لم يتكلم نوح وظل على حاله طيلة يوم آخر, فلم يتمالك الببغاء غيظه المحتدم داخله, ظنا منه أن نوح لا يعيره اهتماما أو قد مل الحديث أمامه, قد يكون كرهه أو نفر منه.. فقرر أن يلفت انتباهه لوجوده فأخذ يكرر الكلام الذى اعتاد أن يسمعه من سيده نوح. ذهل نوح مما سمع , جحظت عيناه ولم يصدق أذنيه, وظن أن ما حدث ما هو إلا معجزة من ضمن المعجزات التى وهبه الله إياها. ابتسم نوح بوجه ببغائه فسعد وفرح واعتبر أن تلك الابتسامة الحانية هى إعلان لصداقة حميمة ممتدة بينهما.
استمر الببغاء فى رحلته اليومية إلى السفينة, و ظل يسمع ما يقوله نوح و يردده, ويسمع و يردد, و يسمع و يردد.. حتى أن سيدنا نوح كان يمل أحيانا أو يصيبه الصداع فيكاد يسخط على الببغاء, ولكن بمعظم الأوقات كان يحنو عليه ويربت على رأسه المتوجة بريشها الملون.
إن تلك القصة حقيقية ومؤكدة جدا, وإن كان كل شهودها قد ماتوا فى الطوفان, عدا سيدنا نوح الذى لم يروها.
اصطحب الببغاء صديقة له, ألوانها أزهى من ألوانه, وعبرا الطوفان مع نوح وأصحابه الثمانية ليظل لهما مكان بين عالمنا الحالى. لم يزعج الببغاء سكان السفينة, لم يختلف معهم, لم يفعل كما فعل الكلب والقطة.. أحب الجميع الببغاء بألوانه الباهية وصوته الساحر وتقليده المتمكن لأصواتهم لم يتهموه بالعجرفة كما فعلوا مع الطاووس, ولم ينزعجوا من تقليده إياهم, بل ضحكوا واستمتعوا برحلتهم عبر الطوفان.. ظل الببغاء محبوبا من الجميع حتى نهاية الرحلة.
اكتشف العلماء أن الببغاء ألكس, أفريقى الموطن, يتمتع بذكاء مفرط جعله يستطيع أن يكون جملا مفيدة, يتكلم بطلاقة, يجاوب على الأسئلة المطروحة عليه, ويتمكن من عد الأشياء وحصرها. ظن البعض أن الببغاوات قد يتطورون أكثر من ذلك وتزداد قدراتهم العقلية، وبالتالى فقد يساعدوننا بحيواتنا وأعمالنا الحسابية المعقدة.
إلا أن الببغاوات بالعالم كله, ودون اتفاق مسبق أو جلسات قمة, قرروا الامتناع عن الكلام لمدة امتدت لأيام طوال.. صمتت الببغاوات.. أصبحت الببغاوات, أكثر المخلوقات كلاما بعد الإنسان, صامتة, تاركة الساحة خالية للإنسان لممارسة هوايته المفضلة فى تحريك أحباله الصوتية .
هكذا كان حال ببغائى أنا الآخر, كان ببغاء أنيقا جميلا, أعتدت أن أستمتع بمداعبته و سماع ألحانه الطربة منافسا فيروز والشاب خالد وألفيس بريسلى. كان صديقى المقرب, يؤانسنى بأوقات فراغى ولحظات وحدتى. صوته أعذب من كل من عرفت وألوانه أزهى من ألوان لوحة مبهجة لسلفادور دالى, لا يكذب و لا يخفى, يسب عندما يحلو له السباب, ويضحك ويغنى عندما تنتابه نوبات السعادة و الفرح . طالما سب زملائى بالعمل نيابة عنى وأنا أكتم ضحكاتى وأحبس قهقاتى داخل صدرى. عندما يزورنى ضيف ثقيل, غير مرغوب فيه, ألقنه الشتائم والبذاءات كى يلقيها عليه, وعندما تأتينى فتاة جميلة, أو غير جميلة, ألقنه كلمات الحب و أشعار العشق وأغانى اللهفة والأشواق .
و لكنه صمت…
صمت كما فعلت باقى الببغاوات, لا يطلق إلا صوتا أقرب إلى نهيق الحمير, صوت مزعج مقزز, يملأ الأجواء ضيقا واختنافا. يقف على أطراف مخالبه الحادة مطلقا صوته اللعين كأنه صفارة إنذار, يقف فوق شاشة التليفزيون, على سطح الرادي , فوق صفحات الجرائد, على أرفف الكتب, بجوار شاشة الكمبيوتر, وعلى أكوام المجلات.
لماذا صمت الببغاء ؟؟
هل لما وجده من منافسة إنسانية شرسة بعالم الكلام ؟؟؟ هل تقطعت أحباله الصوتية ؟؟ و لكنه بلا أحبال صوتية, إنها مجرد تغيرات بقصباتهم الهوائية, إذن, هل شلت قصباتهم الهوائية ؟؟ هل سخر أحدهم منه فغضب و امتنع عن الكلام ؟؟ هل صمت لأنه أحس أننا لسنا بحاجة إليه ؟؟؟ أم لأننا لم نسمع له من قبل؟؟ هل وجد المناخ غير مناسب لترديد ألحانه ؟؟ هل افتقد سيدنا نوح و حنانه؟؟ هل انتهت معجزة نوح و عاد لطبيعته الأولى؟؟؟ هل وجد الصمت أجمل مذاقا من الكلام؟؟ هل صمت الببغاء, أم مات ؟؟؟ هل رأيتموه؟؟؟ هل رأيتم هذا المخلوق الأخضر ذا المنقار الفضى والرأس الأحمر ؟؟؟ هل رأيتموه ؟؟؟ منقاره معوج مدبب وعيونه جاحظة سوداء, هل رأيتموه؟؟ صوته عذب و صادق و حقيقى و بذئ , هل رأيتموه ؟؟؟ هل تعرفون عمن أتحدث ؟؟ هل تعرفون الببغاء؟؟؟ إنه ببغائى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة للفنان: عمر جهان
خاص الكتابة