابله بأن ثمة أمرا قد تغير في البيت، فسألته:
ماذا جري لك؟
قال الكولونيل كاذبا:
إني أفكر بالموظف المسئول عن التقاعد. فخلال خمسين عاما سنكون تحت التراب مطمئنين. بينما هذا الرجل المسكين سيحتضر كل يوم جمعة وهو ينتظر راتبه التقاعدي.
‘أنها بادرة سيئة.. فهذا يعني انك بدأت تخضع للقدر’. قالت المرأة، وتابعت تناول العصيدة. ولكنها انتبهت بعد برهة إلى أن زوجها مازال غائبا.
أن ما عليك عمله الآن هو أن تلتهم هذه العصيدة. فقال الكولونيل:
أنها لذيذة جدا. من أين طلعت بها؟
أجابت المرأة:
من الديك. فقد أحضر له الشبان كثيرا من الذرة، وقرر هو أن يقاسمنا إياها.. هكذا هي الحياة.
تنهد الكولونيل:
نعم هكذا. أن الحياة هي أفضل شيء تم اختراعه.
نظر إلى الديك المربوط بدعامة الموقد وبدا له هذه المرة حيوانا مختلفا. ونظرت المرأة إليه أيضا، وقالت:
هذا المساء اضطررت لإخراج الصبيان بالعصا. فقد أحضروا دجاجة هرمة ليجامعوها مع الديك.
قال الكولونيل:
ليست المرة الأولي التي يحدث هذا. فهكذا كانوا يفعلون في القرى مع الكولونيل أوربليانو بوينديا. إذا كانوا يحضرون له الصبايا ليضاجعهن.
أعجبت هي بالمقارنة الطريفة. وأصدر الديك صوتا من حلقه وصل إلى الممر كصوت إنساني مكتوم. ‘أحس أحيانا وكأن هذا الحيوان سينطلق متكلما’ قالت المرأة. وعاد الكولونيل لينظر إليه، وقال:
انه ديك حاك وصائح.
ثم أجري بذهنه عمليات حسابية بينما كان يتناول ملعقة من العصيدة، وقال:
انه يكفي لإطعامنا ثلاث سنوات.
الأحلام لا تؤكل قالت المرأة.
لا تؤكل، ولكنها تغذي رد الكولونيل، ثم تابع: أنها شبيهة بعض الشيء بالحبوب العجيبة التي يتناولها صديقي دون ساباس.
نام نوما سيئا هذه الليلة وهو يحاول أن يمحو أرقاما من رأسه. في اليوم التالي عند الغداء قدمت المرأة صحنين من عصيدة الذرة، والتهمت طبقها ورأسها منحنيا، دون أن تتلفظ بكلمة واحدة. أحس الكولونيل وكأنه مصاب بعدوي تعكر المزاج.
بماذا تفكرين؟
لا شيء قالت المرأة.
سيطر عليه انطباع بأن دور زوجته في الكذب قد جاء هذه المرة. حاول أن يجرها للكلام. ولكن المرأة أصرت:
لست أفكر بشيء غريب. إني أفكر بأن قرابة شهرين قد انقضيا على رحيل الميت ولم أذهب لأعزي حتى الآن.
وهكذا ذهبت لتقديم العزاء هذه الليلة. اصطحبها الكولونيل حتى بيت الميت ثم توجه إلى صالة السينما تجذبه الموسيقي المنبعثة من مكبرات الصوت. كان الأب أنخل يجلس على باب مكتبه مراقبا مدخل السينما ليعرف الذين يحضرون العرض بالرغم من تحذيراته الإثني عشر. تموجات الضوء، والموسيقي الصاخبة وصرخات الأطفال فرضت مقاومة طبيعية في الحي. هدد أحد الأطفال الكولونيل ببندقية خشبية وقال له بصوت متسلط فوقي:
ما هي أخبار الديك أيها الكولونيل.
رفع الكولونيل يديه.
ها هو الديك.
كان ثمة ملصق بأربعة ألوان يحتل واجهة الصالة بكاملها كتب عليها (عذراء منتصف الليل). وعليه رسم امرأة ترتدي ملابس الرقص وإحدى ساقيها عارية حتى الفخذ. تابع الكولونيل التسكع في المكان إلى أن انفجرت رعود وبروق بعيدة. وعندما عاد إلى حيث ذهبت زوجته، لم يجدها في بيت الميت، ولا في بيتها وقدر الكولونيل بأنه لم يبق وقت قصير على بدء منع التجول، ولكن الساعة كانت متوقفة، انتظر، وهو يشعر بالعاصفة تقترب من القرية. وعندما تأهب ليخرج من جديد دخلت زوجته إلى البيت.
حمل الديك إلى غرفة النوم. وأبدلت هي ثيابها ثم مضت لتشرب ماء من الصالة في الوقت الذي كان به الكولونيل قد انتهي من ملء الساعة وجلس ينتظر إشارة منع التجول ليضبط الساعة.
سألها الكولونيل:
أين كنت؟
‘هنا’، أجابت المرأة. ووضعت الكأس على الخابية دون أن تنظر إلى زوجها وعادت إلى غرفة النوم، وقالت: ‘لم يكن أحد يصدق بأنها ستمطر بهذه السرعة’. لم يعلق الكولونيل بشيء. وعندما دقت إشارة منع التجول ضبط الساعة على الحادية عشرة، ثم أغلق الزجاج وأعاد الكرسي إلى وضعه. وجد زوجته تصلي صلاة المساء.
لم تجيبي على سؤالي قال لها الكولونيل.
أي سؤال.
أين كنت؟
فقالت هي:
لقد كنت أتحدث مع الناس. فمنذ زمن طويل لم أخرج إلى الشارع.
علق الكولونيل سرير نومه. وأغلق باب البيت ورش الغرفة بالمبيدات. بعد ذلك وضع المصباح على الأرض واستلقي في السرير. ثم قال بأسي:
إني أفهمك. فأسوأ ما في حالات الشدة هو أنها تجبر المرء على الكذب.
نفثت هي زفرة طويلة، وقالت:
لقد ذهبت إلى الأب أنجل. ذهبت لأطلب منه قرضا مقابل خاتمي الزواج.
وماذا قال لك؟
قال: إن المتاجرة بالأغراض المقدسة، خطيئة.
وتابعت من وراء الكلة: ‘منذ يومين حاولت أن أبيع الساعة. ولكن لم يقبل شراءها أحد، لأنهم يبيعون الآن بالتقسيط ساعات حديثة لها أرقام مضيئة، يمكن رؤية الوقت بها في الظلام’. تحقق الكولونيل من أن أربعين سنة من الحياة المشتركة ، ومن الجوع المشترك، والمقاساة المشتركة، لم تكن كافية ليتعرف على زوجته. وأحس بأن شيئا قد شاخ في الحب أيضا.
قالت هي:
ولم يقبل أحد شراء اللوحة. فالجميع تقريبا لديهم نفس اللوحة.. حتى إنني ذهبت إلى منطقة الأتراك.
شعر الكولونيل بالمرارة:
وبهذا أصبح الجميع الآن يعرفون بأننا نموت جوعا.
فقالت المرأة:
لقد تعبت. فأنتم معشر الرجال لا تنتبهون إلى مشاكل البيت. لقد وضعت عدة مرات حجارة في القدر وغليتها كي لا يعرف الجيران بأنه ليس لدينا ما نملأ به القدر.
شعر الكولونيل بالاستفزاز، فقال:
أن هذا الذي فعلته هو المسكنة الحقيقية.
غادرت المرأة الكلة واتجهت نحو السرير المعلق قائلة: ‘إني مستعدة لأقضي على التصنع والأوهام في هذا البيت’.. بدأ صوتها يكفهر غضبا: ‘لقد طفح كيلي من الصبر والوقار’.
لم يحرك الكولونيل عضلة واحدة في جسده.
وتابعت هي:
عشرون سنة وأنا أنتظر العصافير الملونة التي يعدونك بها بعد كل انتخابات، ومن كل هذا الانتظار بقي لنا ابن ميت.. لا شيء سوي ابن ميت.
قال الكولونيل الذي كان معتادا على هذا النوع من المهاترات:
لقد قمنا بواجبنا.
فردت المرأة:
وهم قاموا بكسب ألف بيزو شهريا في مجلس النواب طوال عشرين سنة. فهذا صديقنا دون ساباس وبيته ذو الطبقتين الذي لا يتسع لأمواله. لقد أتي إلى القرية كبائع أدوية يعلق أفعى حول عنقه.
ولكنه يموت شيئا فشيئا بالسكري قال الكولونيل. فردت المرأة:
وأنت تموت جوعا. كل هذا لتتأكد أن الوقار لا يؤكل.
قطع البرق عليها حديثها، ثم انفجر الرعد في الخارج، ودخل إلى غرفة النوم ومرق إلى ما تحت السرير مثل سيل من الحجارة. قفزت المرأة بحثا عن مسبحتها.
ابتسم الكولونيل وقال:
أن هذا يصيبك لأنك لا تكبحين لسانك. لقد قلت لك دائما أن الرب عضو في حزبنا.
ولكنه في الواقع كان يشعر بالمرارة. بعد لحظات أطفأ المصباح وغرق في التفكير وسط ظلام يشقه البرق. تذكر ماكوندو، لقد انتظر الكولونيل عشر سنوات حتى تتحقق مواثيق ميرلانديا. وفي غيبوبة قيظ الظهيرة رأي قطارا أصفر يصل معفرا بالغبار ومحملا بالرجال والنساء والحيوانات الذين سحق الحر أنفاسهم، وهم مكدسون في كل مكان، وحتى على سطح العربات. تلك الفترة كانت فترة حمي الموز. وخلال أربع وعشرين ساعة عمروا القرية. عندها قال الكولونيل: ‘إني ذاهب، فرائحة الموز تعفن أمعائي’ وغادر ماكوندو في قطار العودة، يوم الأربعاء السابع والعشرين من يوليو (تموز) سنة ألف وتسعمائة وست، في الساعة الثانية وثماني عشرة دقيقة بعد الظهر. لقد احتاج لنصف قرن بعدها ليكتشف. انه لم ينعم بدقيقة راحة بعد الاستسلام في نيرلانديا.
فتح عينيه، وقال:
إذن يجب ألا نفكر في الأمر بعد الآن.
ماذا؟
قال الكولونيل:
أعني مسألة الديك.. غدا بالذات سأبيعه إلى صديقي ساباس بمبلغ تسعمائة بيزو.
******
نفذ
إلى المكتب، من خلال النافذة، أنين الحيوانات المخصية مختلطا بصرخات دون ساباس. ‘إذا لم يأت خلال عشر دقائق فسوف اذهب’، هكذا عاهد الكولونيل نفسه بعد أن أمضي ساعتين في الانتظار، ولكنه انتظر عشرين دقيقة أخرى. وكان يتهيأ للخروج عندما دخل دون ساباس إلى المكتب تتبعه مجموعة من العمال المساعدين. مر دون ساباس عدة مرات أمام الكولونيل دون أن يلتفت إليه. وانتبه لوجوده عندما خرج العمال فقط.
هل تنتظرني أيها الصديق؟
قال الكولونيل:
أجل يا صديقي. ولكن إذا كنت مشغولا فسأعود فيما بعد.
لم يسمعه دون ساباس لأنه أصبح في الناحية الأخرى من الباب ولكنه قال له وهو يخرج:
سأعود حالا.
كانت ظهيرة متقدة. والمكتب يلتهب بالحر المنعكس إليه من الشارع. أغمض الكولونيل، الذي خدره الحر، عينيه رغم أرادته. وفي الحال بدأ يحلم بزوجته.
دخلت زوجة دون ساباس على رؤوس أصابعها وقالت له:
لا تستيقظ أيها الصديق، سأغلق الأباجور فقط، لأن المكتب صار جهنما.
لاحقها الكولونيل بنظرة غائبة عن الوعي تماما. قالت وهي في الظل بعد أن أغلقت الأباجور:
هل تحلم كثيرا في نومك؟
شعر الكولونيل بالخجل لأنه نام، وأجابها :
أحيانا وأري نفسي في جميع أحلامي تقريبا وأنا أتخبط في شبكة عنكبوت.
قالت المرأة:
أنا أعاني من الكوابيس كل ليلة. ولكني بدأت أعرف الآن من هم هؤلاء الناس المجهولون الذين يظهرون لنا في الأحلام.
أدارت المروحة الكهربائية، وقالت: ‘في الأسبوع الماضي ظهرت لي في الحلم امرأة وقفت على رأس سريري. وقد وجدت الشجاعة لأسألها من تكون، فأجابتني قائلة: أنا المرأة التي ماتت في هذه الغرفة منذ اثنتي عشرة سنة’.
فقال الكولونيل:
ولكن لم تكد تمضي سنتان بعد على بناء هذا البيت.
نعم. وهذا يعني أن الأموات يخطئون أيضا.
جعل أزيز المروحة الكهربائية البرودة أكثر رسوخا. وشعر الكولونيل بفقدان الصبر والاضطراب بسبب النعاس الذي غلبه وبسبب هذه المرأة البدينة التي انتقلت فورا من الحديث عن الأحلام إلى تجسد الموتى وعودتهم ثانية إلى الحياة. وكان ينتظر فرصة تتوقف فيها عن الحديث لينصرف عندما دخل ساباس إلى المكتب مع رئيس عماله. فقالت له المرأة:
لقد سخنت لك الحساء أربع مرات حتى الآن.
قال دون ساباس:
سخنيه عشر مرات إذا شئت. ولكن لا تثيري أعصابي وتجعليني أفقد صبري الآن.
فتح صندوق السيولة النقدية وسلم لرئيس عماله رزمة من الأوراق المالية ومعها قائمة تعليمات. فتح رئيس العمال الأباجورات ليعد النقود. لمح دون ساباس بالكولونيل في طرف المكتب ولكنه لم يبد أي تأثر، بل تابع حديثه مع رئيس عماله. نهض الكولونيل في اللحظة التي كان الرجلان يستعدان بها لمغادرة المكتب من جديد. فتوقف دون ساباس قبل أن يفتح الباب، وقال:
ماذا أستطيع أن أقدم لك أيها الصديق؟
انتبه الكولونيل إلى رئيس العمال ينظر إليه، فقال:
لا شيء يا صديقي، كنت أود التحدث إليك. فقال دون ساباس:
مهما كان الأمر، يمكنك قوله الآن حالا. لأني لا أستطيع إضاعة دقيقة واحدة.
وظل واقفا ويده ممسكة بقبضة الباب الكروية. شعر الكولونيل بانقضاء أطول خمس ثوان في حياته، فضغط على أسنانه ودمدم:
إن الأمر يتعلق بمسألة الديك.
عندها كان دون ساباس قد انتهي من فتح الباب. ‘مسألة الديك’، كرر مبتسما، وقاد رئيس عماله نحو الممر ‘إن العالم يهوي بينما صديقي مشغول بهذا الديك’. ثم قال موجها حديثه إلى الكولونيل:
حسنا جدا أيها الصديق، سأعود حالا.
وقف الكولونيل وسط المكتب بلا حراك حتى تلاشي وقع خطوات الرجلين في آخر الممر. وخرج بعد ذلك ليسير في شوارع القرية المشلولة في قيلولة الأحد. لم يجد أحدا في دكان الخياط. وعيادة الطبيب كانت مغلقة. ولم يكن هناك من يحرس البضائع المعروضة في متاجر السوريين. كان النهر كصفحة من الرصاص. وثمة رجل نائم على أربعة براميل بترول في الميناء، يقي وجهه من الشمس بقبعة. اتجه الكولونيل إلى بيته متيقنا بأنه المكان الوحيد الحيوي في القرية. كانت زوجته تنتظره وقد أعدت وجبة غداء كاملة.
قالت مفسرة:
لقد استدنت ووعدت أن أدفع غدا صباحا.
خلال تناول الغداء روي لها الكولونيل أحداث الساعات الثلاث الأخيرة. واستمعت إليه جزعة، ثم قالت عندما انتهي:
كل ما في الأمر انك لا تملك شخصية قوية. فأنت تذهب وكأنك ذاهب لطلب صدقة بينما يجب عليك أن تدخل مرفوع الرأس وتنادي صديقك جانبا وتقول له: ‘أيها الصديق، لقد قررت أن أبيعك الديك’.
فقال الكولونيل:
هكذا هي الحياة، أنها نفحة.
كانت تسيطر عليها حالة من الحماس. فقد رتبت البيت صباح هذا اليوم وارتدت ملابسها بطريقة غير مألوفة، إذ لبست حذاء زوجها القديم، ومريلة من المشمع، وربطت على رأسها مزقة من القماش معقودة بعقدتين عند الأذنين. قالت له: ‘ليس لديك أدني حس تجاري. فمن يذهب ليبيع شيئا ما يجب أن يتخذ نفس هيئة من يذهب ليشتري’.
لاحظ الكولونيل بعض الطرافة في شكلها. فقاطعها ضاحكا:
ابق هكذا كما أنت الآن، لأن تشبهين الرجل القصير بائع الجلبان.
نزعت مزقة القماش عن رأسها، وقالت:
إني أكلمك بجدية.. سآخذ الديك حالا إلى صديقنا وأراهنك على ما تشاء بأني سأعود خلال نصف ساعة ومعي تسعمائة بيزو.
قال لها الكولونيل:
لقد أدارت الأرقام رأسك. وها قد بدأت تلعبين بثمن الديك.
لقد كلفه كثيرا إقناعها بالعدول عن رأيها. إذ أنها بدأت منذ الصباح بتنظيم برنامج في ذهنها. للسنوات الثلاث القادمة التي سيمضيانها دون احتضار أيام الجمعة في انتظار البريد. وأعدت البيت لاستقبال التسعمائة بيزو، فنظمت لائحة بالأشياء الأساسية التي لا يملكانها، دون أن تنسي تسجيل حذاء جديد للكولونيل. وأفسحت مكانا في حجرة النوم للمرآة. إن هذه الضربة المفاجئة لجميع مشاريعها جعلتها تضطرم بإحساس من الخجل والحقد.
نامت قيلولة قصيرة. وعندما استيقظت كان الكولونيل جالسا في البهو.
وماذا ستفعل الآن؟ سألته هي:
فقال الكولونيل:
إني أفكر.
إذن، فقد حلت المشكلة: سنحصل على تلك النقود خلال خمسين سنة.
ولكن الكولونيل كان قد قرر. في الواقع، أن يبيع الديك مساء هذا اليوم بالذات. فكر بدون ساباس، وتخيله وحيدا في مكتبه، يتهيأ أمام المروحة الكهربائية لأخذ حقنة الأنسولين اليومية. كان قد أعد ما سيقوله.
خذ الديك معك. فرؤية وجه القديس تصنع المعجزات قالت له زوجته وهو خارج.
رفض الكولونيل ذلك. ولكنها تبعته حتى الباب الخارجي بقلق يائس، وقالت:
ليس مهما أن يكون هناك فيلق من الناس، خذه من ذراعه وتنح به جانبا ولا تدعه يتحرك قبل أن يعطيك التسعمائة بيزو.
سيظنون إننا نعد الانقلاب.
لم تهتم هي بهذا. وقالت بإصرار:
تذكر أنك أنت صاحب الديك. وتذكر أنك أنت الذي ستقدم له معروفا ببيعه الديك.
حسنا.
كان دون ساباس في غرفة نومه مع الطبيب. فقالت زوجته للكولونيل: ‘انتهز الفرصة الآن أيها الصديق. إن الطبيب يفحصه لأنه سيذهب إلى المزرعة ولن يعود حتى يوم الخميس’.
درس الكولونيل الأمر وهو بين قوتين متعارضتين تتجاذبانه فرغم قراره الحاسم ببيع الديك. رغب لو أنه وصل بعد ساعة حتى لا يجد دون ساباس.
أستطيع أن أنتظر قال لها.
ولكن زوجة دون ساباس أصرت عليه. وقادته إلى غرفة النوم حيث كان زوجها جالسا بسرواله الداخلي على سرير كالعرش، بينما ثبت على الطبيب عينيه اللتين بلا بريق. وانتظر الكولونيل حتى انتهي الطبيب من تسخين أنبوب زجاجي به عينه من بول المريض، ثم شم البخار المتصاعد منه وأشار إلى دون ساباس إشارة النجاح.
قال الطبيب متوجها إلى الكولونيل:
يجب رميه بالرصاص. فالسكري يتباطأ كثيرا بالقضاء على الأغنياء.
‘لقد فعلت أنت كل ما تستطيع لذلك بواسطة حقن الأنسولين اللعينة التي أعطيتني إياها’. قال دون ساباس وهو يربت على اليتيه المترهلتين، وتابع: ‘ولكني مسمار قاس على الأكل’. بعدها اتجه نحو الكولونيل قائلا:
اقترب أيها الصديق.. عندما خرجت في الظهيرة بحثا عنك لم أجد حتى ولا قبعتك.
لا أستخدم قبعة كي لا أضطر لرفعها أمام أحد.
بدأ دون ساباس بارتداء ملابسه. ودس الطبيب في جيب سترته انبوبا زجاجيا به عينة من الدم. ثم رتب محتويات حقيبته. وظن الكولونيل بأن الطبيب يستعد للذهاب، فقال له:
لو كنت مكانك يا دكتور لقدمت لصديقنا قائمة حساب بمئة ألف بيزو. فهكذا ستصبح همومه أقل.
قال الطبيب:
لقد عرضت عليه هذه الصفقة، ولكني طلبت مليونا. فالفقر هو أفضل علاج للسكري.
‘شكرا لهذه الوصفة’، قال دون ساباس وهو يحاول أن يحشر كرشه الضخم في البنطال الخاص بركوب الخيل، ثم أردف ‘ولكني لن أقبل بها لأحول دون أن تصبح أنت غنيا وتصاب بالمرض’.
رأي الطبيب أسنانه التي انعكست على غطاء حقيبته المعدني. ثم نظر إلى ساعته دون أن يبدو عليه الاستعجال. وعندما بدأ دون ساباس بلبس جزمته اتجه نحو الكولونيل الذي أتي في وقت غير مناسب.
حسنا أيها الصديق، ما الذي حصل للديك.
وانتبه الكولونيل إلى أن الطبيب أيضا سيسمع جوابه. فضغط على أسنانه ودمدم:
لا شيء أيها الصديق. أني آت لأبيعك إياه.
انتهي دون ساباس من لبس الجزمة، وقال دون تأثر:
حسنا أيها الصديق.. أنها أعقل فكرة خطرت لك.
وأمام تعابير عدم الفهم التي ظهرت على وجه الطبيب، قدم الكولونيل تبريره قائلا:
لقد أصبحت كبيرا على هذه الأمور. ولو أن عمري أقل بعشرين سنة مما أنا عليه لكان الأمر مختلفا.
فرد الطبيب: أنت دائما أصغر من عمرك بعشرين سنة.
استرد الكولونيل أنفاسه. وانتظر من دون ساباس أن يقول له شيئا، ولكنه لم يفعل، وإنما ارتدي سترة جلدية لها سحاب وتأهب للخروج من غرفة النوم فقال الكولونيل:
يمكننا أن نتحدث بهذا الأمر في الأسبوع القادم إذا شئت.
هذا ما كنت سأقوله لك قال دون ساباس، ثم أردف:
لدي زبون قد يدفع لك أربعمائة بيزو ثمنا للديك.
ولكن يجب الانتظار حتى يوم الخميس.
كم؟ تساءل الطبيب.
أربعمائة بيزو.
فقال الطبيب:
لقد سمعت بأنه يساوي أكثر من هذا المبلغ بكثير.
استغل الكولونيل استغراب الطبيب ليقول لصديقه:
كنت قد حدثتني عن تسعمائة بيزو.. إنه أفضل ديك في الناحية كلها.
رد دون ساباس على الطبيب شارحا:
‘في وقت سابق كان يمكن لأي كان أن يدفع ألف بيزو ثمنا له. أما الآن فليس هناك من يتجرأ على إطلاق ديك جيد. فثمة خطر دائما في أن يخرج من حلقة المصارعة صريعا بالرصاص’. ثم التفت نحو الكولونيل بحزن مفتعل بإتقان وقال:
هذا ما كنت أنوي قوله لك أيها الصديق.
أشار الكولونيل برأسه موافقا، وقال:
حسنا.
تبعهما في الممر وهما خارجان. ولكن الطبيب ظل في الصالة بدعوة من زوجة دون ساباس التي طلبت منه علاجا ‘لتلك الأشياء التي تصيب المرأة فجأة ولا أحد يعرف ما هي’. انتظر الكولونيل في المكتب. بينما فتح دون ساباس صندوق الخزنة، ودس نقودا في جميع جيوبه ثم مد إلى الكولونيل أربع أوراق نقدية. وقال:
هذا ستون بيزو أيها الصديق. وعندما يباع الديك نصفي الحساب.
سار الكولونيل برفقه الطبيب عبر متاجر شارع الميناء وقد أنعشتهما برودة المساء، بينما كان مركب شحن محمل بقصب السكر ينزلق مع تيار الماء البارد. لاحظ الكولونيل احتقانا في وجه الطبيب:
وأنت كيف حالك أيها الدكتور؟
هز الطبيب كتفيه وقال:
لا بأس. ولكني أعتقد بأني محتاج لاستشارة طبيب فقال الكولونيل:
إنه الشتاء، فهو يجعل أمعائي تتعفن.
تأمله الطبيب بنظرة خالية تماما من أي اهتمام مهني. وحيا السوريين الجالسين أمام أبواب متاجرهم واحدا واحدا. وأمام العيادة عرض الكولونيل موقفه في صفقة بيع الديك، إذ قال مفسرا:
لم أعد قادرا على عمل شيء آخر. لقد أصبح الحيوان يتغذى باللحم البشري.
قال الطبيب:
إن الحيوان الوحيد الذي يتغذى باللحم البشري هو دون ساباس.. إني متأكد انه سيبيع الديك بتسعمائة بيزو.
أتعتقد ذلك؟
إني متأكد.. فهذه صفقة تجارية مكشوفة مثلها كمثل صفقة التحالف الوطني مع العمدة.
رفض الكولونيل تصديق ذلك، وقال: ‘لقد قام صديقي بذلك التحالف مع العمدة لكي ينقذ جلده. وهكذا استطاع البقاء في القرية’.
فرد الطبيب:
‘وهكذا استطاع أيضا شراء أملاك أعضاء حزبه الذين طردهم العمدة من القرية بنصف ثمنها’. ثم دق على باب العيادة لأنه لم يجد المفتاح في جيوبه. والتفت بعد ذلك ليلتقي بوجه الكولونيل الذي لم يصدق كلامه، وقال:
لا تكن ساذجا. فصديق دون ساباس يهتم بالمال أكثر بكثير مما يهتم بجلده.
خرجت زوجة الكولونيل في هذه الليلة للتسوق. وقد رافقها زوجها حتى متاجر السوريين وهو يجتر في تأملاته ما قاله الطبيب.
قالت له زوجته:
أبحث حالا عن الشباب وأخبرهم بأنك قد بعت الديك.. يجب ألا تبقيهم على الأمل.
أجابها الكولونيل:
لا يمكن اعتبار الديك مباعا إلى أن يعود صديقي ساباس.
عندما ترك زوجته ذهب إلى صالة البلياردو وهناك وجد ألفارو وهو يلعب الروليت. كان المحل يعج بالناس ليلة الأحد. والحر يبدو أكثر كثافة بسبب جهاز الراديو الذي يبث بأعلى صوته. سرح الكولونيل في الأرقام ذات الألوان الحيوية المكتوبة على بساط مائدة الروليت الذي من الشمع الأسود،و المضاءة بمصباح بترولي موضوع على صندوق وسط الطاولة. كان الفارو وكأنه يصر على الخسارة يكرر المراهنة على الرقم ثلاثة وعشرين. وبينما كان الكولونيل يتابع اللعب من فوق كتف الفارو لاحظ أن الرقم أحد عشر قد كسب أربع مرات من أصل تسع. فهمس في أذن الفارو:
راهن على الأحد عشر، فهو الذي يكسب أكثر من غيره.
تفحص الفارو البساط. ولم يراهن في الدورة التالية. وإنما أخرج نقودا من جيب بنطاله، وبين النقود كانت توجد ورقة مطوية، قدمها إلى الكولونيل من تحت الطاولة، وقال:
أنها من اغوستين.
أخفي الكولونيل الورقة السرية في جيبه، وراهن الفارو على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
ابدأ بالقليل.
‘ربما تكون إصابة جيدة’، رد عليه الفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
ابدأ بالقليل.
‘ربما تكون إصابة جيدة’، رد عليه ألفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر عندما بدأت العجلة الكبيرة الملونة بالدوران. شعر الكولونيل بالتململ، فهو يجرب للمرة الأولى فتنة،و ذعر، وقلق الحظ.
كسب الرقم خمسة فقال الكولونيل خجلا:
إني آسف أشد الأسف.
ثم تابع بعينيه الذراع الخشبية وهي تسحب نقود الفارو، وقد سيطر عليه إحساس لا يقاوم بالشعور بالذنب، وقال:
أن هذا يصيبني لأني أحشر نفسي فيما لا يخصني. ابتسم الفارو دون أن ينظر إليه، وقال:
لا تهتم أيها الكولونيل. جرب حظك في الحب.
وفجأة قاطع الجميع نفير أبواق. فتفرق اللاعبون وقد رفعوا أيديهم إلى الأعلى. شعر الكولونيل بالصرير الجاف والبارد لأقسام بندقية تتهيأ من ورائه ففهم انه قد وقع وقعة مشئومة في مصيدة للشرطة وهو يحمل المنشور السري في جيبه. دار نصف دورة دون أن يرفع يديه. وعندها رأي بالقرب منه، ولأول مرة في حياته، الرجل الذي أطلق النار على ابنه. كان يقف مقابله وفوهة بندقيته مصوبة نحو بطنه. كان صغيرا، قصير الشعر، ويعبق برائحة طفولية. ضغط الكولونيل على أسنانه وأبعد عنه برفق وبأطراف أصابعه ماسورة البندقية، وقال:
بعد إذنك.
فواجهته عينان صغيرتان ودائريتان كعيني خفاش. وأحسٌّ لبرهة بأن هاتين العينين قد ابتلعتاه. ومضغتاه وهضمتاه، ثم لفظتاه مباشرة:
تفضل بالذهاب أيها الكولونيل.
****
لم
يكن بحاجة إلى فتح النافذة ليتأكد من أن كانون الأول ‘ديسمبر’ قد حل. فقد اكتشف ذلك في عظامه ذاتها عندما كان يقطع الفواكه من أجل إفطار الديك في المطبخ. بعد ذلك فتح الباب ورأي البهو فتأكد إحساسه. كان البهو بديعا، تغطيه الإعشاب والأشجار، أما المرحاض فكان يطفو في الضوء، على ارتفاع ميليمتر عن الأرض.
بقيت زوجته في الفراش حتى الساعة التاسعة. وعندما ظهرت في المطبخ كان زوجها قد انتهي من ترتيب البيت، ووقف يتحدث مع الصبيان عن الديك. واضطرت هي أن تقوم بالالتفاف من حولهم لتصل إلى الموقد. فصرخت بهم:
ابتعدوا من طريقي ثم وجهت نظرة عابسة إلى الديك وقالت:
لا أصدق تلك اللحظة التي سيخرج بها طير الشؤم هذا من البيت.
تفحص الكولونيل، من خلال الديك، مزاج زوجته. فلم يجد في الحيوان شيئا يدعو إلى التهجم. بل رآه مستعدا لبدء التدريب. كان عنق الحيوان وقوائمه وعرفه المخطط قد اتخذت صورة تامة، وزهوا لا يقاوم.
قال لها الكولونيل بعد ذهاب الصبيان:
أطلي من النافذة وانسي الديك. فالمرء يشعر في صباح كهذا برغبة لأخذ صورة.
أطلت هي من النافذة، ولكن وجهها لم يعكس أي تعبير.
‘أرغب بزرع الأزهار’ قالت وهي تعود إلى جانب الموقد. علق الكولونيل المرآة على الدعامة ليحلق ذقنه، وقال:
إذا كنت ترغبين بزراعة الأزهار، فازرعها.
حاول أن يتذكر حركاته من خلال حركات صورته المنطبعة في المرآة.
قالت:
ولكن الخنازير ستأكلها!
فقال الكولونيل:
هذا أفضل. إذ لابد أن الخنازير المعلوفة بالأزهار ستكون لذيذة جدا.
تطلع من خلال المرآة إلى المرأة ولاحظ أنها مازالت تحمل نفس التعابير. وعلى بريق النار كان وجهها يبدو وكأنه مصاغ من مادة الموقد. ودون أن ينتبه إلى نفسه، وبينما عيناه معلقتان بزوجته، تابع الكولونيل حلاقة ذقنه باللمس كما فعل طوال سنوات كثيرة. فكرت المرأة خلال صمتها الطويل، ثم قالت:
ولكني لا أريد أن ازرع أزهارا.
فقال الكولونيل:
حسنا إذن لا تزرعيها.
شعر بأنه قد تحسٌن. فقد أذبل كانون الأول ‘ديسمبر’ مملكة النباتات التي في أحشائه. لقد لاقي صعوبة وهو يحاول لبس الحذاء الجديد هذا الصباح، وبعد أن حاول ذلك عدة مرات تأكد بأن جهده يذهب سدي، فعاد يلبس الجزمة ذات الكعب العالي. ولاحظت زوجته التغيير، فقالت:
إذا أنت لم تلبس الحذاء الجديد فانه لن يتروض على قدميك أبدا.
فقال الكولونيل معترضا:
إنه كأحذية المشلولين. واعتقد بأن على بائعي الأحذية أن يبيعوها بعد شهر من استخدامها.
خرج إلى الشارع يدفعه هاجس بأن الرسالة ستصله هذا المساء. وبما أن موعد المراكب لم يكن قد حان، فانه ذهب لينتظر دون ساباس في مكتبه. ولكنهم أكدوا له بأنه لن يأتي حتى يوم الاثنين. لم ييأس على الرغم من أنه لم يكن يتوقع هذا التغيير في موعد عودته. ‘يجب أن يأتي عاجلا أم آجلا’ قال لنفسه، ثم اتجه إلى الميناء.
دمدم الكولونيل وهو يجلس في متجر موسي السوري:
السنة بكاملها يجب أن تكون ديسمبر ‘كانون الأول’. فالمرء يشعر في هذا الشهر وكأنه مصاغ من بلور.
ولابد أن موسي السوري قد قام بمجهود ذهني كبير ليترجم الفكرة إلى عربيته التي نسيها تقريبا. كان رجلا شرقيا هادئا، مغطي حتى جمجمته ببشرة ناعمة وكأنه ناج من الماء فعلا.
قال:
لقد كانت الأمور هكذا فيما مضي. ولو أن الأمر ما يزال كذلك الآن فان عمري سيكون ثمانمائة وسبعة وتسعون عاما.
وأنت؟
‘سبعة وخمسون’ قال الكولونيل، وهو يلاحق موظف البريد بنظره. وعندها فقط اكتشف وجود السيرك. إذ رأي الخيمة المرقطة على سطح مركب البريد بين أكوام من الأغراض الملونة.
وضاعف موظف البريد من مجال رؤيته للحظة وهو يبحث بعينيه عن الوحوش ما بين الصناديق المتراكمة في مركب آخر. ولكنه لم يعثر عليها..
قال:
ثمة سيرك. أنه أول سيرك يأتي منذ عشر سنوات.
تحقق موسي السوري من الخبر. ثم تحدث إلى زوجته بخليط من العربية والأسبانية. وأجابته هي من الغرفة المجاورة للمتجر. وبعدها قال شيئا لنفسه ثم ترجم للكولونيل ما يدور بذهنه:
لابد من إخفاء القط أيها الكولونيل. فقد يسرقه الصبيان ويبيعونه للسيرك.
قال الكولونيل وهو يتهيأ ليلحق بالموظف:
ولكنه ليس سيركا لحيوانات مفترسة.
فرد السوري:
ليس مهما. فالبهلوانات يأكلون القطط كي لا تتحطم عظامهم.
لحق بالموظف بين متاجر الميناء حتى الساحة. وهناك فاجأته الضجة القادمة من ملعب مصارعة الديوك. وقال له أحدهم. وهو يمر. شيئا ما عن الديك. وعندها فقط تذكر بأن اليوم هو اليوم المحدد لبدء التدريب.
مر من أمام مكتب البريد دون اكتراث. وبعد هنيهة كان ينتصب وسط ملعب المصارعة المضطرب. رأي ديكه في حلبة الصراع وحيدا. بلا دفاع، ومخالب أطرافه مربوطة بخرق من القماش ويبدو عليه شيء من الخوف الواضح وسط صخب الساحة. وكان الخصم أمامه ديكا حزينا رمادي اللون..
لم يظهر على الكولونيل أي تأثير. فقد كان السجال بين الديكين بهجمات متكافئة. مرت لحظة سريعة متواصلة اشتبكت فيها القوائم والريش والأعناق وسط الهتاف الصاخب. ثم طار الديك الخصم مصطدما بالحاجز الخشبي وقام بالدوران حول نفسه وعاد للهجوم. أما ديكه فلم يهاجم، وإنما كان يدفع كل هجوم ويعود ليسقط في نفس المكان تماما. ولكن قوائمه لم تعد ترتجف الآن.
قفز خيرمان عن الحاجز الخشبي، ورفع الديك بيديه الاثنتين وعرضه للجمهور الذي على المدرجات. فحدث انفجار مجنون من التصفيق والصراخ. ولاحظ الكولونيل عدم التناسب ما بين حماسة الهتاف وزخم المشهد. وبدا له كل ذلك مجرد مهزلة تشارك بها الديكة بمشيئتها ووعيها.
تفحص الرواق الدائري الذي ينبض، بفضول يخالطه بعض الاحتقار. ثم نزلت مجموعة من الحشد الهائج عن المدرجات نحو الحلبة. ولاحظ الكولونيل. فوضي الوجوه الحارة، والجشعة، والحيوية بشكل رهيب. كانوا أناسا جديدين، جميع أهل القرية الجدد. وعادت لتحيا في مخيلته فجأة كما في نبوءة لحظة ضائعة في أفق ذكرياته. عندها قفز عن الحاجز الخشبي، وشق طريقه بين الحشد المتركز في ميدان المصارعة واصطدم بعيني خيرمان الهادئتين. اللتين تطلعتا إليه دون أن ترمشا.
مساء الخير أيها الكولونيل.
أخذ الكولونيل الديك منه، ودمدم: ‘مساء الخير’ ولم يقل شيئا آخر، فقد هزه نبض الحيوان العميق والدافىء. وفكر بأنه لم يلمس أبدا في حياته شيئا بهذه الحيوية بين يديه.
قال خيرمان متلعثما:
لم تكن موجودا في البيت.
وقاطعته موجة جديدة من الهتاف. فشعر الكولونيل بالفزع. وعاد يشق طريقه، دون أن ينظر إلى أحد، ذاهلا بتأثير التصفيق والصراخ، وخرج إلى الشارع والديك تحت ذراعه.
القرية كلها الناس الذين تحت خرجوا ليروه، وتبعه أطفال المدرسة. كان ثمة زنجي عملاق يقف فوق طاولة وقد أحاط عنقه بأفعى، يبيع أدوية بلا ترخيص في أحد أركان الساحة. وكانت تلتف حوله ثلة كبيرة ممن كانوا عائدين من المينا. يستمعون إلى مناداته الرتيبة، ولكن عند مرور الكولونيل حاملا الديك اتجه إليه. لم يشعر أبدا بأن طريق البيت كان أطول مما هو عليه اليوم.
كانت القرية ترقد منذ زمن طويل في نوع من السبات، الذي عاشت به عشر سنوات من التاريخ، وفي هذا المساء مساء يوم جمعة آخر دون وصول الرسالة المنتظرة استيقظ الناس. وتذكر الكولونيل حقبة أخرى، فقد رأي نفسه مع زوجته وابنه وهم يجلسون تحت المظلة يشاهدون عرضا لم يتوقف برغم المطر الغزير. وتذكر زعماء حزبه ذوي الشعور المسرحة بدقة، وهم يجلسون في بهو بيته يهوون وجوههم على أنغام الموسيقي.
عبر من خلال الشارع الموازي للنهر، وهناك التقي أيضا بجلبة الحشود كما في أيام الأحد الانتخابية الصاخبة. رأي عملية إنزال السيرك ومعدٌاته إلى البر. ومن داخل أحد المتاجر صرخت امرأة بشيء له علاقة بالديك. استمر في ذهوله حتى البيت، وهو ما يزال يسمع أصوانا متفرقة، وكأن بقايا هتافات ملعب الصراع تلاحقه.
عندما وصل أمام باب البيت، التفت إلى الأطفال قائلا:
ليذهب كل إلى بيته. وإذا ما دخل أحدكم فسأخرجه بالحزام.
أغلق الباب بالرتاج ومضي مباشرة إلى المطبخ. خرجت امرأته من غرفة النوم وهي تشهق، وصرخت:
‘لقد أخذوه بالقوة، قلت لهم أن الديك لن يخرج من هذا البيت مادمت على قيد الحياة’. ربط الكولونيل الديك إلى دعامة الموقد. وأبدل الماء الذي في العلبة، بينما كان لصوت زوجته المحتدم يلاحقه:
قالوا بأنهم سيأخذونه من فوق جثتينا، وقالوا أن الديك ليس لنا وحدنا وإنما هو للقرية كلها.
وعندما انتهي من الديك، التفت الكولونيل ليلتقي بوجه زوجته القلق. واكتشف، دون دهشة، أنها لم تثر فيه أي تأنيب أو شفقة.
‘حسنا فعلوا’ قال بهدوء، ثم أضاف، وهو يفتش جيوبه، بلهجة عميقة عذبة:
لن يباع الديك.
تبعته حتى غرفة النوم. وأحست بأنه إنساني تماما، ولكنه لا يمس، وكأنها تراه على شاشة سينما. أخرج الكولونيل من الخزانة رزمة من الأوراق النقدية وجمعها مع تلك التي كانت في جيوبه، ثم عدٌها جميعا وأعادها إلى الخزانة قائلا:
ها هنا تسعة وعشرون بيزو سنعيدها إلى صديقي ساباس. والباقي سأدفعه له عندما يصل الراتب التقاعدي.
وإذا لم يصل الراتب التقاعدي سألته المرأة.
سيصل
ولكن، إذا لم يصل.
عندها لن أدفع له.
عثر على الحذاء الجديد تحت السرير. فرجع إلى الخزانة بحثا عن علبة الحذاء، ثم نعليه بخرقة قماش ووضعه في العلبة، كما كان عندما أحضرته زوجته يوم الأحد ليلا. لم تتحرك من مكانها.
قال الكولونيل:
وسنعيد الحذاء. وهكذا يصبح لدينا ثلاثة عشر بيزو آخر.
لن يقبلوا إعادته.
فرد الكولونيل:
يجب أن يقبلوا. لقد لبسته لمرتين فقط.
ولكن الأتراك لا يفهمون هذه الأمور.
يجب أن يفهموها.
وإذا لم يفهموها؟
عندئذ دعيهم لا يفهمون.
استلقيا للنوم دون طعام. وانتظر الكولونيل ريثما تنتهي زوجته من صلاتها ليطفىء المصباح. سمع أجراس الرقابة السينمائية، وبعدها على الفور بعد ثلاث ساعات سمع إشارة منع التجول.
أصبح تنفس المرأة المتحشرجة محزنا مع هواء الفجر البارد.
كانت عينا الكولونيل ما تزالان مفتوحتين عندما تكلمت هي بصوت استرضائي رصين:
هل أنت مستيقظ؟
أجل
فقالت المرأة:
حاول أن تفكر بالعقل. وتحدث غدا مع الصديق ساباس.
لن يأتي حتى يوم الاثنين.
هذا أفضل. سيكون أمامك ثلاثة أيام للتفكير.
ليس ثمة ما يستدعي التفكير.
كان هواء أكتوبر قد مضي وحلت محله برودة معتدلة. وعاد الكولونيل يشعر بكانون الأول ‘ديسمبر’ من خلال دقات الساعة التي تطلقها طيور الكروان. وعندما دقت الساعة الثانية. لم يكن قد نام بعد، ولكنه كان يعرف أيضا أن زوجته مازالت مستيقظة أيضا. حاول تغيير وضعيته في السرير.
هل أنت مستيقظ، قالت المرأة:
نعم.
فكرت للحظة، وقالت:
لسنا في وضع يمكننا من فعل هذا. فكر جيدا بما تعنيه أربعمائة بيزو مجتمعة.
بعد وقت قصير سيصلنا الراتب التقاعدي قال الكولونيل.
انك تقول هذا الكلام منذ خمس عشرة سنة.
فقال الكولونيل:
لهذا لا يمكن أن يتأخر الراتب كثيرا.
صمتت. ولكن عندما عادت للحديث، بدا للكولونيل وكأن الزمن لم يمر.
إني أشعر وكأن هذه النقود لن تصل مطلقا قالت المرأة.
ستصل.
وإذا لم تصل.
لم يجد صوتا ليرد عليها. وعند صياح أول ديك في الفجر اصطدم بالواقع، ولكنه عاد ليغطٌ في نوم عميق، دون أي شعور بالندم. وعندما استيقظ، كانت الشمس قد ارتفعت. وكانت زوجته ما تزال نائمة. وكرر الكولونيل، بشكل إلى ومنهجي، حركاته التي يقوم بها كل صباح، ولكنه في هذا اليوم كان متأخرا ساعتين عن الأيام الأخرى، وانتظر زوجته لتناول طعام الإفطار.
استيقظت مكتئبة. تبادلا تحية الصباح وجلسا لتناول الإفطار صامتين. رشف الكولونيل فنجانا من القهوة مع قطعة من الجبن وشريحة من الخبز الحلو. ثم أمضي فترة الصباح بكاملها في دكان الخياط. وفي الساعة الواحدة رجع إلى البيت ووجد زوجته ترقع بعض الملابس وهي جالسة إلى جانب أزهار البيجونيا. قال لها:
لقد حان موعد الغداء.
لا يوجد شيء للغداء ردت المرأة.
هز كتفيه، ثم مضي يعمل على إغلاق الفتحات التي في سور البهو ليمنع الأطفال من الدخول إلى المطبخ. وعندما رجع إلى الممر كانت المائدة قد أعدت.
خلال تناول الغداء شعر الكولونيل بأن زوجته تجهد نفسها كي لا تبكي. وقد أفزعه هذا الشعور . فهو يعرف شخصية امرأته القاسية بطبيعتها، والتي زادت من قسوتها أربعون سنة من المرارة. حتى أن موت ابنها لم يجعلها تذرف دمعة واحدة.
ثبت عينيه التي تحمل نظرة لوم بعينيها مباشرة. فعضت هي على شفتيها، وجففت رموشها بكمها وتابعت تناول الطعام.
انك بلا ضمير.
ولكن الكولونيل لم يقل شيئا.
‘انك متكبر، وعنيد، وبلا ضمير’ كررت هي. ثم وضعت أدوات طعامها متقاطعة في الطبق، ولكنها عادت لتعدل وضع الأدوات وتبعدها عن بعضها لاعتقاداتها الخرافية. وقالت: ‘لقد أمضيت حياة بكاملها وأنا آكل التراب لأجد نفسي الآن أقل اعتبارا من مجرد ديك’.
ليس الأمر هكذا قال الكولونيل.
فردت المرأة:
بل هو كذلك. وعليك أن تعرف بأني أموت، وأن هذا الذي يصيبني ليس مرضا وإنما هو الاحتضار.
لم يقل الكولونيل شيئا حتى انتهي من طعامه:
إذا ما ضمن لي الدكتور بأن الربو سيفارقك إذا ما بعت الديك، فاني سأبيعه في الحال، أما بغير هذا فلن أبيعه.
أخذ الديك إلى ملعب المصارعة في هذا المساء. وعندما رجع وجد زوجته على حافة نوبة جديدة. كانت تتمشي على طول الممر، وشعرها مسدل على ظهرها، وذراعاها مفتوحتان وهي تبحث عن الهواء من خلال صفير رئتيها. وبقيت في الممر حتى أول الليل. وبعدها استلقت في فراشها دون أن تقول شيئا لزوجها.
مضغت صلواتها حتى ما بعد منع التجول بقليل، حينئذ أراد الكولونيل إطفاء المصباح. ولكنها منعته قائلة:
لا أريد أن أموت في الظلام.
ترك الكولونيل المصباح على الأرض. وبدأ يشعر بالاستنزاف. كان يرغب لو انه ينسي كل شيء، لو انه ينام أربعة وأربعين يوما دفعة واحدة ليستيقظ يوم العشرين من كانون الثاني ‘يناير’ في الساعة الثالثة مساء، في ملعب مصارعة الديكة وفي اللحظة التي سيفلت بها الديك تماما، ولكنه أحس بأنه مراقب من زوجته.
قالت بعد هنيهة:
‘أنها نفس القصة دائما. نحصل على الجوع ليأكل الآخرون. أنها نفس القصة تتكرر منذ أربعين سنة’.
احتفظ الكولونيل بصمته إلى أن توقفت زوجته عن الحديث لتسأله ما إذا كان لا يزال مستيقظا. وأجابها بنعم.
فتابعت المرأة حديثها بوتيرة متدفقة، لا تهدأ.
الجميع سيكسبون من الديك، ألا نحن. فنحن الوحيدون الذين لا نملك سنتا واحدا لنراهن به.
لصاحب الديك حق يناله هو عشرون بالمئة.
ردت المرأة:
وكان لك حق أيضا بالحصول على منصب لائق عندما كانوا يمزقون جلدك في الانتخابات . ولك الحق أيضا بالحصول على راتبك التقاعدي كمحارب قديم بعد أن حشرت انفك في الحرب الأهلية. ولكن ها هم الآن يعيشون جميعا حياتهم المأمونة بينما أنت وحيد تماما، تموت جوعا.
لست وحيدا قال الكولونيل.
وحاول أن يشرح لها أمرا، ولكن النعاس غلبه. واستمرت هي تتكلم إلى أن تنبهت لنوم زوجها. عندها خرجت من تحت الكلة وتمشت في الصالة المظلمة. وهناك تابعت الكلام، حتى ناداها الكولونيل في الصباح الباكر.
ظهرت في الباب، كطيف. كان ضوء المصباح الذاوي ينعكس عليها من أسفل، فأطفأته قبل أن تدخل تحت الكلة. ولكنها استمرت في الكلام. فقاطعها الكولونيل:
اقترح أن نعمل شيئا.
الشيء الوحيد الذي نستطيع عمله هو أن نبيع الديك.
يمكننا أيضا أن نبيع الساعة.
لن يشتريها أحد.
سأحاول غدا أن اجعل ألفارو يدفع لي أربعين بيزو ثمنا لها.
لن يدفع لك شيئا.
عندما عادت المرأة لتتكلم هذه المرة كانت قد خرجت من جديد من تحت الكلة. وأحس الكولونيل بأنفاسها المضمخة بروائح الإعشاب الطبية.
لن يشتريها أحد.
فرد الكولونيل برقة، ودون أي أثر للخداع في صوته:
سنري ذلك. نامي الآن، وإذا لم نستطع أن نبيع شيئا في الغد فإننا سنفكر بوسيلة أخرى.
حاول الاحتفاظ بعينيه مفتوحتين، ولكن النعاس غلبه وسقط في أعماق هلام بلازمان ولا مكان، حيث أصبح لكلام زوجته معني مختلف. ولكنه أحس، بعد برهة، بأن هناك من يهز كتفه.
اجبني.
لم يعرف الكولونيل إذا ما سمع هذه الكلمة وهو نائم أم بعد استيقاظه. كان الفجر قد بدأ بالبزوغ. ومن النافذة كان يبدو النور الأخضر ليوم الأحد. وفكر بأنه مصاب بحمي، فقد كانت عيناه ملتهبتين، وكلفته استعادة الرؤية عناء كبيرا.
ماذا نستطيع أن نفعل إذا لم نتمكن من بيع شيء كررت المرأة.
فأجابها الكولونيل وقد صحا تماما:
عندها يكون يوم العشرين من كانون الثاني ‘يناير’ قد اتى. ويومها سيدفعون لنا عشرين بالمئة من قيمة المراهنات.
فقالت المرأة:
هذا إذا كسب الديك. ولكن إذا ما خسر.. ألم يخطر ببالك أن الديك قد يخسر.
انه ديك لا يمكن أن يخسر.
ولكن افترض انه خسر.
مازال أمامنا خمسة وأربعون يوما لنبدأ التفكير بهذه الأمور.
سيطر اليأس على المرأة، فسألته:
‘حتى ذلك الحين، ماذا سنأكل’ ثم جذبت الكولونيل من عنق قميصه الداخلي، وهزته بقوة.
قل لي، ماذا سنأكل؟
لقد احتاج الكولونيل لخمس وتسعين سنة الخمس وتسعين سنة التي عاشها، دقيقة دقيقة، ليصل إلى هذه اللحظة، فأحس بالنقاء، الوضوح، وبأنه لا يقهر في اللحظة التي رد بها:
خراء