لأن  شعرها يأخذني نحو المستحيل

فن تشكيلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبد الرازق

1

تقول لي إنها تريد صبغ شَعرها بلون يميل إلى الأصفر الملتهب قليلا، أشبه بلون الذرة الناضجة. أضحك من رغبتها تلك وأتساءل عن الأسباب. تقول إنه لا سبب معين سوى مغامرة صبغ الشعر، فأعرف أني أحبها بلا سبب.

تسترسل هي في الحديث عن تسريحات الشعر وموديلاته، بينما أسرح أنا منها، أفكر فيما تقوله، أفكر في تكوين جسد الأنثى وموضع الشعر منه. أعترف لنفسي في لحظة تهور أن الشعر هو أحلى وأحب أجزاء الأنثى إليّ.

2

بالنسبة لي، فأنا  لا أتذكر أبدا أنني همت بالشعر دونا عن أي عضو آخر قبل تلك المحادثة الطريفة عن صبغ الشعر، حتى في لحظات الاكتشاف الأولى، حيث يتعرف الرجل إلى المرأة ككل مدهش وكأجزاء مبهرة، لم يكن الشَعر ضمن أولوياتي، فليس من العقل أن تترك كل إغراءات الجسد، ابتداء من تسبيلة العينين، وانتهاء بنعومة الكعبين، لأجل مجموعة متشابكة من الخيوط المنسدلة من الرأس إلى الظهر.

لحظات الاكتشاف تلك، لا تتعلق بالجنس الآخر فقط، وإنما بكل شيء قد ينعكس عليك ليجعلك ترى العالم في ذاتك، وترى ذاتك في العالم. كان لابد في لحظة ما أن اكتشف أن محمد منير هو صوتي الذي لم أولد به، صوتي الذي طالما وددت لو أغني به لحبيبتي،  وأنوح به في الليالي الحزينة، وأزغرد به في الأفراح، وأتحدث به عن الشَعر الذي همت به في لحظة اكتشاف مماثلة.

 في تلك الأيام أيضا تتبعت أغاني منير في الإنترنت وفي ذاكرتي، لأخلق أي رابط بين الشيئين الذين أهيم بهما. كان الاكتشاف الأثير:  أن منير قد غنى ثلاث أغنيات يشكل فيها الشَعر أساسا للمعنى والحالة اللتين تريد الأغنية إيصالهما. كانت الثلاثة أغان هي – بترتيب محبتي- الطول واللون والحرية، ولما النسيم، وحلي ضفايرك للهوا.

3

أغنية “الطول واللون والحرية” هي أول أغنية تشاركناها سويا. لا أعرف هل كانت تلك نبوءة بشيء ما، أم مجرد صدفة عبثية. الأغنية نفسها تملك حالة غريبة من الاندفاع والرغبة في التصريح بالحب لا لشيء، إلا لأنه الحب فقط.  برغم أن  أول كوبليه في الأغنية هو:  “مش عايز أحبك مش عايز، مش داخل سجنك مش جايز!”، إلا أن تلك الممانعة ليست ممانعة للأسر الذي يفرضه الحب، وإنما تمهيد ملاوع للرغبة الحارقة في دخول هذا الأسر والارتماء فيه حد الفناء.

في بقية الكوبليهات يعدد منير صفات المحبوبة الجسدية، عملا بمبدأ أن الحب مهما تعلق  بالشخصية وتوافق الروح،  فلا يمكن انتزاع الشهوانية منه أبدا، وتلك الرغبة العارمة في الذوبان في المحبوب جسدا ومعنى. يقف منير عند الشعر وقفة خاصة: “بالظبط الشعر اللي بحبه.. الطول واللون والحرية”،  بدون وصف محدد لشكل الشعر الذي يحبه، سوى ثلاثة أوصاف عامة لكنها شاملة، ولا يمكن التفكير خارجها أبدا، الطول، واللون، والحرية، كأن شعر كل النساء خلق على وصف شعر حبيبته. لكنه لا يكتفي. يقدم لنفسه إغراءا شديد الرهافة: “ده مهفهف على وشك لعبه”، ليميت قلبي بجرعة صافية من الرقة، ثم يحييه مجددا بعجزه الذي يشبه عجزي الخاص: “هوصفلك ايه يغمى عليا”.. لأدرك أنا أن عجز اللغة عن الوصف هو منتهى البلاغة.

أعيد تشغيل الأغنية مرارا بلا ملل، وأتحسر: من لم يحب بعد هذه الاغنية لن يحب أبدا.

فن تشكيلي

4

منذ فترة يشغلني السؤال عن علاقة الإنسان بجسده، على أمل أن أصل إلى محبة كاملة لجسدي، وتصالح تام مع فكرة أنني سأذبل في وقت ما حتى أفنى.

في صغري لم أحب شكل جسدي، لأنني دوما ما كنت شديد النحافة بشكل يثير السخرية، برغم أن نحافتي  لم تؤثر على رشاقتي أو مجهودي في اللعب أبدا. في بعض الأحيان كنت أكره تكويني الجسدي وأسعى جاهدا لتغييره، لكنني كنت أفشل في النهاية. ونتيجة حتمية لذلك كان لا بد أن أقع في فخ الانبهار بالشكل المثالي للجسد، سواء للذكر أو الأنثى، تلك الأشكال المعلبة التي تسعى الميديا لغرسها في مخيلتنا بكل الطرق، حتى نتحول في النهاية إلى مجموعة من العارضين والعارضات يمشون في الشارع، وليس مجرد بشر.

كانت الخطوات الأولى في التسامح مع شكل الجسد، هي التسامح مع الاختلاف والتنوع، ثم التسامح مع الحب بكل أشكاله، قبول تلك النزعة إلى الآخر، والخروج من بوطقة  اعتبارها ذنبا محمولا على الظهر. حتى تدرك في النهاية أن الرغبة في الجسد هي تعبير أكيد عن الرغبة العامة في الحياة.

مؤكد أن الشَعر لا يعطي الإغراء الذي تمثله حياة العينين، ولا الإثارة التي توحي بها حركة الشفتين واللسان، ولا حتى المتعة التي تعد بها النهود والبطن والسيقان. يعني لو حاولنا إضفاء بعض القداسة على الشعر، فسنعتبره إطارا يبروز الوجه ليظهر حياة العيون وإثارة الشفاه ويضاعفها، لكن بعد قليل من التأمل وجدت نفسي أصل إلى فكرة حلوة، لأبرر بها اعترافي المتهور في تفضيله، وهي أن الشَعر يمكن اعتباره لوحة فارغة، في انتظار الفنان الذي سيشكلها.

لا أنفي تأثر نظرتي تلك بصناعة الماكياج وتطورها الرهيب في الآونة الأخيرة، لكن الشعر هو أكثر الأعضاء منحا للحرية في طريقة تشكيله واللعب به، لا يشاركه في ذلك سوى الجلد عند رسم الوشوم والتاتوهات. لكن الشعر يتفوق على الجلد في أنه متجدد، ويمكن تشكيله بأكثر من طريقة في وقت واحد.

في صغري كنت أميل إلى الشعر السائح، متأثرا في ذلك بمسلسلات سبيستون، وظللت فترة طويلة أحتقر الشعر المجعد، وأعزف عنه، حتى تمنيت أن اكون أقرعا بدل أن أكون بشعري المجعد. لكن تلك أمنية قاسية جدا، فتخيل الإنسان بدون شعر تماما، كأنه منحدر من فصيلة القراميط أو الضفادع، هو تخيل ديستوبي، يهدم جماليات وجود الإنسان ويقصم مفخرته بنفسه. لو تحققت أمنيتي تلك، لكنا نعيش اليوم في عالم بلا مرايا، أو بورتريهات أو كاميرات وبالطبع بلا سيلفي، عالم مصمت، لا يحب ذاته، لأنه فقد أجمل ما فيه: الشعر.

5

في أغنية “لما النسيم”، يبتعد منير عن حالة الجرأة والاندفاع في أغنية الطول واللون والحرية. مع الجيتار الناعس في البداية، والكلمات المفعمة بالهيام، تأخذنا الأغنية إلى حالة من الحب المتجاوز للإعجاب الجسدي، حتى لو كان الجسد -الشعر والعطور-  هو المدخل لذلك الحب.

ينقذف الحب في قلب منير ليصير خارقا للعادة، يرى ويسمع ما لا يمكن لأحد غيره أن يراه أو يسمعه. في الكوبليه الأول “لما النسيم بيعدي بين شعرك حبيبتي.. بسمعه بيقول آهات”، لوهلة لا تتجاوز الثانية، تصيبك اللغة بحيرة لذيذة، بسبب الضمير في كلمة “بسمعه”، ستتسائل أيهما الذي يسمعه منير، الشعر أم النسيم، ستتخيل أن الشعر يتأوه رقة ودلعا عندما يلامسه النسيم، ثم يرد عليه النسيم بآهة ساخنة دليلا على الشوق والرغبة في الملامسة. حتى تنتهي لذة الحيرة تلك مع الضمير في كلمة “بتقول” في الكوبليه الثاني، العائدة على العطور الملامسة لجسد الحبيبة.

تلك الحالة تدفع منير لفرض تساؤلاته المتحدية:

مين اللي يقدر يعشقك قدي أنا؟

مين اللي يقدر يوصفك زيي أنا؟

والسؤال الأكثر عجبا: عايزاني ليه لما تقوليلي بعشقك ماصرخش واملا الكون آهات؟؟

يرسم منير بتساؤلاته تلك حالة متطرفة من العشق الذي لا يعبأ بأي شيء في الكون سوى الحبيبة، ثم يضع مبررا لكل ذلك التطرف بتبرير واحد وبسيط، لكنه كالاكتشاف الذي يعمي العيون، فيقول عن ذلك الشعور “خلاني أحس إني بشر”.

أقول لنفسي بعد نهاية الجيتار الناعس: من لم يحب بعد هاتين الأغنيتين لن يحب أبدا.

6

حلمت بها وهي تصفف شعرها.

كان أمرا طبيعيا بعد كل هذا الانشغال بالشَعر، أن أحلم بها وهي تصفف شعرها. أنا شخص تشكل الأحلام -بمعنييها-  حياة أخرى موازية لحياته، ولا أتخيل يوما أن أكتب نصا أو أتحدث مع أحد دون العروج على أحلامي. ذلك الحلم راودني بعد يوم عمل شاق، كنت قد أخذت حبة لحساسية الجيوب الأنفية، جعلت رأسي يدور قليلا، وضعت السماعات في أذني وشغلت أغنيات منير حتى استسلمت للنوم. بدا الحلم بضوء مبهر وتوهان، استغرقت فترة حتى عرفت أنني متمدد على أريكة ما في صالة ما، كنت أميل برأسي ناحية اليمين وأدلي يدي حتى الأرض، في حالة استسلام خالص، بينما هي تجلس على كرسي أخضر، بالقرب من الشباك، وتسرح شعرها بمشط خشبي، والنور من الشباك ينسكب من خلفها ليغطي كل شيء سوى سواد شعرها الفاحم. نظرت لي ثلاث مرات وابتسمت، فاحت في الجو رائحة زيت زيتون شفيفة، ثم دخلت نسمة من الشباك فتحركت الستارة الدانتيل حركة بسيطة واستقرت في مكانها في هدوء. لم تتوقف يدها عن تسريح شعرها، ولم اتوقف أنا عن المراقبة.

7

أغنية “حلي ضفايرك للهوا” هي أحدث أغنية اكتشفتها لمنير، على الرغم أنه قدمها مبكرا جدا، في أواخر السبعينيات تقريبا على ما أتذكر.

من أول مرة استمعت فيها لهذه الاغنية وأنا مقتنع تماما أنها أغنية إيروتيكية، متخيلا أن شخصا يغنيها لحبيبته، وهو يحتضنها على البحر. ساعدني في فرض تخيلاتي هذه، كلمات الأغنية المحفزة، واللحن الكرنفالي الباذخ جدا.

اللعبة اللغوية هنا أشد لذة وأحلى بكثير، فتيمة الأغنية تربط بين ثلاثة أشياء، ضفائر الحبيبة، والهواء، والسفن، لترسم صورة خلابة لحبيبة تنتظر حبيبها على الشاطيء، أو تركب سفينة وتلوح له من البحر.

أتخيل ذلك الشاطئ برمله الذهبي، ملك لهما وحدهما، تحت شمس العصاري الحنون، والماء الفيروزي الرائق، حيث تطبع الحبيبة قدميها على الشاطيء، وتتمايل أمام حبيبها بغنج، ثم تفك ضفائرها على مهل شديد، تغمز له بغنج أكثر، ثم تنفك كل الأشياء تباعا، وينفكان من الدنيا إلى نفسيهما، حيث تذهب مركب هواهما إلى بلاد لا تعرف الخداع.

ينتهي الحبيبان فتقوم الحبيبة لتلامس الماء بطرف أصابعها، يرفرف الهواء شعرها الحر الذي فكته لتوها، فتتحقق أمنية حبيبها: “حلي ضفايرا للهوا.. واتمايلي في بحور الهوى.. وغني للحب اللي جمعنا سوا”، ليصر منير خلال الثلاث أغان أن أرق صورة لأي محبوبة لابد ان تكون والهواء يداعب شعرها الطويل ويتلاعب به، ويتلاعب بقلب الحبيب معه، فلا يدرك أيهما الذي يترفرف الشعر له: الهوا أم الهوى!

أشغل الأغنية مرارا وأردد لنفسي: من لم يحب بعد هذه الأغاني الثلاث فلن يحب أبدا.

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار