الكتابة بوصفها خطأ تراجيديًّا في “غلطة لاعب السيرك”

غلطة لاعب السيرك
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. رضا عطية

يبدو ديوان “غلطة لاعب السيرك” للشاعر المصري عزمي عبد الوهاب كمرثية وجودية للذات والعالم معًا، إذ يعاين الخطاب الشعري لعزمي عبد الوهاب الأزمة الوجودية المتفاقمة سواء للذات الإنسانية في هويتها الكلية أو للذات الشاعرة في وجودها الفرداني في عالم أمسى غير مواتٍ للعيش بسلام لأفراده.

من عنوان الديوان، “غلطة لاعب السيرك”، يتبدى لنا الخيوط البارزة لنسيج النص الشعري، فالغلطة تعني خطأ ما في الحسابات وتقدير المواقف، واللاعب يحمل معاني اللهو وكذلك احتمالات المكسب والخسارة نتيجة لعبه، أما السيرك فهو يعني المجال التواصلي للعب، فضاء اللعب الذي يتابعه جماهير/ آخر، بما يعنيه السيرك من كونه فضاء للهو الذي يمارسه اللاعب نشدانًا لإرضاء جماهيره.

كما يستدعي العنوان نصًا غائبًا هو “مرثية لاعب سيرك” القصيدة الشهيرة لأحمد عبد المعطي حجازي، فيبدو نص عزمي عبد الوهاب بمثابة مرثية جديدة للاعب السيرك الذي ربما يرمز إلى الإنسان أو الذات في عالم غير مواتٍ.

بالنظر إلى تكوين الديوان، خصوصًا إلى عناوين القصيدة الأولى فيه، “تبدأ الحكاية بأكاذيب بيضاء”، وآخر قصيدتين فيه: تنتهي الحكاية بأكاذيب سوداء”، و”غلطة لاعب سيرك”، نجدنا إزاء نص شعري ممتد ومتمدد، كأنّنا إزاء متضامة سرد- شعرية، ذات ترابط واتصال وحدوي، فلكل نص/ قصيدة اكتفائها الذاتي ودلالته المكتملة، وكذلك اتصاله مع النصوص/ القصائد الأخرى بالديوان التي تشكل سجلاً متتابعًا من الأكاذيب/ الأوهام التي تصدقها الذات/ الغلطة/ الغلطات التي تقع فيها، أو حكاية من فصول متعددة، بما يخلق تضامًا عضويًّا بين نصوص الديوان الذي يمسي نصًا واسعًا كشجرة متشعبة الأفرع.

تبديات الاكتئاب

في خطاب عزمي عبد الوهاب الشعري سخط بادٍ على العالم الذي يعاند الذات ويقف حائلاً أمام بلوغها مناشدها وطموحاتها، في ما يُلاحظ هذا من القصيدة الأولى بالديوان، “تبدأ الحكاية بأكاذيب بيضاء”، وإذا كانت الأكاذيب البيضاء تعني الأوهام أو بالأحرى الإيهامات حسنة النية، فإنّ ثمة إدراكًا يلازم الذات بخداع العالم وزيفه، ما يدفعها إلى السقوط في براثن الكآبة:

مرحبًا

أيتها الكآبةُ

نخبك يا صديقتي. (ص5).

من مفتتح الديوان يتبدى شعور الذات الاكتئابي ووعيها الساخر ورد فعلها التهكمي إزاء حضور الكآبة، وكأنّ الذات تدخل في منادمة مع تلك “الكآبة”، بما تحمله “المنادمة” من معاني المرافقة والتشارك البوحي:

نخبًا آخر يا صديقتي

فالباعة الجائلون

حبسوا المطر في أكفهم

وأعلنوا حدود دولتهم

فطارت الأشجار

إلى صحراء مأهولة بالطاعون

لنرى سلالمَ،

تفضي إلى سلالمَ،

تدوِّخ الصاعدينَ

إلى الهواءِ،

سلالمُ تقودُ إلى متاهة..

متاهة تذهب في كل اتجاه

ولا اتجاهَ،

متاهة في عزلة

تأكل جسدًا

تسطو الحكايات الكاذبة

على حصة من دمه. (ص ص5-6).

ثمة شعور بطغيان الفوضى وتسيُّد العشوائية في العالم الذي تعيش الذات بين أرجائه، ثمة إحساس بالجدب والإقفار وتمكن اللانظاميين (الباعة الجائلين) من حرمان المدينة من المطر، مصدر تجديد الحياة وعلامة الوفرة، ما أفضى إلى فرار “الأشجار”، علامة الحياة والرسوخ إلى “صحراء مأهولة بالطاعون”، وهو ما يفضي بالصاعدين، الذوات الطامحة إلى الارتقاء، للوقوع بمتاهة مدوِّخة، بشتاتهم في كل اتجاه وفقدانهم الاتجاه في آنٍ، ما يؤدي لإحساس الذات بالعزلة، فما بين الشعور بمتاهية العالم في حركة الذات به، وعزلتها بوصفها مآلاً لحضورها الوجودي تتراكم اغترابات الذات.

ونجد في النص الفائت استعمال الصياغة الشعرية لبلاغتي التكرار والتدوير، أي استهلال سطر شعري بكلمة جاءت مختتمًا للسطر السابق عليه، في إبراز لبعض البؤر الدلالية ذات الوجود المركزي؛ فنجد تكرارًا لكلمة (سلالم) بما يؤكّد تمادي الذات في أحلامها بالصعود دونما وصولها لغاية، ونجد تدويرًا لكلمة متاهة، بما يعكس تجدد متاهية الوجود وتكاثرها، فكأنما حالة المتاهة التي تستلب الذات لا تنتهي، فما تلبث أن تنتهي الذات من متاهة أو كأنّها تظن ذلك حتى تدخل في متاهة أخرى جديدة، كما يشي حضور كلمة (اتجاه) مرة في وضعية كلية، (كل اتجاه)، ثم منفية (ولا اتجاه) تعبيرًا عن تشتت الذات وتبدد مساعيها عبثًا في الوصول لجهة ما تكون مستقرًا لها.

ثمة شعور عارم يجتاح الذات بتصحُّر العالم وجدبه ومواته يبدو سببًا لقنوط الذات وفقدانها الرجاء بالعالم:

فقط صحراء

مشتعلة بالهواء الساكت

وسعادة مقتنصة في الظلامِ،

فقد يدٌ

تقبض على حفنة من سراب أسود

ظنته ماءً،

عبيطة هي الصحراء

تشققت في انتظار وهمٍ

لا يجيء

… … ….

مَرحبًا

أيتها الكآبةُ الوديعةُ

سوف ندخل الآنَ

في عتمة

السيدة التي فقدت زوجًا

في الحرب. (ص ص7-8).

يكاد يصير إحساس الذات بتصحر العالم والعدم سواء، وأنّ هذا العالم كقبض الريح، سراب مُخادِع، ويجيء تكرار (فقط) لمرتين في مستهل جملتين تجسيدًا لشعور الذات بخواء العالم، ولكن هل تكون الصحراء التي تسمها الذات الشاعرة بالعبط، أي البلاهة، في تعلقها بالوهم وانتظارها ما لايجيء قناعًا للذات تُسقِط عليه شعورها بخيبتها وخسرانها رهاناتها في هذا العالم؟

ويجيء السطر المنقوط الفاصل بين المقطعين الأخيرين في القصيدة استثمارًا لبلاغة الصمت وتكثيفًا له، فقد يأتي السطر المنقوط تمثيلاً عن الانتظار الممتد للوهم الذي لا يجيء، أو قد يعبر عن انتقال وعي الذات من تَمثُّل حالة التصحر الوجودي إلى معاودة حديثها البوحي مع الكآبة.

زيف العالم وتشكك الذات

يتبدى من وعي الذات بعالمها في الخطاب الشعري لعزمي عبد الوهاب في ديوان “غلطة لاعب السيرك” أنّ ثمة وعيًا يلازم الذات بزيف عالمها أو بالأحرى العوالم التي تتنقل عبرها الذات، كما يتكشف للذات خديعة العالم الافتراضي، “الفيسبوك”:

مصابيح الشوارع زرقاءُ

والنوافذ زرقاءُ

بلدٌ في حدادٍ

ونَهرٌ تسربت مياهُه

من أصابع الظهيرةِ،

والسيدة التي فقدت زوجًا في الحرب

يحتفل الأصدقاء بميلادها

مرتين في العام

لأسباب تخصها وحْدَها،

وهذا لا يعني شيئًا

لدى محترفي النوايا الحسنة،

لكنه يعني أشياء

لدَى الصيَّادينَ

في صفحات “الفيسبوك”. (ص ص9-10).

هل تَمثُّل الذات لمونوكرومية اللون الأزرق وتسيده ما تعاينه من فضاء يعكس شعورًا اكتئابيًا باعتبار أنّ الأزرق لون يعبر عن الحزن والكآبة كما كان عند بيكاسو في مرحلته الزرقاء؟ هل تُمَاثِل الذات بين الأزرق، باعتباره لونًا للفضاء الافتراضي للتواصل الاجتماعي، “الفيسبوك”، والأزرق كلون يرمز للشعور بالوحشة والخواء لما تجده الذات في الفضاء الافتراضي من مصائد للذات الإنسانية كفريسة يُراد قنصها؟ ثمة شعور بشحوب الحياة وبإفلات العالم من قبضة الذوات كنهر تتسرب مياهه بالتوازي مع شعورها بزيف تلك العوالم الافتراضية، الفضاء الاجتماعي الجديد للعالم الذي تحس الذات بتمادي اغتراباتها فيه، ما يدفعها إلى اللجوء إلى عالم آخر، هو عالم المقهى:

لا بُدَّ من حل:

كُرسيٌّ على المقهى

يعالج وَهمًا بوهمٍ،

ولا حيلة مع الذكرى. (ص11).

يبدو لواذ الذات بالمقهى، الذي هو على الأغلب، فضاء المثقفين، حلاً تعالج به أزمة اغترابها في الفضاء التواصلي الافتراضي، عالم “الفيسبوك”، غير أنّ الحل يبدو كمشكلة أخرى بالنسبة للذات التي تعي وهمية عوالم المقهى وزيف فضاءات المثقفين، فكأنّها تعالج وهمًا بوهم آخر، ما يراكم أزمات الذات ويضاعف مآسيها.

في مقابل شعور الذات بزيف العالم يساكنها شعور ملازم بالشك والقلق إزاء حقيقتها الوجودية، كما في قصيدة بعنوان “رجلٌ سريٌّ..وامرأة علنية”:

كعادتِه

وَصَل الرجل العابر مُتأخرًا

السيدة قررتْ أن تحفظ بقايا من جسدٍ

أفسدته متعة العابرينَ،

هيأت مُتكَأً قُربَ البحرِ

لتلتقط الصور الفوتوغرافية

لصخرة تلطمها الأمواجُ

بعنفٍ تحبه،

حاولت أن تأسر الشمسَ

في أوقات الغروبِ،

ومع ذلكَ

كل شيءٍ ظل بعيدًا عن يديها،

حتى رمالُ الشاطئِ

بدت لها في لحظة

وكأنها جسدٌ

أنهكته الأقدام السافلةُ. (ص ص19- 20).

يحفل إدراك الذات للعالم في عوالم عزمي عبد الوهاب حزمة من المشاعر المزدوجة والثنائيات التي تشكِّل العالم والذات، فمن عنوان القصيدة، “رجلٌ سريٌّ..وامرأة علنية”، يتبدى سرية الرجل، وكأنّه يسعى إلى التخفي أو الهروب من الإعلان والمواجهة على عكس المرأة الموسومة بالعلنية، كما يتبدى من التمثيل الخطي وطريقة كتابة العنوان بوضع فاصل منقوط (من نقطتين) بين شطري العنوان ووحدتيه (الرجل/ المرأة)، الفاصل الفارق بينهما، كذلك ثمة شعور لدى الذات بالعابرية، إحساس العابر يعني اللاثبات واللااستقرار، كما يداخل الذات الشعور بالوصول متأحرًا بعد فوات الموعد المناسب، كأنّ الذات تسابق الزمن ولا تحصل أهدافها المتوخاة ولا تبلغ مناشدها المرجوة في الوقت المناسب.

وفي هذا المقطع يتبدى اقتدار الصياغة الفنية في تصويراتها، فالجسد الذي تشعر السيدة بانتهاكه يبدو في موازاة استعارية عبر مزج مونتاجي مع “صخرة تلطمها الأمواج بعنف”، فثمة موازاة بين الجسد المنتهك والصخرة التي تلطمها الأمواج، حتى تعمل الصياغة التصويرية على إعادة إنتاج المعنى من خلال صورة ثالثة تتوازى مع الصورتين الأولتين؛ إذ تبدو “رمال الشاطئ وكأنها جسد أنهكته الأقدام السافلة”، فتبدو الرمال على ما تحمله من معاني الرخاوة والهشاشة واللاتماسك كنظير استعاري للجسد المنتهك والصخرة التي على صلابتها تمسي منتهكًا للطم الأمواج، كما تتوازى الأقدام السافلة مع الأمواج ومتعة العابرين في عملها الإفسادي. لذا نجد حالة من التراكب الصوري الذي يلح على المعنى عبر تجديد الصور الممثلة له.

تشتت الذات وغلطتها

في تأمل الذات في لنفسها كما في قصيدة “تنتهي الحاكية بأكاذيب سوداء” التي تحمل عنوان ديوان سابق للشاعر تسائل الذات نفسها وتمارس عملية اعتراف وبوح ذاتي كأنها تسعى لأن تتطهر نفسيًّا:

أنا “الوجوديُّ”

الذي لم يكن في مكان، (ص50).

وفي موضع آخر من القصيدة:

“الحلوليُّ”

حللت في جسد ليسَ لي

فحقت عليَّ اللعنة. (ص50).

ثم تستمر الذات في تأمل نفسها:

أنا الغنائيُّ.. الخاسرُ.. الضائعُ.. المَهزومُ.. المُتردِّدُ.. الكسولُ.. الشكاكُ.. الصامتُ.. الوحيدُ.. الحزينُ.. الخائفُ.. الرماديُّ..

ولا خجلُ

أنا كل هذه “اللخبطة”

أو كما قالت صديقتي يومًا:

“أنت….. ولا حَاجة”. (ص51).

ثمة شعور متمدد بالاغتراب يساكن الذات، حيث تشعر باغترابها وعدم تحققها في المكان/ الخارج/ العالم، بمثل اغترابها في الجسد وانفصامها عنه، حتى تنفجر الذات في الإعلان عن سماتها والصفات التي تحملها، حتى ترى الذات في تشكُّلها المتقلب ووجوهها المتعددة، ما يفضي بالذات إلى الشعور بالعدمية واللاشيئية: “أنت….. ولا حَاجة”. فتأتي الوسوم المتعددة التي يذكرها الصوت الشعري في وصف الذات كطلقات تطلقها الذات على نفسها، كما تعبّر عن إيقاع الذات النفسي في تمثيل ما يعتريها من اضطرابات، فتمارس الذات تعرية نفسية كأنّها تود أن تتطهر بانفلاتها البوحي.

………………….

* نقلاً عن جريدة “أخبار الأدب” عدد الأحد 15 ديسمبر 2019

مقالات من نفس القسم