إيزابيل ألليندي
ترجمة: د. إقبال محمد علي
كانوا ينادونها “بيليسا كريباسكُلَر”. لم تُعمد في كنيسة لتكتسب هذا الاسم، ولم يكن الاسم الذي سمتها به أمها.. كانت هيّ من اختارته لنفسها، وتقلدت به بعد بحث طويل. كانت حرفتها، بيع الكلمات، لأجل ذلك، قطعت البلاد من أعلى وأبرد قمة جبل إلى أكثر السواحل حرارة. كانت تتوقف في أماكن الإحتفالات والأسواق، تنصب قوائم خيمتها الأربعة المغطاة بقماش الكتان تحت ظل شجرة لتحميها وتحمي زبائنها من المطر وأشعة الشمس المحرقة. لم تكن بحاجة إلى الدعاية لأن حياة البداوة التي كانت تعيشها، شاعت بين الناس، كما النار في الهشيم. كان البعض ينتظر قدومها لسنوات. ما إن تنصب خيمتها في قريةٍ، حتى يهرع الناس إليها ويصطفون في طابور منتظرين دورهم. كانت أسعارها معقولة :مَنْ يدفع خمسة سنتات، يستلم كلمات جهزتها مُسبقاً؛ بسبعة سنتات، تغيير طبيعة أحلامهم؛ تكتب لهم رسائل غرامية، لقاء تسعة سنتات؛ واثنتي عشر سنتاً لِهجاء أعدائهم.
كانت بليسا تبيع القصص، أيضاً! لم تكن قصصها خيالية، بل، قصصاً واقعية، طويلة، تتلوها عليهم عن ظهر قلب بانسيابية ووضوح. سرعان ما انتشرت سمعتها بين القرى.. كان الناس، يدفعون لها أجوراً إضافية لإضافة سطر أو سطرين؛ يذهبون إليها عندما يلد لهم طفل؛عند وفاة فلان أو علان؛ زواج أولاد شخص ما؛ احتراق الحصاد. أينما حلت، تَجِد مجموعة صغيرة متحلقة حولها لسماع أحاديثها والتعرف على حياة الناس الآخرين، سماع أخبار أقاربهم البعيدين وحكاياتها المذهلة عن الحرب الأهلية. الذي يدفع لها خمسين سنتاً، تعطيه تعويذة شعر سرية لتبعد عنه سوء الطالع. كانت تحرص أن يكون لكل شخص تعويذته الخاصة به، لتضمن عدم قدرة آخرين، استخدامها للغرض نفسه، لا في هذا الكون أو العوالم الأخرى، لكرهها الاحتيال على زبائنها.
بيليسا كريباسكُلَر من عائلة مُدقعة الفقر، لدرجة أنها لم تكن تعرف بوجود شئء اسمه (أسماء)، كي تسمي بها أولادها. ولدت في أقليم ذا مناخ غاية في القسوة، غير رحيمٍ بأبنائه…. في بعض السنوات، تتحول الأمطار الغزيرة إلى سيول عارمة، تجرف كل ما في طريقها. في سنوات أخرى، تبخل عليهم السماء، بقطرة. في الصيف تكبر فيه الشمس وتتسع لتحتوي الأفق بأسره وتحول الأرض إلى صحراء محرِقة. في الثانية عشر من عمرها، لم تكن تمتلك صنعة أو مهارة، تعينها على مواجهة قرون من الجوعٍ.
في الجفاف الطويل، دفنت بيليسا كريباسكُلَر أربعة من إخوتها الصغار وحين شعرت بقدوم دورها، قررت قطع الصحراء مشيا، باتجاه البحر. كان غرضها من هذه الرحلة (الاحتيال) على الموت، لتفاديه. أرض الصحراء مصدعة، شقوقها العميقة ممتلئة، بالصخور والأحجار والأشجار المتحجرة، صفوف من الأشجار الشوكية وهياكل عظمية لحيوانات حمصتها الشمس. كانت تمر بعض الأحيان، بعوائل مثل حالها، تتجه صوب الجنوب، أمل العثور على قطرة ماء… البعض منهم، يحملون أمتعتهم على أكتافهم أو في عربات يجرجرونها بالكاد بأيديهم، بعد ساعات، يبدؤون بالتخلص من أغراضهم، لأنهم غير قادرين على حَمْل أنفسهم. كانوا يشقون طريقهم بصعوبة، جلودهم، يابسة متقشرة كجلد السحالي وعيونهم حرقها ضوء الشمس الساطع…كانت تلوح لهم بيدها وتمضي غير قادرة على مساعدتهم خوفاً من إهدار ما تبقى لها من قوة بالشفقة على من خانتهم أجسادهم. هكذا وبعناد استمرت بيلسا في السير ونجت من الهلاك بعد أن عثرت على ينبوع ماء تحجبه نباتات ضعيفة، واهِية. كان هذا الينبوع، سلسلة من ينابيع آخر، تحولت فيما بعد إلى جداول ومصبات أنهار.
بهذه الطريقة لم تحافظ بيليسا كريباسكُلَر على حياتها فقط، بل اكتشفت بالصدفةً “فن الكتابة”. كي تصل إلى القرية التي تقع بمحاذاة الساحل، دفعت الريح قصاصة جريدة مهترئة عند قدمها، رفعتها وأخذت تتفحصها دون التفكير بفائدتها. و يبدو أن فضولها غلب خجلها فتوجهت إلى رجل كان يغسل حصانه من نفس بركة الماء التي روت منها عطشها.
ما هذا؟ سألت.
– قسم الرياضة في الصحيفة. أجابها الرجل دون أن يبدي دهشة من جهلها.
أصابها جوابه بدوار. لم تكن تريد ان تبدو ملحاحة، لذا تراجعت في سؤاله عن الذباب المنتشر على الورقة.
– هذه كلمات يا بنيتي.. هنا مكتوب أن فولكانسيو هزم نيرو تازينو في الجولة الثالثة.
في ذلك اليوم، تعلمت بيليسا كريباسكُلَر أن الكلمات ليست ملك أحد. أي شخص يمكنه استعمالها. وقَدَّرت، انه بقليل من المهارة والكثير من التدريب يمكن لأي كائن عمل المعجزات بها.
فكرت بحالها وتوصلت إلى هذهِ الخلاصة: إلى جانب ممارسة الدعارة أو الخدمة في مطابخ الأغنياء هناك أعمال محترمة من الممكن تعلمها لكسب العيش وبيع الكلمات، بدا لها بديل محترم.
في ذلك اليوم أيضاً، قررت أن تمتهن الكتابة بدلاً من تسلية الآخرين. حين بدأت بتقديم خدماتها للناس، كانت تعتقد أن الكلمة حَصَرٌ للصحافة وحين اكتشفت العكس، بدأت تقييم فوائد مهنتها الوليدة وفِعْل الكلمة الذي لاحدود له. دفعت عشرين بيزة مما تدخر لأحد القساوسة ليعلمها القراءة والكتابة واشترت بالبيزات الثلاثة المتبقية، قاموساً، حفظت كلماته من الألف إلى الياء عن ظهر قلب بعدها رمته في البحر لأنها لم تكن تنوي خداع زبائنها بكلمات مُعدة مسبقاُ.
مرت سنوات…. كانت بيليسا كريباسكُلَر تجلس في خيمتها في ساحة السوق المركزي تكتب لأحد الزبائن عريضة يطالب فيها، بحقه استلام راتبه التقاعدي الذي لم يدفع له منذ ستة و عشرين عاماً. كان السوق المزدحم، يمضي بنفس الرتابة اليومية. فجأة، سمع الناس أصوات عدو وصرخات. رفعت بيلسا رأسها أثناء الكتابة فرأت غيمة من التراب خَلَفَتها مجموعة من راكبي الخيل الذين اقتحموا السوق. كانوا رجال الكونوليل، حضروا بأمر من مولاتو الجبار، الإقليم كله يعرف هذا الاسم لسرعته في استعمال السكين ووفائه لرئيسه. الاثنان، مولاتو والكولونيل قضيا حياتهما في حروب أهلية وأصبح اسماهما رديفين لكلمتي – سفك الدماء والفواجع.
دخل المحاربون السوق مثل قطيع هائج، يستحمون بعرقهم تاركين خلفهم أعاصير من الخوف أينما مروا. تطاير الدجاج في كل مكان وساد الهرج والمرج .. الكلاب تتراكض هنا وهناك، النساء هربن بأولادهن ولم يتبق أحدٌ في السوق غير بيليسيا التي صدمت لرؤية مولاتا يتقدم نحوها، إذ أنها لم تر سابقا، رجلاً عملاقاً، بهذا الحجم.
– أنا أبحث عنك.
صرخ مصوباً مهمازه لبيليسا. وقبل أن يكمل كلامه هجم عليها اثنان من رجاله، هدما خيمتها وكسرا منضدة حبرها. ربطا قدميها ويديها إلى الخلف مثل كرة منتفخة ووضعاها على ظهر حصان مولاتو مثل حقيبة بحار. بعدها بدؤوا العدو باتجاه التلال.
بعد ساعات، أحست بيليسا كريباسكُلَرْ أنها توشك على الموت وقلبها يتحول إلى صحراء بسبب الرمال التي استنشقتها أثناء عدو الحصان. شعرت بتوقف الحصان الحصان وأربع أيدٍ قوية تضعها على الأرض. حاولت الوقوف على قدميها ورفع رأسها بجلال، لكن قوتها خانتها وانهارت متأوهة على الأرض، لتغرق بعدها في حلم مشوش. صحت بعد ساعات على أصوات دمدمات كان من الصعب عليها فك شفرتها. رأت مولاتو يحدق فيها بنفاد صبر ثم ركع إلى جانبها و قال: أخيرا صحوت يا امرأة !! سحب قربة الماء وقدَمَها لبيلسا لتشرب البراندي القوي المخلوط برائحة البارود، لإنعاشها.
سألته عن سبب تعاملهم معها بهذه الخشونة. أخبرها أن الكولونيل، بحاجة لخدماتها. سمح لها برش الماء على وجهها وأخذها إلى الطرف القصي من المعسكر حيث يتمدد واحد من أعتى الرجال على أرجوحة مربوطة بين شجرتين. لم تستطع رؤية وجهه بسبب ظلال أوراق الشجر المتشابكة التي تخفي وجهه وظلمة سنوات قضاها كقاطع طريق. سامحته فيما بعد، لأنها فوجئت، بتواضعه المفرط في حديثه معها ونعومة نبرات صوته التي ذكرتها بترانيم الكهنة.
– أنت من يبيع الكلمات. سأل بيليسيا
– تحت خدمتكم. أجابت بتمتمة، تتفحص الظلمة لإلقاء نظرة على وجهه. نهض الكولونيل على قدميه وأشعل المصباح الذي يحمله. رأت المرأة بشرته الداكنة وعيوناً تقدح كعيون الأسد. في هذه اللحظة عرفت أنها تقف أمام، أكثر الرجال توحداً في العالم.
– أريد ان أصبح رئيساً. قال
أنهكه السفر والترحال في هذه الارض الملعونة واستنفدت طاقته حروب غير مجدية وهزائم لم تتحول إلى انتصارات مهما كانت الذريعة. أمضى سنوات نائماً في العراء، يعضه البعوض، يأكل لحم السحالي و حساء الثعابين. هذا النضال لم يكن سببا كافيا لتغيير مصيره.
ما دفعه لاتخاذ مثل هذا القرار الآن، هو الخوف و الذعر الذي كان يراه في عيون الآخرين. يريد ان يدخل القرى مكللاً بأقواس النصر، والأعلام الزاهية والورود. يريد أن يرحب به الناس ويهدونه البيض الطازج والخبز الحار. سئم مشاهدة الرجال يتهربون من رؤيته، والنساء يهربن هلعاً وخوفًا من أمامه.. كل المخلوقات ترتعد فرائصها منه في أي مكان يمر به. لذا، قرر أن يصبح رئيساً. كان اقتراح مولاتو: الذهاب إلى العاصمة، احتلال القصر والاستيلاء على الحكم، مثلما كانوا يفعلون دائماً. أخذنا الكثير دون أن نطلب إذنًا من أحد. لكن الكولونيل لم يكن يهمه أن يصبح طاغية آخر، فلديهم الكثيرون علاوة على أن هذه الطريقة لن تساعده في كسب حب وتعاطف الناس. كانت فكرته، أن يتم انتخابه بالاقتراع العام في انتخابات شهر كانون الثاني القادمة “أريد أن أخطب في الناس كناخب”.
– هل يمكنك بيعي كلمات لخطابي الجماهيري؟. سأل الكولونيل بيلسيا.
كلفت بيليسا بمهام مختلفة سابقا، لكن هذا الطلب، كان أغربها و من المستحيل رفضه، خوفا من أن يسدد مولاتو رصاصة بين عينيها وعودة الزعيم إلى حالة الكآبة مرة ثانية. أحست برغبة شديدة لمساعدة الكولونيل…شعرت بحرارة تسري في جسدها ورغبة جامحة للمس الرجل وتمرير اصابعها على بشرته واحتضانه بين ذراعيها.
قضت بيليسا كريباسكُلَر الليل والجزء الأكبر من نهار اليوم الثاني تشحذ ذهنها في العثور على كلمات مناسبة لخطاب الرئيس. كان كل ذلك يحدث، تحت رقابة مولاتو الذي لم يرفع عينيه عن ساقيها المشدودتين وصدرها الفتي… استبعد الكلمات الخشنة، القاسية، الكلمات المبهرجة أو المبطنة بالتهديد، الكلمات التي تحوي وعوداً كاذبة، الكلمات التي تفتقر الحقيقة وتربك عقول الناس. إنه يريد كلمات تؤجج عقول الرجال وتغازل أحاسيس النساء. وظفت خزين معارفها التي اشترتها من القسيس بعشرين بيزو، لكتابة الخطاب على ورقة. طلبت من مولاتو فك الحبل الذي كان يقيد قدميها وركبتيها إلى الشجرة. أخذوها إلى الرئيس الذي أثارت رؤيته أحاسيسها كما حدث في لقائها الأول به. سلمته الورقة وانتظرت حتى ينتهي من مراجعتها.
– ما الذي يقول بحق السماء؟ سأل الكولونيل بعد أن انتهى من قراءته.
-ألا تعرف القراءة ؟ أجابته بيلسيا بتساؤل.
– أنا مقاتل. أنا رجل حرب، هذا ما أعرف! أجابها.
بدأت تقرأ الخطاب بصوت عال.. قرأته ثلاث مرات كي يستطيع زبونها نقشه في ذاكرته. عندما انتهت رأت ما خلفه الخطاب من إثارة وتهيج في وجوه رجال الكولونيل الذين تجمعوا حولها لسماع الخطاب.. ورأت فيما بعد، عيون الجنرال الصفراء تشع حماسة… كان واثقا الآن، أنه سيربح الانتخابات بهذه الكلمات وأن كرسي الرئاسة سيكون من نصيبه.
– التأثير المذهل الذي خلفه الخطاب على هؤلاء الشباب يعني أننا سنربح الانتخابات بالتأكيد. قال مولاتو، معلناً موافقته عل الخطاب.
– كم تطلبين لقاء عملك يا امرأة؟ سأل الكولونيل بيليسيا .
– بيزو واحدة.
– ليس هذا بكثير. قالها وهو يفتح حقيبته المتدلية من حزامه التي تحوي على ما تبقى من آخر غنائمه .
– بالمقابل، أنت تستحق هدية صغيرة مني يا حضرة الكولونيل. سأعطيك “كلمتي سِر”. قالت بيليسا
– ما هيّ؟
– قالت موضحة: الزبون الذي يدفع خمسين سنتاً، أعطيه كلمة خاصة به. تجاهل الرئيس ما قالته. فالعرض لم يكن مُغرياً لكنه في نفس الوقت، لم يرد أن يكون غير مهذب مع المرأة التي قدمت له هذه الخدمة الجليلة. اقتربت من كرسيه بهدوء وانحنت عليه لتبلغه هديتها. هيجت رائحة ثدييها والحرارة المتدفقة من ردفيها، خصلات شعرها التي تساقطت برقة على وجهه وعنقه، رائحة فمها المنعشة، أحاسيسه.. همست في أذنه بكلمتي السر اللتين استحقهما. “إنهما لك يا كولونيل” . ثم اضافت وهي تتراجع من مكانها: “تستطيع استخدامهما متى شئت”.
رافقها مولاتو إلى الطريق الجانبي وفي عينيه رغبة عارمة لامتلاكها، مثل كلب ضال. عندما حاول لمسها، أوقفته بمجموعة كلمات لم يسمع بها من قبل،أخافته وأرغمته على نسيان ما كان يفكر به، خوفا من تكون لعنات لن يتستطيع الفكاك منها طول حياته.
في أشهر، تشرين الأول، تشرين الثاني و كانون الثاني، انشغل الكولونيل بإلقاء خطابه العديد من المرات. كان من الممكن لكلماته المؤثرة، المتوهجة أن تتحول رماداً لو لم يلقها بتركيز وعناية. قام بجولات في أنحاء البلاد ودخل مدنا، دخول القائد المنتصر وتوقف في أماكن نسيها الزمن، مزابلها كانت المؤشر الوحيد على وجود بشر فيها. فعل كل ذلك من أجل إقناع الناخبين، باختياره رئيساً.
أثناء خطابه على المنصة الواقعة في ساحة السوق المركزي، كان مولاتو ورجاله يقومون بتوزيع الحلوى وخط اسمه على الجدران بلون الذهب. لم يعر أحداً اهتماما لطرق الدعاية، لأن الجميع كانوا منبهرين بمقترحاته الواضحة ونظرته الثاقبة للأمور. عزمه على تصحيح وتجاوز أخطاء الماضي المعدية، جعل الجميع يشعرون، أنهم سعداء، لأول مرة في حياتهم.
قام رجاله بعد انتهاء الخطبة بإطلاق العيارات النارية في الهواء وإشعال الألعاب النارية، احتفالاً بالمناسبة. عندما غادروا المكان، تركوا املاً في قلوب الناس ظل يملأ هواء المدينة لأيام، لكأنهم لمحوا ضوء مذنب، يخطف في السماء. سرعان ما أصبح الكولونيل الرجل الأكثر شعبية في الحياة السياسية لأنه كان ظاهرة نادرة: رجل شارك في الحروب الأهلية، الندوب تملأ جسمه ويخطب كالملوك. وهكذا ذاع صيته في كل مكان بَعد أن حرك مشاعر أمة.
بدأ يجذب انظار الإعلام. الصحافيون يأتون من أماكن بعيدة لإجراء مقابلات معه ويستشهدون بعباراته وازداد عدد مناصريه و اعدائه. لقد أبلينا بلاءً حسناً يا كولونيل. قالها مولاتو، بعد إتمام اثنتي عشر أسبوعا من النجاحات.
لكن الزعيم كان يعيش في وادٍ آخر. كان يردد كلمتا السر بينه و بين نفسه دون رغبة في التوقف، حتى استوطنت رأسه. يتلوهما كلما أمَضَه الحنين إليها. يترنم بهما في نومه، يحملهما على صهوة جواده، يكررهما قبل أن يلقي خطابه الشهير. في كل مرة تتسلل هاتان الكلمتان إلى رأسه، يفكر في بيليسا كريباسكُلَر وحضورها الذي أصبح لا يستطيع العيش دونه. تتهيج أحاسيسه عند ذكر رائحة جسدها البكر، رائحة ثديها،، الدفء المنبعث من ردفيها، خصلات شعرها ورائحة فمها المنعشة.. ثُم يستمر، يتلوهما ويتلوهما حتى وهو يسير في نومه. بدأ رجاله يخافون أن يموت قبل أن يصبح رئيساً.
– ما الخَبّر كولونيل؟ كرر مولاتو عليه هذا السؤال، مرات ومرات. حتى جاء اليوم الذي انهار فيه الكولونيل واعترف له بمصدر عذابه الكامن في ” الكلمتين السريتين” اللتين غرزتهما في رأسه.
– قُل لي الكلمتين بصوت عالٍ ولنرى إن كانتا ستفقدِان مفعولهما . أجاب مولاتو.
– رد الكولونيل بوفائه المعهود: “لا أستطيع، هما لي فقط”.
تعب مولاتو من مراقبة حالة رئيسه التي كانت تتدنى يوما بعد يوم، مثل سجين ينتظر حكم الإعدام. وضع مولاتو بندقيته على كتفه وخرج للبحث عن بليسا كريباسكُولر. بدأ يتتبع أخبارها في أراضي البلاد الشاسعة… أخيراً عثر عليها في قرية صغيرة في الجنوب، تجلس داخل خيمتها المتنقلة تسبح بمسبحتها. جثم أمامها، مفتوح الساقين مصوبا مسدسه إليها وصرخ بوجهها أمراً: ستأتين معي.
كانت بليسا كريباسكُولر، تعرف طوال الوقت انه سيأتي اليها يوما. جمعت أقلامها ومحابرها، طوت قماش خيمتها، ألقت بشوالها على جسمها وامتطت ظهر جواده بهدوء. لم يتبادلا كلمة ولا حتى التحية. استحالت رغبة المولاتو من اشتهائها إلى الغضب عليها. الشيء الوحيد الذي كان يمنعه من إيذائها، خوفه من “كلماتها” …. لم يرغب بذكر الكولونيل الذي أصبح يسير كالتائه، امامها…. لم يرد أن يجعلها تحس بالرضا عن نفسها.. فما لم تتمكن سنوات الحروب والقتال تحقيقه، استطاعت هذه المرأة إحرازه بهمسة واحدة في أذن الكولونيل. وصلا إلى معسكر الكونوليل، بعد ثلاثة أيام ، وجاء المولاتو بسجينته أمام ( المرشح) وجنوده.
“كولونيل، جئتك بهذه الساحرة كي تعيد إليها كلمتيها السريتين وتعود رجلاً، كما كنت”. قال ذلك وماسورة مسدسه موجهة إلى رقبة بيلسا. التقت عينا بيليسا والكونوليل، ظل يتفحص أحدهما الآخر عن بُعد. أدرك الرجال من عيني الكولونيل اللتين كانتا تقدحان شرراً كعيون الأسد، أنه غير قادرٍ على الإطلاق، على إبطال كلمات تعويذتها السحرية .. مشت بليسا كريباسكُولر باتجاهه وضمت كفيه بين كفيها.. أخيرا، تمكنت من ترويض الوحش.
___________________
*”ولدت إيزابيل ألليندي سنة 1942، في ليما، بيرو. حفيدة الرئيس الراحل سلفدور أليندي الذي كان رئيس أول حكومة اشتراكية في تشيلي. كان والدها (ابن عم الرئيس اليندي)، يعمل في السلك الدبلوماسي. كان عمرها سنتان عندما هجر والدتها. انتقلت مع إخوتها وأمها للعيش مع جدها في تشيلي. تتذكر الليندي نفسها كطفل متمرد في السنوات الأولى من حياتها. وقالت في مقابلة مع التليجراف: “لقد عشنا في منزل “ثري – بلا مال” : “كان جدي يدفع ما يكفي من ضرورات العيش، لم يكن لوالدتي نقود حتى لشراء الآيس كريم. أردت أن أكون مثل جدي لأن والدتي كانت تعيش حياة مرعبة، كان لديه امتيازات استثنائية:القوة، الحرية وسيارة – أعتقد أنني في هذه المرحلة في حياتي بدأت التمرد على عالم الرجل: الشرطة ، الكنيسة وكل شىء”.