عندما تموت مدونة

عندما تموت مدونة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

ياسمين مجدى

حذف الكلمات من مفكرة صغيرة مخفية في أحد أدراج المكتب لن يكفيك لكي تُمحي الأحداث التي وصفتها الكلمات من حياتك، ستبقى هناك عالقة، على استعداد لمداهمتك طوال الوقت، ذلك لأنك قصدت عمدًا الهرب منها.

يصف الذين يمارسون الكتابة بأن الحذف قد يحدث ويتخلصون من الأحداث التي تثقلهم، ومن مشاعرهم الكبرى تجاه الأشخاص الآخرين بالكتابة عنها، لذا أحيانًا يخشون الكتابة عمن يحبونهم حتى لا يتخلصوا من الحب في الورق,  فيحدث النسيان.

 

ماذا عن رواية تدور حول كاتب قرر التخلص من كل مشاعره وإيداعها الورق ليعيش متخففًا منها، يسجل حياته لحظة بلحظة، وينشغل عن ممارسة الحياة بكشكوله الكبير والضخم الذي يتثاقل طوال الوقت.. تصبح حياته مع الوقت خالية من كل المشاعر الكبرى، لا يحمل كرهًا كبيرًا، ولا حبًا كبيرًا. يعيد شحن نفسه بالمشاعر عن طريق قراءة ما كتبه عن الأشخاص. سرعان ما يلزم هذا الكاتب البيت، يقابل كل الناس في هذا المكان إلى جوار مجلداته، يسلم عليهم ويدون أنه قد سلم عليهم. يصيبه جنون الحروف وشكل الكلمات، تتحول المشاعر إلى أشكال كلمات يراها على الورق. يقوم في منتصف نومه يسجل الأحلام والكوابيس، ويذكر في الصباح الرعب ذاته، حينما يعيد قراءة الحلم، ويسجل في دفتره أنه أعاد قراءة الحلم.

لا يمكن لهذا الكتاب أن يضيع لأنه أصبح بضخامة لن تمكنه من ذلك أبدًا.

الناس في الشوارع صارت مصابة بالوله الشديد بدفتر المشاعر الأكبر، تناقلوا الأقاويل بأن مشاعر هذا الكاتب مرهفة جدًا وحساسة تجاه الحياة، لذا إذا ما امتلكوا الكتاب يمكنهم أن يحبوا  زوجاتهم، ويكرهوا الحاقدين، ويختبروا الألم في اللحظات التي تبدو لهم مناسبة.

يبدأ الخادم الأمين في تسريب بعض الأوراق من كتاب سيده، يبيعها أحجبة للمرأة الكارهة لزوجها، التي تريد أن يميل قلبها له، ويشتريها أيضًا الأطفال الذين يحاولون محبة المدرسة، والموظفين الذين يكرهون مدرائهم.

رغم ذلك يداوم الكاتب على التسجيل اللحظي لأحداث حياته، يداوم بشغف، رغم تقلص ورق كتابه الضخم، ويكتشف في لحظة فارقة أن حدثًا ما يبحث عنه في الورق لم يعد موجودًا، فيعرف خدعة الخادم، وضياع كثير من أحداث ومشاعر حياته. يموت الكاتب بعد أيام على سبيل المصادفة، ويكتب في آخر صفحة أنه سعيدًا جدًا.. سكينة كبرى تملأه للذهاب بسلام… مطمئنًا على كل لحظات الحزن والسعادة.. الخوف والسلام التي عاشها .. فالكتاب الذي كانت ستأكله اليرقات العابرة، ويطمس التراب أرباع حروفه، اتسعت المساحات بين صفحاته وتوزعت، صارت بين أيادي، تفرح بما فيه، وتزيل أيًا مما يعلق عليه. يمكنه الآن ألا يسجل مزيدًا من الأحداث، مطمئًا على اللحظات البعيدة الخافتة التي لم يعد يذكرها هو شخصيًا.

التصور الثاني لنهاية الكاتب أن يأكل حريقًا تافهًا – سببه موقد الغاز – الغرفة والكتاب. هناك طرق أخرى كثيرة تشبه هذا الحزن. عندما تموت مدونة، ويقرر موقع يحوي الآلاف من المدونات أن يغلق كل صفحاته بجملة قصيرة: “سيتم إغلاق مدونتك تماماً وتحويل أي زائر يقوم بزيارة رابط مدونتك إلى الوجهة الأكثر صلة”. تتحول عندها كل اللحظات البعيدة التي حرضتني ودفعتني لمشاركة هذا الحدث مع الآخرين إلى سراب.. كأنه لا شيء حدث أبدًا، لا سفر، ولا حزن، ولا حب، ولا كره، ولا جنون.

