لماذا يعمد كتاب الأدب لكتابة مشاريع غير مصنفة كأدب؟

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عملية تذويب العالم (سيد الوكيل).. اللغز (يوسف نبيل)..

أحمد سمير سعد

في كثير من الأحيان يلجأ المفكرون والفلاسفة إلى كتابة الرواية، بل إن بعض الروايات قد حملت أبعادا لأفكار أكثر من الكتب المصنفة لذات المفكرين، على سبيل المثال روايات (سارتر) الوجودية و(ألبير كامو).

مفكر شهير جدا ك(أمبيرتو إيكو) كلل تركته من الكتب الفكرية الضخمة بروايات تركت كذلك أثراكبيرا.

(نيتشة) في (هكذا تحدث زرادشت) نجد مراوحة بين الكتابة الروائية والأفكار، بين جمل المجاز والأفكار المتقافزة.

هذا بخلاف الروايات التي تبدو تعليمية، من أشهرها (عالم صوفي) لجوستيان جاردنر والتي يسرد فيها على مسامع صوفي بطلة الرواية قصة الفلسفة في العالم.

 

لماذا يلجأ المفكرون لكتابة الرواية؟، تبدو الرواية كبيئة خصبة لتمرير الأفكار والمشاعر إلا أن الرواية ليست حدية كالكتابة العلمية المنطقية الفلسفية، هي تشبه فوضى الأفكار وسحر اللاوعي، لذا تأتي في منطقة ربما تخاطب الحدس مباشرة والحس المشترك.

هكذا تمكنهم ربما من صياغة ما لا يستطيعون، دون تقيد بجمل حدية، العبارات فيها موحية والمشاهد تحتمل التأويل، تبدو عميقة في ذاتها بلا أي محاولة متهافتة للاختزال، تفرضها العلوم وسطوة الكتابة بالاصطلاح العلمي.

 

لكن ما الذي يدفع أديبا ليكتب في غير الأدب؟

ما الحافز الذي يجعله يغادر منطقته الدافئة الحالمة التي يحسدونه عليها إلى منطقة تمتاز بحدية الاصطلاح، فيها كل جملة بلا أبعاد أكبر من موضعها وكلها موزونة بميزان منطقي علمي، رغم حساسيته إلا أنه ورغما عن الجميع يختزل التفاصيل.

 

لفت نظري هذا السؤال وأنا أطالع تجربتين لأديبين تحررا من سطوة سحر النص الإبداعي وقررا أن يبدعا في ميادين مختلفة.

أعتقد أن هذا يرجع إلى أن الذات المبدعة دائما مهمومة ومشغولة بالأفكار وهي أفكار تتراوح بين الذاتي والعام وبعضها قد ينبني في نسق فكري منتظم، لا يكتفي بالانحصار في نص أدبي.

صحيح أن ما يميز النص الأدبي أنه غير اختزالي لكنه كذلك ربما يفتقد للبناء النسقي المنتظم، هو يشبه فوضى العالم واللاوعي وأحيانا يتعطش البعض للنظام والمنطق في التحليل والالتزام، تحليق من نوع مختلف، يبدو منهجيا.

ما اعتقدت فيه بعد أن أمعنت التفكير في الأمر هو أن الكاتب هو مشروع له تجليات مختلفة وانحيازات خاصة وأن التعايش الطويل مع بعض الأفكار قد يدفعها للانفجار في بوتقات أخرى.

لكن يبقى السؤال، هل يكتب الأدباء في الفلسفة وعلم النفس وفلسفة العلوم كما يكتب الأكاديميون والمتخصصون؟

 

سأبدأ بكتاب (عملية تذويب العالم) لسيد الوكيل..

سيد الوكيل أديب، روائي وقاص متحقق وله عدد من النصوص تتراوح بين القصة والرواية والرؤى النقدية والكتابة الأدبية التي تتحدى التصنيف واسهاماته الإبداعية متعددة، يثري بها الوسط الثقافي.

لكنه فاجأنا بكتاب هام ومختلف، كتاب يحاول أن يتتبع فيه فكرة الثقافة بشكل فلسفي، لنجده يحلل ظاهرة كالحداثة والشغف بالعقل التي اجتاحت أوروبا ثم تحول فشل العقل في الإلمام بكل العالم والنهوض به إلى مفهوم ما بعد الحداثة، يأخذ بيدنا محللا ظواهر في الأدب والفن تنتمي لعصر الصورة والمعلوماتية، يحلل صورة داعش ورقصات الراب وقصات شعر الشباب في قلب القاهرة ثم يعبر بنا من النظرية إلى الممارسة ليرينا كيف أن الثنائية التي تحكمنا، ثنائية الأصالة والمعاصرة هي في النهاية رد فعل على سيطرة الغربي الأعلى، فالعودة للأصول هي رغبة في المواجهة والتفوق بالاختلاف والدعوة للمعاصرة هي محاولة للنهوض بذات خطوات الغربي بلا أي خصوصية، كيف أن الغربي المتفوق يأطرنا في فلكلور وثياب قد نكون طرحناها عنا، وكيف أن ثقافتنا الحقيقية قد تتحول لمسخ استهلاكي يحاول أن يرضي تلك النظرة ويشبعها.

سيد الوكيل هو كاتب متجدد وهو معني طوال الوقت بالتجريب، رواياته تخلط الواقعي بالمتخيل بالصور الذهنية، يستعيدها ويحاكمها، في آخر تجاربه الإبداعية سجل أحلامه وبنى معها حوارا، تبدو نصوصه ما بعد حداثية لكنها تخصه وتخصنا وهكذا يظهر كتابه الذي أتحدث عنه هنا في المقال كاشفا لهذه الأجواء وهام جدا، سواء كنسق فكري كجوهر منفرد أو كمحاولة لفهم عوالم سيد الوكيل.

وأهم ما يميزه أن سيد الوكيل يكتب متفكرا كما يكتب الأديب فهو لا يعمد لترتيب متواتر أو براهين ومسلمات بل هو يقدم لنا عصف ذهني وروحي، أفكاره التي شغلته ونقاط تنوير وجدل دائب بينه والعالم.

 

ثاني الكتب لروائي ومثقف شديد الاجتهاد والإخلاص لقضيته ولأفكاره، (يوسف نبيل)وكتاب اللغز.. موجز تاريخ علم النفس.

إلا أن التجربة تختلف عن تلك التي لسيد الوكيل فيوسف نبيل قد عمد إلى نسق يبدو أكاديميا ويبدأ مرتبا زمنيا لكن سرعان ما يتجلى الأديب فيه فيغير في ذلك التراتب الزمني والترتيب الأكاديمي ويبدأ في مخاطبة الأفكار فيأتي بتقسيم منهجي مختلف لدراسته تعتمد على الفكر، مميزا بين مدارس درست الوعي وأخرى السلوك وثالثة اللاوعي ومنتهيا إلى أحدث النظريات في علم النفس وهنا يتجلى الأديب أكثر وضوحا ليبدو منحازا لأريش فروم مصورا دوره كثورة في تاريخ التحليل النفسي.

يصور يوسف صراعا فكريا بين مدارس اتخذت من الإنسان آلة محتوم عليها خبرات ما بحكم النشأة أو الميلاد وأخرى روحانية ومثالية حد الانفصال، مدارس ترى الإنسان صفحة بيضاء تسطر عليه البيئة والعالم ما تشاء وأخرى تعتقد في نماذج بدئية مزروعة فينا لا نتصرف إلا من خلالها.

يوسف روائي ومترجم وهو منحاز بخاصة لتولستوي وإريش فروم، آخر رواياته (كلمات يونس الأخيرة)، يبدو فيها محاولا بناء عالم مختلف وتنظيمات ثورية مختلفة، تحاول إصلاح المجتمع لصالح السلامة النفسية للفرد وهنا يظهر لنا كيف أن أفكاره تنبثق تارة في الروايات وأخرى في كتاب منهجي بشكل متسق.

يوسف في جل كتابه عن مدارس علم النفس كان منهجيا كما أشرت وأثرى مناطق الكتاب في ظني هي تلك التي كان يترك للأديب مساحات التعليق على الأحداث وإجراء جدله الخاص وللأسف لم تكن كثيرة أمام طوفان المعلومات التي آثر عرضها وأنا أعذره في ذلك فكما قال في كتابه معارفنا عن مدارس علم النفس محدودة، تنحصر في فرويد وإدلر ويونج.

أكثر مناطقه حيوية هي تلك التي تناقش أفكارا تحاول مزج المادي بالروحاني وتحاول أن تنجو بالإنسان من لجج الآلية والسقوط لتبشر بعالم جديد ناجح وإنسان قادر على أن يتوازن ويصنع نموذجه ويقف ضد التيارات الهائجة الحالية.

 

أدعو لقراءة كتابي سيد الوكيل ويوسف نبيل فهي كتابة ثرية في ذاتها ومهمة وهي كذلك ضرورية لفهم عوالمهما بشكل أكبر وأكثر ثراء، وهما صادران عن ذات دار النشر، دار (روافد) للنشر.

 

لا يشترك هذان الكتابان فقط في أنهما صادرين عن نفس دار النشر لكنها رحلات خاصة في تاريخ الأفكار وفق توجهات مختلفة، تتفق حول قصور الإنسان والفلسفة والعلم وتكشف فداحة خسارة المركز والتيه الذي يكتنف الإنسانية وتحاول أن ترمي ببذور وعي بمراكز جديدة تحاول أن تنقذ الإنسان كفرد والمجتمع المحلي والمجتمع الإنساني العام وتحاول أن تبشر بسرديات لن تكون كبرى ربما لكنها على الأقل تحمل بصيص أمل ومعنى للحياة والكون والكينونة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

كاتب وروائي مصري 

مقالات من نفس القسم