ما بين الكوميديا والتراجيديا محاكاة

مسرح
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

الضحك والفكاهة وسيلة لامتاع النفس والدخول في مزاج جيِّد يدفع الإنسان دفعًا لمواصلة حياته وتفريغ عقله من الشحنات السلبية التي يتلقَّاها من صدمات الحياة. وبعد دراسات مستفيضة، يؤكِّد علماء النفس أنه من فوائد الضحك، التي لا حصر لها ولا عدد، القدرة على القضاء على أعتى حالات الإكتئاب. ولا يعني هذا أن الضحك يجب أن يكون نابعًا من الوجدان أو حقيقيًا، فربما يصبح الاستغراق في الضحك آداة ميكانيكية؛ بحيث يحاول الإنسان بعقله الواعي تصَنُّع الضحك، حتى ولو كان دون أي سبب يذكر. ومن أشهر الأمثلة على ذلك، جلسات ونصائح المعالجين النفسيين التي تنقلها البرامج، وفيها يبدأ المعالج بالتدرُّج في الضحك إلى أن يصل لمرحلة القهقهة؛ فلقد ثُبِت علميًا أن عقل الإنسان الذي لا يكف عن التفكير والتحليل، يمكن خداعه بسهولة لتغيير مزاج الإنسان من نقيض إلى نقيض آخر، باتباع أسلوب “تصنَّع الأمر حتى تجيده” Fake it until you make it.

وعلى هذا، فإن جميع الأعمال التراجيدية الشديدة الجدَّية والعنف النفسي، سواء قديمًا أو حتى في العصر الحالي، تحتوي على مشاهد كوميدية، والتي يطلق عليها فواصل كوميدية، والهدف منها تخفيف ذروة إنفعال المُتفرِّج وإعطاؤه دفعة لمواصلة مشاهدة أكثر الأعمال مأساة وعُنفًا.  وبالرغم من فوائد الكوميديا، فلقد وصفها “أفلاطون” بأنها محاكاة لإنسان أسوأ من الشخص العادي، في حين وصف الدراما أنها محاكاة لإنسان أفضل من الشخص العادي؛ فالأحداث القاسية هي شأن العظماء، ولهذا كانت الفواصل الكوميدية يقوم بها المهرجين أو الطبقات الاجتماعية الدُّنيا. وشخصيات الفواصل الكوميدية سخيفة وتتميَّز بالتفاهة؛ لاعتبار وجودها تشويهًا لعظمة الألم، وأن وجودها في حد ذاته بشاعة لكنها لا تتسبب في إيلام أو إيذاء الآخرين.

وبمرور العصور، ظهرت المسرحية الكوميدية، والغريب أن الفارق الوحيد بينها وبين الأعمال الدرامية المأساوية، تبعًا لتعريفها في الدراما الإغريقية، أن العمل الكوميدي نهايته سعيدة، بالرغم من احتمال وجود مواقف شديدة العنف والجدية قد تثير البكاء أو حتى الذعر، كما هو الحال في مسرحية “تاجر البندقية” لويليام شكسبير حينما كان يحدّ التاجر سكِّينه لتقطيع لحم من تاجرًا لم يفِ دَيْنه. ثمَّ، تطوَّر مفهوم الكوميديا ليشمل بعض الأشعار ذات النهاية السعيدة، مثل “الكوميديا الإلهية” التي ألَّفها دانتي في العصور الوسطى. وتطوَّر استخدام الكوميديا فيما بعد إلى أن صارت تحتوي على مواقف تثير الضحك، وليس مواقف سخيفة.

ولقد عمل “النحويون السَّكندريون” (وهم جماعة من علماء اللغة والحضارة في حقبة الأسكندرية الهيلينية” Alexandrine Grammarians، وعلى الأرجح كان هذا بفضل الباحث والناقد وعالم اللغة “أريسطوفانيس البيزنطي” Aristophanes of Byzantium بتقسيم الكوميديا الإغريقية لثلاثة عصور: القديمة والوسطى والحديثة، وإن كان يعتبر هذا التقسيم عشوائيًا بعض الشيء. وبالإمعان في الأمر، يلاحظ أن التقسيم يفسِّر تطوُّر كوميديا العصور القديمة، التي وتفرَّعت إلى ألوان عدَّة منذ القِدم وصولًا للعصر الحالي. وكوميديا العصر القديم عبارة عن أعمال الغرض منها هجاء الوضع السياسي وإن كانت تنطوي على تلميحات بذيئة لإثارة الضحك. والأكثر من هذا، كما في الوقت الحالي، تعمد تلك الأعمال إلى السخرية من كبار شخصيات ومؤسسات ذاك العصر، كما حدث عندما سخر أريسطوفانيس من “سقراط” في مسرحية “السُّحب” The Cloud حينما صوره كمهرِّج.

ولقد تأثَّر بالكوميديا القديمة كبار المؤلفين الأوروبيين الذي خلَّد التاريخ أسمائهم؛ من أمثال: فولتير ورابيليه وجوناثان سويفت وسيرفانتس، وجميعهم لجأوا لحيلة تصوير الشخصيات السياسية الكبرى كمهرجين لتسهيل الهجاء. ولعل أشهر مثال يعيش معنا حتى الوقت الحالي رواية “رحلات جليفر” Gulliver’s Travels التي عمد فيها الكاتب الساخر “جوناثان سويفت” إلى تصوير الحالة السياسية في بلاده من خلال رحلات جليفر الأربع. ولقد ركَّزت الكوميديا القديمة على الإبداع ومحاولة إعمال العقل في كل مشهد، وليس فقط إثارة ضحك هزلي من أجل الضحك.

وأمَّا كوميديا العصور الوسطى، فلقد تخلَّت عن الكثير من العناصر التي كانت تزخر بها الكوميديا القديمة وأهمها عزوف الكتَّاب عن تصوير والسخرية من الشخصيات الاجتماعية البارزة. وبعد موت الاسكندر الأكبر، ظهرت الكوميديا الحديثة التي لا تسعى للهجاء السياسي، بل تركِّز على مواقف هزلية في الحياة العادية، تحدث لأفراد عادية؛ أي أن الكوميديا ابتعدت عن النقد الهادف للوضع السياسي.

وبالنظر إلى القطب الآخر للعالم القديم، ألا وهو الإمبراطورية البيزنطية، يلاحظ أن المسرح، بوجه عام، والمسرح الكوميدي، بوجه خاص، لم يكن ذو تأثير على الإطلاق. ولهذا السبب اندثرت تقريبًا جميع المسرحيات الكوميدية لهذا العصر، والتي كانت تتمحور حول حبكات واهية لشخصيات نمطية لا تتغيَّر. وكانت تدور أحداث جميع المسرحيات حول ابن مراهق أو غير متزوِّج يبحث عن الحب في مطاردة النساء حتى ولو كانوا خادمات، وأب يعارض ذاك الحب وأم ومعشوقة. وبسبب تشابه الحبكات، لم يكن لأي من تلك المسرحيات تأثيرًا يذكر، وإن كانت أهم ميزاتها هو الحوار الرائع الذي يحتوي على عبارات شديدة الحصافة والذكاء، وإن كانت جميعًا الغرض منها إثارة الضحك الهزلي. بيد أن هذا النوع من الضحك الجاذب قد عمل على تطويره بعض الكتاب الغربيين، واستفادت منه صناعة السينما حتى في العصر الحديث. ولعل سلسلة أفلام “قابل والداي” Meet the Parents والتي بطلها روبرت دنيرو وبن ستيلر  أبرز مثال على الكوميديا البيزنطية التي تدور حول موضوعات الحب والزواج واعتراض الأب على الزواج، ومصدر الكوميديا بها الحوار الحصيف الذي لا يفشل أبدًا في إثارة ضحك الجمهور. ويجدر الإشارة بأن تلك السلسلة حققت نجاح عالمي صارخ

لكن هذا الصنف من الكوميديا تنطفئ جذوته سريعًا. وعلى العكس الكوميديا الإغريقية التي تدعو إلى إعمال العقل، فلقد طالها التطوُّر وتفرَّعت إلى أنواع عدَّة سواء في العصر القديم أو العصر الحالي. ويجدر الإشارة أن الأعمال الهزلية الساخرة تتواجد جنبًا إلى جنب مع الأعمال الكوميدية الهادفة التي تنقد مواطن الضعف في الوضع السياسي والاجتماعي، والتي يتم تغليف الهجاء والشكوى المستترة بالضحك حتى بغرض التواتر دون أدنى تعقيد.

ولقد التقطت الثقافات عالميًا الغرض الخفي الكامن من الكوميديا، وتدبَّر المبدعون توظيف عناصرها على نحو مقتضب خلَّاق عند إلقاء النكات؛ فالنكتة عادة تعبِّر عن موقف ساخر يوجِّه نقد لاذع للمجتمع أوالوضع السياسي أو حتى الجوانب السلبية في المجتمع. ولهذا أصبحت مهمة كاتب الكوميديا في العصر الحديث شاقة، فهو يحمل على عاتقه مهمة إصلاح المجتمع والارتقاء بالفكر، حتى ولو استلزم الأمر المساس بقضايا حساسة تثير شجون المجتمع وتجعله يضحك حتى يتلافى البكاء.

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم