“كفراشة تتراقص” لمريم بن موسى.. نصوص بألوان مشرقة

كفراشة تتراقص
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 خالد البقالي القاسمي

     أصدرت المبدعة المغربية “مريم بن موسى” كتابا يضم مجموعة من النصوص التي تحمل عنوان “كفراشة تتراقص”، وقد صدر الكتاب في طبعته الأولى عن مطبعة ووراقة بلال بمدينة فاس المغربية سنة 2019، ويضم ثلاثا وستين صفحة متوسطة الحجم.

     يشير الكتاب إلى أن طبيعة النصوص بالكتاب هي شذرية، بمعنى أنها نصوص تمتح من الفكر النظري والفلسفي خلفياتها التي تعتمدها في بناء وتأسيس وكتابة المتون، ولا نجد في النصوص ما يثبت حقيقة الخلفية النظرية المعتمدة التي تستطيع إدراج هذه النصوص ضمن الكتابة الشذرية الدقيقة بالغة العمق، ويبلغ عدد النصوص بالكتاب مائة واثنين، موزعة بشكل هندسي معماري مختار ومفكر فيه، حيث تضم كل صفحة من صفحات الكتاب نصين اثنين، ويفصل بين النصين في كل صفحة بياض مؤثث للمكتوب ودال عليه، بمعنى أن البياض يتسيد الصفحة ويهيمن عليها بطريقة تامة، الأمر الذي يذكر بالبياضات المرتبطة بالكتابة الشعرية التي يتم اختيارها من طرف عدد من الشعراء تأسيسا على اختيار منهجي ونظري مقصود.

” كفراشة تتراقص “، أين يتجلى رقص الفراشة؟ هل رقصتها للموت أم للحياة؟ من يستطيع التأكيد على أن ما يراه من حركة الفراشة هو فعلا رقص؟ ثم كيف يلهم رقص الفراشة إبداعا؟ ألوان الفراشة هل هي لجمالها ورونقها أم للعرض على الأنظار؟ الأمر بالتأكيد شبيه تماما بحمامة ” المعري “، حيث نحن لا نعرف هل الحمامة باكية أم شادية فوق الفنن؟ هل هي مبشرة أم منذرة؟ هل هي صادحة أم صائحة؟ هي في الأصل صورة ذات طابع فني جمالي يهتم الجميع بامتداداته ومكوناته، فالجميع يحبون الفراشة، ويحبون الحمامة، كل واحدة توحي وتلهم، ولها في أدبيات القوم تجميع من الكلام والقول، كله يصب في مجال الاهتمام والعناية والإعجاب والإشادة، وهكذا إذا كانت الفراشة تتراقص فعلا بغنج ودلال فهل تراقصها مؤثر وموجه للنصوص المكتوبة؟ يبدو الأمر شبيها بالقول الشعري الذي يزدان منذ الانطلاق بعناصر من الصور الجميلة الموحية، متضمنة لدلالات متنوعة كلها تنحو إلى الحياة والنضارة والانطلاق.

     عتبة المجموعة تنطلق نحو بوحها ووشيها بواسطة تيمة النسيان، النسيان الذي يطوي جميع الذكريات ويصيب المحيط بالجفاف، مثل التي جف بحرها وهي تحاول أن تلحق بالركب الذي سار مسرعا وأهمل وراءه الجميع، فطال الانتظار حيث أصاب الوهن أحدهم فأغفى ووجد نفسه داخل الجب غارقا في ذاته الثكلى، فاكتشف الوهم فأرغم على بيع ضميره الذي أضحى فراغا سرابا، استعاد توازنه بعد ارتياح روحه وهي قصيدة في صفحة القمر البهي، ضمنها ذكرياته المستهلكة، وإحساسه الخرب، وفقد توهجه لما تراقصت حوله أسراب من الفراشات الملونة.

     فعل المتكلم واضح وصادح في المجموعة، وذلك من خلال تأثيره في بناء النصوص وتوجيه صيغها المختلفة والمتنوعة، المتكلم المباشر الأصيل أو المتكلم الضمير، لقد غيرت الكاتبة عدة صيغ لكي تترك للقارئ فرصة المشاركة في قراءة وإعادة كتابة النصوص حسب الفهم والتأويل، خصوصا عند استعمال الرموز أو الإحالات الثقافية، أو الكتابة المباشرة الصريحة التي لا تحتاج إلى واسطة لبيانها وشرحها وتبريرها، وهي كتابة تمتد في اتجاهات عدة، فتارة هي حزينة، وتارة فرحة جذلى، وتارة أخرى موحية إيمائية، وطورا آخر متشفية، وفي بعض المرات متحسرة ومنكسرة.     

     تناثرت النصوص فوق أرضية المجموعة، وانتشرت على أديمها حاملة لعناصر وجودها وفنائها معا، وجودها من حيث الإقناع والضبط، لأن الوجود الأدبي هو الذي يضفي الحياة على النص المكتوب وينظم سياقه وإيقاعه وبناءه، وفناؤها من حيث المعنى والدلالة، لأنه كلما أنتج النص معناه انتقل إلى الاشتغال على غيره فيفنى معينه وينضب، وتنبري الدلالة بارزة لكي تجلي الغامض والمضمر، نصوص المجموعة حاملة لحياتها عبر العناوين المتعددة التي توجت نصوصها، عناوينها سيمفونية للحياة، إذ إن تعدد العناوين هو في حد ذاته وعمقه نصوص أخرى مختارة ومنتقاة، فهي تلخص وتجمع وتفصل في نفس الآن الحياة في رمتها وكليتها، كل عنوان عبارة عن نص منفصل عن النص ومتصل به في نفس الوقت، كل عنوان يغطي زاوية من زوايا الحياة المفعمة بالحركة والعنفوان، إنها بمثابة رجع الصدى الجماعي الوجودي لمجتمع حي ينبث أفراده بين جنبات الأزقة والحواري الممتلئة بالصخب والعنف، والصمت والهدوء، إنها مضادات ومقابلات كلها باقة تشكيلية ترجع الصدى الممتد للحياة وأناشيدها، نصوص المجموعة تسائل وتناقش وتتأمل فهي تطرح في مضمونها كثيرا من الأسئلة، لا تقدم أجوبة، بحيث تظل فعلا للإبداع الذي ينبغي أن يكون الكاتب واعيا جدا به وعلى أتم الدراية بمكوناته ومقاييسه، إذ كلما كان الكاتب واعيا جدا بإبداعه كلما استطاع أن يحقق الانسجام التام بين أدبه وبين المادة التي يشكل ويبني بها هذا الأدب، وفي نفس الوقت يكون بصدد الابتعاد عن تحويل الأدب إلى شيء مقزز والاتجاه به نحو الصلابة المفهومية داخل سياق لا يستطيع بتاتا أن يلغي تنوعه الزاخر، وهو ينحو نحو الاستقرار ضمن أسس نظرية مقولة ومجربة وكافية لتحقيق اليقين بصدق المسلمات المسهمة في بناء بهاء النصوص.

     نصوص المجموعة تظهر قدرة واضحة على إعادة إنتاج وطرح أسئلة جديدة باستمرار، فعند كل إعادة قراءة أو تأمل يبدو لنا بأن إشعاع النصوص يتوفر على تأثير بارز في القدرة على تقديم أجوبة منتظرة، وهو الأمر الذي يوحي بأن أسئلة ما ما تزال تزخر بها هذه النصوص، فهي ما زالت تكتنز ما لا يتصوره أولا ينتظره الكثيرون، فقط يكفي أن يلمس أصحاب النظر المستحيل هذا المعنى لكي تصبح النصوص طيعة في تقديم الجديد باستمرار، إنها النصوص التي يمكن أن نسميها بنصوص تأبيد الحمل، فهي في حالة مخاض دائب، وغير متوقف، وغير منقطع، كل هذا ما دامت علاقتها بعناصر وجودها ضمن الحياة الزاخرة مستمرة وكاملة، الحياة العامة هي التي تمدها بالمأساة والملهاة، وبواسطتهما تبني هيكلها وكيانها، بدونهما هي صحراء يباب، لا تملك من عناصر الوجود غيرهما، ولذلك فهي مدينة لهما بالكثير، ورغم وجود بعض العسر في تحقق أصل المنشأ في بعض النصوص بسبب إغراقها في اللإنتماء فإنها استطاعت هي الأخرى أن تتدارك ترنحها وتعثرها وتستقيم من جديد من خلال استعادة التوازن عبر نصوص تجيد صناعة تناسل الأسئلة والإيحاء ببعض الأجوبة المغرية.

     تحتفي هذه النصوص بالمظاهر المتعددة وتأنف من الاكتفاء بالمظهر الوحيد، اليتيم، الذي يفتقد معناه ومبناه معا، إن هذه النصوص تحقق جدارتها من خلال الاحتفاظ دائما بألق وإشعاع يمكنانها من الوصول إلى التربع على محور للبحث والتنقيب باستمرار، إن المفتض لخصوصية هذه النصوص يستطيع أن يلفي نفسه يجمع في رؤيته بين الإمكان الواقعي الداخلي والخارجي معا، الحياة في أوضاعها الواضحة والغامضة، الوجود في كنهه المضمر والمعلن، فقط على المهتم أن يركز النظر ويعيد التركيز من جديد، النصوص توحي في كليتها بوجود مشترك عام يؤثر بطريقة لافتة على جميع مكونات بناء النصوص من خلال استثمار ذلك المشترك في تشييد العلاقات المتماسكة التي تمكن من الرؤية المستقيمة لتحديد العلاقة الناظمة بين مجموع النصوص عبر تناثرها داخل بياض عالمها الذي سوف يصنع تاريخها، يجب أن نستحضر القدرة الأدبية الجمالية التي توضح كيفية تحويل الواقعي إلى التصور المتخيل، وهو الأمر الذي يمر عبر مسارب وأسرار تتعلق بالذات الكاتبة، والمحيط المؤثر، والطاقة التي تستوعب الصور الحياتية وتعيد نحتها صورا جمالية أدبية.

     نصوص المجموعة يمكن أن نخضعها لما يسمى بالحرية الإبداعية للكاتبة، حيث لا يوجد إكراه يدفع إلى الاعتقاد بحتمية توجيه الكاتبة نحو جدلية معطاة في نسج خيوط النصوص وتطريزها، حيث يبدو أن النصوص تمتح من شفافية عذرية بارزة، لا تلتزم في مجموعها بخلفية أو توجيه، لأن وجود أي من هذه الإكراهات المشار إليها يستلزم تقديم المعادل النظري للكتابة عبر توضيحه من خلال البناء والهيكلة والتشييد والرؤية والخلفية، يبدو أن الأمر يعود إلى الوضوح التام، وإلى الشفافية الكاملة، وبالتأكيد إلى الفطرية الأصيلة.

     إن هذه النصوص تطرح مشكلا مهما يتجلى في الأسلوب واللغة، لقد قدم أسلوب المجموعة نفسه ضمن وتيرة واحدة موحدة لم يحد عنها قيد أنملة، يمكن أن نقول عنه بهذه الصيغ إنه أسلوب رصين، وهذا غير بعيد عن طبيعته إذ يستطيع بهذا الشكل أن يحقق رصانته ضمن عالمه وواقعه، دون أن ننبري لجعله مسرحا لمقارنات قد تكون غير مجدية وغير مفيدة، ثم إن اللغة التي كتبت بها المجموعة يمكن أن نعبر عنها بأنها لغة مناسبة لأسلوبها، أسلوب هذه اللغة لا يحلل، فهو يكتفي بالتقاط الصورة ويزنها بميزان الذات ومن ثمة يلقي بها هيولى واضحة تحتاج إلى صورة جديدة ضمن عالمها المتحول الواعد في رحاب الجمالية والأدب، تتكفل اللغة بتحديد معالم الصورة الجديدة بواسطة كلمات منتقاة بعناية، ومختارة باهتمام، ضمن اقتصاد واضح ولافت، يكون الكل كافيا لكي يشغل الوعاء المراد والذي يصبح جاهزا للاستقبال في شكل نص ضمن نصوص كثيرة ومحيطه / محيطها افتراض فراشة تتراقص تقوم بالتحرك وهي توقع وتبصم على نصوص المجموعة.

مقالات من نفس القسم