‘كل ما صنع الحداد’ لمحمود خير الله: الواقع كضيف ثقيل الظل! 

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 25
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيهاب خليفة

ثمة إشكالية أولى تعترض القارئ الذي يطالع مجموعة ‘ كل ما صنع الحداد’ للشاعر محمود خير الله والصادرة عن دار صفصافة، حيث تتحرش النصوص بالقارئ ‘ البرجوازي’ وتتبنى سلطة النفي والإقصاء من خلال تضييق حيز التلقي لها وتوجيهه إلى قارئها الخاص:
يا مَنْ رأيتُم العجوز ينزف / فهربتْ سياراتُكم بسُرعة، / يا مَنْ بيننا وبينهم/ ‘ كُلّ ما صَنَع الحدّاد’
يا مَنْ تقول الواحدة من زوجاتِكُم للقمر: / ‘ قـُمْ لأقعدَ مكانك’ / يا مَنْ أخذتُـم كُل الهواء / وكُل الزهور، / لأجل بلْكوناِتكُم ومقابِرِكُم، / يا مَنْ تذكّروننا دائماً بالسؤال: / ‘ مَنْ أنتم؟ ومِن أين؟’..
لا تقرأوا هذه القصيدة، / فهي مكتُوبةٌ لغيركم، / لغيركم بكل تأكيد.
هنا تلفتنا معاداة الآخر المتجسدة في ‘ الطبقة البرجوازية’ وتحييده من حيث التلقي للنصوص مما يشير إلى أن التلقي يتوجه ـ ربما ـ إلى النقيض وهو القارئ ‘ البروليتاري’. النصوص هنا تعادي ‘ البرجوازي’ في تلقيها وتقصيه فالنصوص لم تكتب له أصلاً، ولكن في الحقيقة لا تتوجه هذه النصوص أيضا لـ ‘ البروليتاري’ بل هي تتواشج معه باعتباره موضوعها الأثير ونبعها الذي تستقي منه شعرية الديوان، حيث تؤكد النصوص انسحاق الذوات البروليتارية انسحاقا تاما وتغول الرأسمالية، وانتفاء العدالة الاجتماعية. النصوص إذن تتكئ على تمرد كامن وتحرض ضد الكيانات المتغطرسة التي أخذت كل الأزهار وكل الهواء وتركت العجوز ينزف بادئة بخدشها لجمود الكوسموبوليتية وممهدة للثورة ضدها متجاهلة أفكار فوكوياما حيث التاريخ لم ينته بعد وحيث النسق الرمزي للأفكار والمعتقدات يسعى لخلق الوعي الجمعي. يعاود الشعر في نصوص المجموعة امتلاءه وينفر من خوائه حيث يتحرر نهائياً من التفافه حول هزائم الذات المؤسسة لقطيعة معرفية والمنبتة عن الجماعة. يجر هنا محمود خير الله الشعر إلى نبعه الأول، ويستعيد للكتابة غايتها التي عاشت من دونها لقيطة، لا تجد موطئ قدم لها في قصيدة النثر.
تبدأ نصوص ‘ كل ما صنع الحداد’ بميراث اليد، اليد التي تقترف حقائقها وتحيا سيرورة خاصة بها، تسرد الذات الشاعرة ‘ جرائر’ اليد كتاريخ مستقل وتبدأ من شيخوختها وانعدام فعلها:
( أُخْفيها عن نفسي أحياناً / كأنّها جثّة،/ لم تعُد خَشِنةً،/ ولم تعد قادرةً على ارتكابِ شيء)… ( يدي مُسِنّة،/ أصابعُها تزدادُ نحولةً كل يوم،/ كأنّ أحداً يَمسحُها بذكرياتهِ)
يرمز الشاعر هنا لليد باعتبارها أداة عدوانية تتصارع مع الذات وتنهي الصراع لصالحها حيث تزدهر في الوقت الذي تضمحل فيه الإنسانية، فالإنسان يعادي نفسه بتلك اليد ويخلق أدوات تقهره إنه يخلق الشيء الذي يضخم قوته ‘ كل ما صنع الحداد’ بينما يقف أمامه عاجزا. اليد هنا كيان معاد ( يدي ولِدتْ مُسالمة، وبعد دورةٍ أو دورتيْن، لم تعُد يداً بريئة) اليد تهجر كيانها ووطنها ( أتوقع أن تخلعني يدي ذات مرة وتمشي بعيدا عني). تنتفض اليد على صاحبها وتصبح خالقة للشر بسبب هيئتها ووظيفتها في الجسد. إن ذلك قدرها ولعنتها التي لا تستطيع الفكاك منها، فاليد هي المحرك والجسد تابع أعمى لمشيئتها وهيمنتها ولا يجد الجسد سوى أن يستسلم لها بسعادة البلهاء.
( عرفت أناسا يعيشون سعداء / لأن أيديهم انتصرت عليهم / وصارت أحسن منهم)
بينما تسعى النصوص جاهدة لإعادة خلق الوعي الجمعي واستنفار ما تبقى في الذات والآخر معا قارنة السخرية بالألم الدفين وملامسة للتناقضات التي تحيا معنا في مواطنة غير شرعية، ففي ‘ حفرة’ يشير الشاعر إلى تلك الهوة السحيقة التي تترسخ بين الآني والمستقبلي، وبين الواقع والحلم بحيث تولد هوات سحيقة بين الذات ومتطلباتها والحفرة هنا هي الهوة الطبقية الشاسعة التي يكاد اجتيازها أن يكون مستحيلا:
قالت المُرتّباتُ: / دجاجةٌ واحدة تكفي/ كل أسبوع،/ ردّت الفتارينُ عليها ساخرةً:
عشرةُ أعمار/ على أعمارِكم / لا تكفي،/ أيّها السّادة.
يحضر الواقع ‘ في كل ما صنع الحداد’ كضيف ثقيل الظل بينما تتنقل عين الشاعر لتلتقط مشاهد سينمائية، تقع العين هنا على حياة خبيئة وهي رغم بروزها على السطح إلا أن أحداً لا يقف أمامها، إنها كالذي يفتح دولاباً منسياً لإرث قديم تخرج مقتنياته تتأمل اهتراء الأنسجة وما فيها من رقع، حيث الرتوق تتسع وكلما حاك الشاعر جانبا، اهترأ آخر، فتارة تتبدى الغرف الشعبية في أحياء الفقراء حيث لا شيء سوى مساحة مقفلة على أصحابها حيث الاحتشاد والسعادة المؤجلة:
في الأحياء التي نسكُنُ فيها،/ أنا وأنتم،/ تيارُ ماءٍ ينقطع،/ مساء كلّ ‘ خميس’..
في البيوت التي نستأجرُ غُرفاً فيها،/ تكون ضيّقةً في الغالب،/ نتشاجر كُل عدة أيام
مع الهواء الشحيح،/ والذباب،/ وأبناء الجيران،/ كذا في الأسرّة التي نرتمي عليها،
نحن وزوجاتُنا،/ يتعطّل القلبُ ليلةَ كاملةً،/ من دون أن نعرفَ،/ أنا وأنتم/ السَّبَبْ.
وتارة تخرج كائنات الشوارع لتلتقط خاصتها من السلال حيث موائد الكائنات المنسية والتي صارت عادية في ظل حالة عامة من التردي المجتمعي:
في الضِفَّة الأُخْرى من هذا الشارعِ،/ ذلك الولدُ الصّغير،/ الذي لم يَعُدْ يُخفي وَجْهَه/ وهو يأكلُ من القِمامة،/ مثلما كان يفعل،/ قبل أن تَـبدأ الحربُ.
وتارة ثالثة تسرد مبررات الانهيار المجتمعي من خلال جرح الجمود الديني بمقولاته الجاهزة وترديداته الببغائية، ونكوص العقل أمام النقل وبناء يوتوبيا وهمية لا تتحقق إلا على المنابر من خلال فكر متكلس حيث يحكم الموتى بمقولاتهم الأحياء وتنسحب الحياة لتكون تجسيدا هزيلا ليد الماضي التي تحركها وتقهرها حيث تبني المساجد الآن وتزخرف بينما لا يتم تجديد الفكر الديني:
( رغم كل شيء،/ تلعبُ المساجد دوراً على نحو ما،/ لها ملائكةٌ طيبون/ ومصابيح مُنْتَعِشة، لها مقابِض من ِفضّة،/ ومن جدرانها ‘ تَرْشح’ القداسة،/ وحتى لو انحشر البولُ فجأةً، وكان على الواحد أنْ يفعلَ شيئا،/ فلا يتذكّر سواها / الملاعب المغسولة بالفضيلة، التي تصلُحُ دائماً،/ لقضاء الحاجة).
وهكذا ترزح النصوص تحت هيمنة الواقع بسوداويته حتى في مجاوزتها وتخييلاتها وتصطدم النصوص كذلك بالسلطة المتذرعة باليقين والمتقنِّعة بانتسابها إلى العقيدة حيث تنسب مقولاتها إلى حيز متعال وعليم لا تجب مناوأته وبالتالي تمسي الديمقراطية هباء وتتوحش السلطة مدفوعة بمبرراتها اليقينية الجاهزة في نص من أروع نصوص الديوان هو ‘ بكل وضوح’:
( تأكدوا دائماً من كل شيء../ انظروا مثلاً إلى سجاجيد القصر،/ وهي تنبُضُ تحت أقدامِ الوفودِ الأجنبّية،/ إنّها شُعيرات الصبايا / اللائي قتلهنّ الوباء..)
في النهاية أشيد من دون مبالغة بديوان ‘ كل ما صنع الحداد’ الذي تخلص من رطانات بائدة ومقولات جاهزة مستهلكة وتخلص من سموم الحيادية والرتابة التي طالما أحالت الشعر إلى مسخ منبوذ فاقد القدرة ـ حتى ـ على التنفس.
…………………..

*القدس العربي ـ الأربعاء 8 سبتمبر2010

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم