محمد متبولي
أغمض عينيّ وأفتحهما، فأجدهم حولي، وتلك الأجهزة الغريبة عالقة بكل مكان في جسدي، أين أنا ومن هم لا تسعفني الذاكرة، لماذا يبتسم بعضهم ابتسامة تخفي خلفها الألم وبعضهم يبكي، وآخرون يرتدون ملابس متشابهة يجيئون ويذهبون، وبين حين وآخر يمسكون بيدي ويغرسون فيها شيئا مؤلماً، وما هي تلك القوارير المعلقة والخراطيم التي تمتد منها لذراعي، وهذه السوائل الغريبة التي تتدفق منها لداخلي، لا أعرف، أحاول أن أستجمع حواسي كلها، فأرى صوراً مهتزة، وأحاول أن أحرك قدميّ وبالكاد أحس بثقلهما، ثم تترامي لمسامعي كلمات مختلطة لا أميز منها سوى كلمة واحدة.
غيبوبة
ما معنى كلمة غيبوبة تلك، وبأي لغة يتحدث هؤلاء، أشعر بالإعياء من كثرة التفكير، فأغمض عينيّ ثانية محاولاً الخلود للنوم، فيتلاشى كل شيء رويداً رويداً، حتى أرى سوادا لا يقطعه سوى أصواتهن وهن ينادين علي، فتنتعش ذاكرتي فجأة، وأعود لزمن الشباب.
أتذكر تلك الأيام التي كنت أذهب فيها وأجلس وحيدا على الشاطئ في ليالي الشتاء لأراهن، وأسمعهن كما أسمعهن الآن، دوماً ما حذرتني والدتي من الجلوس على البحر بعد منتصف الليل خاصة في الشتاء، خشية إصابتي بإلتهاب رئوي، أو مس شيطاني، لكنني لم أكن لأكترث، فلم أجرؤ أبداً على مصارحتها بأنني أذهب لأتلصص على جنيات البحر، فهن لا يظهرن على الشاطئ إلا عندما يطمئنن أن لا أحداً يراهن، وكنت أنا أجيد أن لا أشعرهن بوجودي، حتى جاء ذلك اليوم الذي رأوني فيه، فسمعت فزعا تهديدهن فإما أن أحفظ السر أو أن تتلبسني إحداهن فتعبث بعقلي حتى ألقي بنفسي في البحر وأغرق، فحفظت السر ومع الوقت صرنا أصدقاء، وأصبحت أفضل أوقاتي عندما أذهب لشاطئ البحر وقت ظهورهن، وأتجاذب معهن أطراف الحديث.
بضع ساعات أو يوم على الأكثر
كلمات جديدة ترامت إلى أذني، بتلك اللغة التي لا أفهمها، يتصاعد معها الألم، لكنني أظن أن كلمات كساعة ويوم أعرفها ولو بالشبه، أظنها شيئا ما مرتبطاً بالوقت، لكن ماذا يعني الوقت الآن، فكم من الوقت قد مضى وكم سيأتي، أنا لا أدرك أي شيء، لكن من المؤكد أن بين آخر لقاء مع جنيات البحر والمجيء إلى هنا زمن ما، تُرى هل خالفت الإتفاق فغدرن بي وعبثن بعقلي، أم أنني فقط نسيت كل شيء سواهن، أكان لي زوجة وأبناء ومهنة، هل تعلمت وأنهيت تعليمي، أم أنني لم أعرف القراءة والكتابة قط، هل أنا في نفس البلد التي ولدت فيها أم أنني هاجرت لبلدٍ لم أتعلم لغتها، ما اسمي ومن أكون، هل أنا خيرٌ أم شريرٌ، لا أتذكر شيئاً.
داء عضال
لا أعرف إن كانت تلك كلمة سمعتها أو شيء ما استدعيته من الذاكرة، لكنها حفزت بعض الشذرات المتناثرة داخل عقلي، فأنا أعيها جيداً، واستحضر معها بعض الذكريات، شابين يسنداني وأنا أدخل عيادة طبيب مكتظة، وشخص وقور يجلس أمامي على مكتب ويقرأ بعض الأوراق ويتفحص صورة أشعة، ويشير لأحد الشابين بأن يأتي معه لغرفة ملحقة، ثم يعودا والشاب ينظر للآخر زائغ العينين وممتقع الوجه، ثم أرى سيدة وفتاة تبكيان، وتترامى لمسامعى كلمات بدأت أدركها الآن.
النهاية تقترب
أفتح عينيّ مرة أخرى بينما أشعر بالألم يزداد، لأجد السيدة والفتاة والشابين يقفون حولي، لا أعرف من هم على وجه التحديد، لكن أغلب الظن أنهم عائلتي، وأنني الآن أجلس على فراش الموت في إحدى المستشفيات، تحت جهاز التنفس الصناعي، لكنني حقاً أشعر أن النهاية مازالت بعيدة، وأنهم هم من استسلموا سريعا لا أنا، فأتذكر أيام الصبا عندما كنت أصاب بالزكام أو أي مرض فأجلس على البحر وما هي إلا بضعة دقائق وأعود لطبيعتي، بعد أن أشتم أريجه الممزوج بتعاويذ الجنيات، لذا فأظنني لو ذهبت للبحر الآن سأبرأ، ولو كانوا هم عائلتي حقاً فسيفهمون لغتي، حتى لو لم أفهم أنا لغتهم، أحاول أن أتحدث لكن تخرج الكلمات مني متحشرجة.
أريد أن أذهب إلى البحر
تُرى كم مرة كررت فيها تلك الجملة، فأظنني قلتها مع كل مرة أفتح فيها عيني وأغمضهما، حتى لبوا طلبي، فاستعدت وعي، صحيح أنني لا أعرف من يدفع الكرسي المتحرك، ومن يمسك معي أنبوب الأكسجين الذي أحتضنه وهو متصل بالقناع على وجهي، لكنني واثق أنني الآن أسير على الشاطئ، فأشرت لهم أن يجلسوني قبالة البحر مباشرة ويتركوني، لا أعرف إن كانوا استجابوا أم لا، لكنني لم أعد أرى شيئا سوى موجات البحر المتلاطمة، وشعور متنامٍ بأن الآلام قد غادرتني، فتملكتني رغبة في استنشاق النسيم، فرفعت القناع ليملأ صدري هواء البحر المنعش، لتقع عيناي على ملكة الجنيات عروس البحور محاطة بحاشيتها، لأتذكر أنني لم أرها وجها لوجه في حياتي سوى مرة واحدة، فدوماً ما كانت تختفي بمجرد شعورها بوجودي رغم العهد بيني وبين الجنيات، وعندما سألت إحداهن عن ذلك قالت:
-إنها لا تحب أن يراها أسيرة لجسد هزيل فان مثلك
فاندفعت مسرعاً نحوها فلم تهرب كالعادة، فعرفت أنني قد تحررت من الألم وجسدي معاً، فنظرت إليها من مقربة لأجد ابتسامتها الساحرة تخرج من بين شفتيها فتملأ المسافة بين البحر والقمر، ليقوم الأخير بدوره ببث خيوط ضوئه الفضية عليها فيزيدها لمعاناً ووهجاً على وهجها، فأسلمت نفسي للأمواج متجهاً صوبها، تاركاً جسدي العليل على الشط يرقبني وهو محاط بمن أوقن الآن أنهم أسرتي، بعد أن علت أصواتهم لا أعرف لماذا.