اعتاد الرجال المجيء إلى هنا كل مساء. أحيانا كانوا يبقون حتى الصباح، وأحيانا أخرى كانوا يغادرون أثناء الليل. وكانوا كلما غادروا تركوا خلفهم شيئا رائعا وثمينا. ملابس داخلية جميلة، أحجارا كريمة، علبة شوكولاطة ، ثوبا حريريا،عطرا، ماكياجا، زبدة، أو بُنّا. كل هذا كان لي. في بعض الأحيان كان المتروك فقط شيئا نسيه رجل. مثل ساعة ذهبية ، أزرار معدنية مرصعة بجواهر، أو ولاعة سجائر. وكنت أحتفظ بكل هذا كتذكار. عندما أنظر إلى هذه الأشياء المنسية أستطيع تذكر كل رجل بوضوح. ما الشيء الذي رغب فيه و كيف أحبني و كيف أحببته. أستطيع تذكر كل شيء. بالطبع كان الرجال يأتون حاملين معهم أشياء أخرى علاوة على الهدايا. أغلبهم كان يحمل لي المال. و لكنني كنت أفرح كثيرا حين يتركون خلفهم هدايا. عند تركهم للمال كانوا يقومون بوضعه خلسة على الطاولة التي بجانب سريري ويغادرون. ولم أكن أحب أن يُنظر إلى ما كنت أقوم به على أنه عمل تجاري.
كنت آخذ المال و أنفقه على الأكل وحاجات أخرى. إذا ليس في الأمر كراهية ما من جانبي للمال. لا. ربما كنت أحب المال أكثر. وكان هناك رجل يأتيني أحيانا بخنزير مذبوح لتوه. (كان هذا الرجل جزارا تنبعث منه رائحة دم الحيوانات التي قتل. ربما لأنه كان يشرب كأسا منه قبل المجيء إلى غرفتي. وكان جسدي يؤلمني في اليوم الموالي لمجيئه. ولم يكن في استطاعتي القيام بأي شيء لزبون ذلك اليوم). كان إحضار خنزير مذبوح فعلاً مُقْرِفًا لأنه لم يكن بإمكاني أكله لوحدي. وكان الأمر سيبدو غريبا لو أنني قمت بقطع شرائح من جسد الذبيحة وإعطائها للرجال الآخرين كي يأخذونها معهم إلى منازلهم. وأن يُقدم لهم كطبق أكل كان بمثابة مشكلة أيضا.(لأنني في هذه الحالة كان ينبغي علي أن أطبخه لهم). وحتى لو هيأته لهم فما كان في مقدوري معرفة وقت الشروع في طبخه تحديدا. ثمّ إنني أعتقد أن إحالات اللحم أقرب بكثير إلى ما أقوم به كي أكسب عيشي. كان الأمر سيبدو كما لو أنني أقدم لهم شرائح من جسدي.
كل خنزير يأتي به هذا الجزار المشَعّر الغريب كان كتلة لحم وردية و رطبة . سيبدو مناسبا تسمية الخنزير جسدا حيوانيا أكثر منه لحما مادام أنه في هذا العالم توجد أشياء تسمى حقيقة لحما، مثل جسد مومس. غير أنه في كل الأحوال و أيا كانت التسمية فالجزار كان دائما يأتي بالجثة النحيفة للخنزير الميت. كنت أجمع هذه الجثث في جرائد وأكياس بلاستيكية وأضعها تحت سريري. لم أكن أعرف ما كان ينبغي علي فعله بها.
في المساء و بعد ذهاب الجزار، الذي أتاني بجثة الذبيحة، إلى منزله لم أكن قادرة على استقبال الزبناء كما اعتدت. هكذا كنت أطردهم وهم أمام الباب وأعود إلى الداخل لأرتاح في السرير. كنت أطرد حتى أولائك الذين يأتون متأخرين…
عندما أقارن الحاضر بالماضي حين كنت أكثر شبابا أفترض أنه من الطبيعي ألاّ شيء يبقى كما كان. فيما مضى حين كنت شابة وطرية ، كان الرجال الذين يزورونني في غرفتي يقومون بالحجز شهرا قبل موعد الزيارة.
*****
في ذلك الوقت كانت تلهو فقط. غير أنها لم تكن تظن أن اضطرارها للنوم مع رجال آخرين كي تعيش فعلٌ مؤلمٌ جدا كما هو الآن. ممددة على سريرها كانت تقضي أيامها في تذكر الرجال الذين قاسموها وسادتها. بالطبع ليس في هذا تلميحا إلى أنها خُلقت مومسا (على الرغم من أنه لا يهم إن كانت كذلك أم لا حين أفكر في الأمر). غيرَ أنني أتساءل ما الذي دفعها لكي تصبح كذلك …
كنت أبحث عن غرفة، عن مكان ما يمكن أن نسميه منزلا بالفعل حين التقيت بها. لم أشأ أن أسألها لم كانت تعيش حياة غريبة رفقة كتلة لحم متعفنة. وبما أنني عجزت عن إيجاد المنزل لأسباب متعددة كان ينبغي علي أن أكتفي بغرفة. هناك عزمت على أن أعيش حياتي. لا. عزمت على ألاّ أفعل شيئا. لا شيئ على الإطلاق. فقط تمضية أيامي في الظلمة.
والحقيقة أنني كنت أود الهروب من الكتابة. كنت أود الهروب منها إلى أبعد نقطة. إلى حياة حيث يمكن لي انتظار الموت بشغف أن يأتي مناديا علي في هيأة فتاة أكثر جمال مني بكثير. هكذا وقّعت على عقد كراء غرفة ظهر أنها تحتوي على الأثاث الأساسي تحت رعاية سمسار برائحة كريهة وفظيعة إلى درجة أنك تود أن يفصل بينك و بينه مسافة متر. كان ثمن الكراء مقبولا. وكان ينبغي أن أسكن هناك في حينه، في ذلك اليوم.
في البداية لاحظت الرائحة الغريبة بعد أن غادر الوكيل الذي أتى بي إلى الغرفة ولم يعد أنفي فريسة رائحته العطنة. هذا يعني أن نَفَسَه الكريه الذي كان قذرا مثل لحم متعفن كان قد أخفى عني مؤقتا الرائحة الغريبة للغرفة. وبينما كنت أبحث عن مصدر تلك الرائحة التي كانت تثير غثياني فتحت الدولاب ذا الطراز الأوروبي، وهناك رأيت سريرا مزدوجا عليه امرأة ممددة. فوجئت إلى حد أن فمي انفتح.
لم يذكر الوكيل ذو الرائحة الكريهة شيئا عن وجود سرير وامرأة في الدولاب. وحتى لو كانت المرأة هي القاطنة السابقة للغرفة فإني اعتبرت أن وجودها هناك أمامي خطأ مرعبا مادام أنه كان يُفترض أن أسكن هناك بدءا من ذلك اليوم. حاولت أن أشرح لها غير أنها لم تعرني أي اهتمام وقالت إن الرجل الذي قادني إلى غرفتها لا بد أنه واحد من أولئك المستخدمين الذين وظفتهم فيما مضى لكي يجلبوا لها الزبناء.
ولكن ، قلت لها، سمسارا في وكالة عقارية حقيقية هو الذي جاء بي إلى هنا وقد نقدته مئة ألف ين تقريبا. لا بد أنها وكالة حقيرة نصبت علي.
لم يكن عليك إعطاء المال لذلك الرجل، قالت. كان أفضلَ لو أعطيتني إياه مباشرة.
كنت جد قلقة إلى درجة أنني لم أستطع التفوه بأي شيء ولكنها لم تنتبه إلي واستمرت في الكلام. وبينما هي تواصل كلامها دون توقف لكي تأخذ نفسا، ازدادت الرائحة، التي هاجمتني حين فتحت الدولاب، قوة. لذلك قاطعتها في الأخير لأسألها إن كانت ربما لاحظت الرائحة الغريبة.
إذا كنت تشمين رائحة ما فاعلمي أنها رائحة اللحم. لقد بدأت تتعفن. تعرفين؟
لحم؟ لم لا ترمينه إلى الخارج؟ سألتها.
ثم شرعت تحكي قصة القتل والرجال الذين كانوا زبائنها.
إذن هذه الرائحة منبعثة من الخنزير الذي أعطاك إياه الجزار؟
لا، قالت. لقد أكلت لحم الخنزير الذي أعطاني إياه فيما قبل.
ما هي طبيعة اللحم الذي يتعفن هناك إذن؟
إنه لحم الجزار الذي قتل الخنزير. انظري.
وبعد أن قالت هذا أزاحت إلى الخلف الغطاء الذي يخفي قوائم السرير ثم نظرتُ إلى الفضاء المظلم الذي في الأسفل.
تعرفين؟ ذلك الرجل قال لي إنه يكرهني لكوني قريبة جدا من الرجال الآخرين. كان يودّني أن أغادر هذه المهنة لننشئ سويا أسرة. هل كان يفترض بي أن أفعل عملا حقيرا كذلك؟ كنت حقيقة أحب الرجل لذلك كان عاديا أن أقتله.
وعلى الرغم من أنني كنت قادرة على رؤية كتلة لحم متعفنة دامية وبلا لون تحت السرير فلم يكن في إمكاني الحسم فيما إذا كان جسدا. غير أنني كنت مقتنعة من أن كتلة اللحم كانت فعلا للجزار. الفرق بين لحم وجسد كما عبرتْ عن ذلك بكلمات بسيطة هو أن اللحم يمكن أن يؤكل في حين أن الجسد لا. بالطبع، قالت، كل اللحوم تبدأ كجسد. وما يحوّل جسدا ما إلى لحم هو اليدان اللتان تمسكان به.
هربت من الغرفة من دون أن أسمع باقي القصة.
أنا الآن أبحث عن غرفتها.
في تلك الغرفة الصغيرة المؤثثة حيث الرائحة الكريهة للحم المتعفن أفسدت الهواء، سأقترح عليها الزواج. وبنفسي سأتحول إلى كتلة لحم متعفنة ستمتصها في لحمها. هذا الوهم يمدني بإحساس دافئ وجميل جدا. و الأكثر أنني لاحظت أن لحمي بدأ يتعفن من الداخل شيئا فشيئا. في نفَسي يمكن لي أن أشم رائحة مقرفة جدا إلى حد أنها تثير غثياني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
Rotting Meat* . الترجمة الإنجليزية ل Funiku. والنص مقتطف حسبما تشير المترجمة من المجموعة القصصية المعنونة ب: Usagi ، و التي صدرت في 1979.
المؤلفة: Kanai Mieko من مواليد 1947. روائية وقاصة و شاعرة و ناقدة يابانية. في 1968 نالت جائزة الشعر التي تمنحها مؤسسة Gendqishi Tedo Prise For Poetry.. تهتم كاناي ميكو بالأشكال الجديدة للكتابة لعكس الواقع المعقد.
المترجمة: Kathryn Hemmann مترجمة و أستاذة في شعبة اللغات الحديثة و القديمة التابعة لجامعةGeorge Mason الأمريكية حيث تدرس الأدب الياباني الحديث ، السينما والثقافة الشعبية.