أراجع بسرعة ما كتبته هناك.. الأيام البعيدة، والشخص الذي كنته حينها، ولن أعاوده ثانيًا، ينمو في ذهني أنني كم تغيرت كم أصبحت بصوت آخر لامرأة جاوزت مجرد بضعة أعوام من لحظة كتابة تدوينة سابقة كنت فيها شخصًا آخر.

أول مرة تكتب للنشر على موقع مفتوح على العالم.. أول تعليق بعد انتظار.. أول رأي جارح يوجه لكِ فترتبكين.. أول إشادة كبرى .. أشياء كثيرة لن تتكرر.

في المدونة قمت بأشياء كثيرة تسجل زمني.. شاغبت الصحف التي عملت بها ونشرت فيها ما منعوه من الورق… في المدونة توطدت علاقاتي بكلمات زملائي وحصلوا على مساحة أوسع مني، في المدونة عرفت مشروعات لأشخاص مختلفة سعوا ليكونوا شعراء الأغنية الأولى أو سعوا لإقامة مواقع إليكترونية إخبارية تخصهم، وأشياء كثيرة أخرى، حتى لو كان بعضهم  أراد الكشف عن حبه مباشرة أو وضعه حتى في كلمات خفية.

تفقد مع المدونة كل الأشخاص الذين أحبوا كلماتك، والذين بنوا جسورًا للصداقة أو الذين أخبروك في لحظة صدق مع أنفسهم أنك لا تمتعهم جيدًا بكلماتك.

أغيب عن المدونة أشهر طويلة وأعود لأجد أصدقاء جدد، يقولون لي أن الذي أحكي عنه يتماس مع حياتهم، وهذا سيثيرني جدًا لمزيد من الكتابة.. حجب المدونة سيعني حرماني من الأصدقاء المتوقعين في الغيب الذين يزورون كالطيور المدونات .. صدفة تقودهم إليك، وقرار من الإدارة يوقف امتدادك، ويعيدك إلى غرفة وحيد في بيت.

كل ما يمكنني فعله أن أهرع بسرعة لحفظ تلك الصفحات على جهازي الشخصي، كلما حملني الحنين لذلك الزمن، وذلك الشخص الذي كنته، يمكنني فتح جهازي ومطالعة صفحات تحمل ضوضاء كثيرة. إعادة نشر مكونات المدونة على مدونة جديدة، سيبدو كأنني أحاول الحصول على استنساخ من نفسي أو بالتحديد من تلك التي كنتها، وأنا أريد الانطلاق للأمام.

أثناء كتابتي في تلك المدونة اختبرت الوحدة والبطالة، والعمل بفرصة كبيرة، ثم ضياع الفرصة، وبعدها فزت بجائزة، ثم أصابني نورًا في لحظة مقابلة استثنائية في حياة كل امرأة.. وأنا الآن لست في تلك المساحة الزمنية.. انتقلت الأحداث بي.

ياللحزن

لم تكن المدونة بالنسبة لي مجرد كتابة.. لكنها كانت لحظة صدق مع الذات.. لحظات حركتني بشدة، وفورًا. أذكر أنني بدأت الكتابة فيها بسبب الحزن، وها هي تنتهي الكتابة فيها بسبب الحزن. “كتابات المطر على أوراق الشجر” العزيزة التي ترحلين لأن إدارة الموقع قررت ذلك. يمكننا أن نعقد اتفاقًا. ربما حان أن تذهبين .. لم أعد تلك التي كانت تسجل كلماتها ومشاعرها منذ عامين على الأقل. أذهبي كأنني أحررك، تنطلقين في الفضاء البعيد تحملينني كما كنت قديمًا معك، وتفسحين المجال لامرأة أخرى تخرج من داخلي تلك الأيام، تريد مساحة مناسبة لتتكلم على مدونة أخرى بعنوان آخر. بشرط أن أحتفظ بكل كلمة قلتها سابقًا.

ربما تكوني فرصة جديدة.

يا للفرح

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار