كنت غائبًا عن الفيس بوك

أحمد جاد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد جاد الكريم 

كثيرٌ من الأصدقاء يولون ظهورهم للفيس بوك، البعض يُغلق حسابه، والبعض يتركه خربا بلا مشاركة في أفراح أحد ولا أحزان غيره، لا يكتب بوستا، ولا يُعلق، يكتفي بالفُرجة فقط، ومنهم من هجر هذا العالم الأزرق نهائيا.

تركت العام الماضي الفيس بوك مدة شهرين تقريبا، عندما عُدتُ، أدخلتُ الإيميل وكلمة المرور، فُوجئت أنَّ الشاشة الزرقاء تحولتْ إلى سوداء، تملكني انزعاج تحول إلى ارتياح، قلت لنفسي ما دمتُ قد كرهتُ هذا الوضع الجديد فلن أعود إليه، اتضح لي بعد عدة دقائق أن التحديث الجديد للموقع يُتيح تغيير اللون إلى الأسود على أساس أنه وضع يُريح العين، لا أعرف من الذي أوهمهم أن اللون الأسود يُريح العين، وحتى لو ارتاحت العين هل سيرتاح القلب؟!

عُدت للوضع الطبيعي، وعادتْ الشاشة زرقاء كما كانت، وكما اعتدتها، أخذت أنقر على الكيبورد أنتقل من سطر لآخر، كنت عطشانَ للكتابة، أحتاج أن أفرغ فترة صمتي الفائتة.

الفيس بوك جنة ونار؛ جنة المتابعة ومعرفة جديد الأصدقاء، وكتابات مَن أحبهم من الكُتاب، معرفة الجديد في السينما، والتلصص على آراء الأصدقاء ذوي العيون البصيرة، والناقدة أيضا، هذه حياتي التي أحبها، أن أعيش وسط الكلمات، هذا يُريحني، أرى حيوات الأشخاص، وأراقبهم من بعيد وهذا لا يتسنى إلا إذا كنت أقرأ رواية أو أشاهد فيلما، بعيدا عن هذا العالم أشعر بالضيق، ويؤلمني قولوني، وأختنق، وربما أبكي إن لزم الأمر.

نار التفاهة والاستعراض، وفرض الرأي، والاهتمام بالتريند والمتداول، وفرط الرضا عن البعض، وحب الظهور، وكسر خواطر المختلفين، هذه النار هي التي تحرق، ثم تبعد اليد عن الاقتراب من عالمها الأزرق.

في مرة فات عليَّ مدة ليست طويلة لم أكتب فيها شيئا، جاءت قبل مرض وبعده، في هذه الأحوال أكتفي بالقراءة فقط، أنزع عني رداء الملل من الجلوس في المنزل ممسكا بكتاب، ومتورطا في علاقات بين شخصيات تمرح على ورق، جاءت الانفراجة على شكل عواصف شديدة حالت الأتربة دون الرؤية أثناء السير، قرر المحافظ وقتها منح الموظفين إجازة، صادف ذلك يوم خميس تلاه يوما جمعة وسبت، امتدتْ الإجازة حينها ثلاثة أيام، استعدتُ بريق روحي، عُدت إلى العمل، نشيطا معافىً من الكسل ومن المرض، بدأتُ ذلك التعافي ببوست طويل على الفيس بوك.

قفلة الكتابة هذه تذكرني بما قاله العم هيمنجواي في كتابه “وليمة متنقلة” من ترجمة علي القاسمي   “يحدث أحيانا أن أشرع في كتابة قصة ما ولا أتمكن من التقدم فيها، فكنت أجلس أمام النار وأعصر قشور البرتقالات الصغيرة على أطراف اللهب وأشاهد الرذاذ الأزرق الذي تُخلفه، وأنهض وأحدِّق في سطوح باريس، وأقول لنفسي: لا تقلق لقد كنتَ تكتُب دوما من قبل وستكتبُ الآن. كل ما عليك أن تفعله أن تكتب جملة حقيقية واحدة..”

أنَّى لِي بسطوح باريس- التي زارها في عشرينيات القرن العشرين- ولا شوارعها ولا أزقتها التي ساح فيها هيمنجواي، جلس في مقاهيها، وكتب قصصه، وزار مكتباتها، في الظهيرة من كل يوم يعود فيجد زوجته في انتظاره، وقد امتدت طاولة الغداء، لا حيلة لي بتجارب هيمنجواي في استجلاب الإلهام، ولم يُر أحد في بلادنا يُقشر البرتقال أمام اللهب، نحن نعيش في عُلب إسمنتية تُسمى شققا، ولا نرى إلا لهب البوتاجاز، ونحن نخشى من فوران القهوة، حتى لا تسد حباتُ البُن فتحات عين النار، فتغضب زوجاتُنا!

طقوسي مختلفة عن هيمنجواي، وبالأحرى ليس لي طقوس، فما يأتي بنتيجة إيجابية مرة قد يفشل مع التكرار، حتى المشي أصبح عذابا خاصة في مدينة صغيرة، ولكنها مليئة بالبشر الذين يملؤون شوارعها.

عزائي في الجملة الحقيقية التي تحدث عنها هيمنجواي، تلك الجملة الخالية من “المحسنات والمقدمات والالتواءات اللفظية” هذه هي الجملة البسيطة التي قد يكتبها كائن الفيس بوك، فتأتي مصيبة لهدفها، لأنها فضلا عن بساطتها هي أيضا صادقة.

***

رغبتي في البقاء على ظهر الموقع الأزرق تعادل رغبتي في الرحيل عنه، ولكنني أُكابر أحيانا، وأظن أني لن أعود له مرة أخرى، ولكني ضعيف، أشتاق للحوار ولتعليق الأصدقاء، وطرح الرؤى المختلفة والاستمتاع بمزيد من الاختلافات شريطة ألا تصل إلى حد العراك والحراب، وتبادل الشتائم.

أذهب وأعود، أرحل وأطرق الباب مرة أخرى، أنا مثلك يا صديقي كنت غائبا عن الفيس بوك، مثل الكثيرين، نفوسنا هشة لا تحتمل السيرك المنصوب أياما، روحنا في حلوقنا، لكننا نقاوم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري 

 

مقالات من نفس القسم