أحمد رجب شلتوت
تقطع جدته عليه خلوته في الصالة المعتمة، لا تضيئ النور لكن تعيد تحذيره ممن تسميهم “إخواننا”. تبسمل وتصمت لثانيتين قبل أن تضيف: “يجعل كلامنا خفيف عليهم”.
إخوانها هؤلاء، كم تخشاهم، فقد ينفردون به لطول فترات جلوسه وحيدا في العتمة، تحمل مبخرتها النحاسية، تطوف بكافة أرجاء الشقة، تتوقف طويلا عند كل ركن في البيت، تتمتم بأدعية وتتلو تعويذات وكأنها تهمس لكائنات خفية تسكن الأركان ولا يراها سوى الجدة، تشكو للكائنات من صفية التي كانت تظنها أما لصبحي لكنها باعته مرتين.
يضيق صبحي بهذيان جدته وبرائحة ما تطلقه من دخان معبق بالبخور الجاوي الذي يمنح الدخان كثافة تثقل نفسه، يترك لها الصالة، يلوذ بغرفته، يجلس على الكنبة، يلحظ غياب قطعة الكرتون التي تغطي الجزء المكسور من الزجاج، لعل نبيلة أسقطتها وهي تنفض التراب عن الجدران، هي لا تمسح الزجاج برفق، تضربه كما تضرب الحائط بقسوة، كأنها مثل خالتها تتوهم كائنات تتقافز على الحائط فتجلدها بقطعة القماش التي تظن نفسها سوطا يطرقع في الهواء.
تطمئن جدته لابتعاد الأشباح الخفية عن الصالة، فتقرر مطاردة ما تسلل منها إلى غرفة صبحي الذي ساءت أحواله في الفترة الأخيرة، يصمت كثيرا، وضاعت ضحكته وفاض أساه، تشكو من نبيلة التي تضرب ابنيها كثيرا، تتلذذ بعياطهم، تقسم لصبحي أن نبيلة أخته، وأن صفية ليست أمه، يهرب من هذيانها، يلوذ بالمقهى لكن شلة الشطرنج تشتت شملها، فمنهم من سافر ومنهم من اختفى دونما سبب، لم يبق سواه، وحيدا يقضي أمسيته الأخيرة في المقهى قبل بدء تجنيده، لن يغادر قبل أن يطمئن لخلود جدته إلى النوم.
***
لم يشعر باقتراب نبيلة منه، وقوفها خلفه لثوان، تحديقها في شعره الأصفر المائل إلى البني، السيجارة التي تتراقص بين شفتيه، كان مستغرقا تماما في رقعة الشطرنج، يتأمل توزيع القطع عليها، يفكر في النقلة التالية، يلاعب نفسه بجدية تليق ببطولة كبرى، فاجأه صوتها:
_ كش ملك.
صامتا ينظر إليها، تلمح قطرات العرق تبلل جبهته، يعود إلى تأمل الرقعة، بدا له أن المعركة لم تزل طويلة، تجلس قبالته على ركبتيها، يحرك الحصان الأسود، ينفث دخان السيجارة، يهمس لنفسه:
_ هكذا أصبحت الطابية البيضاء مهددة من الحصان الأسود، فكيف نحميها؟
_ هكذا..
يبدو وكأنه انتبه لحظتها فقط لجلوس نبيلة في مواجهته، يُخلص الجندي من قبضتها، يزجرها بنظرة غيظ لكنها تواصل، يُعيد الجندي إلى موقعه، بحسم يرد يدها الممتدة باتجاه الطابية، ثم يعود إلى تأمل الجنود المنتشرين فوق الرقعة، يلمس أحدهم لكن يتراجع عن تحريكه، يضع إصبعه على رأس الوزير وينفث النفس الأخير من سيجارته، يبقيها لحظات بين سبابة اليد اليسرى وإصبعها الوسطى، يضرب عقب السيجارة بطرف سبابة يمناه، يتطاير رذاذ الدخان المنطفىء ينفخه عن بنطلون بيجامته ثم يقبض على العقب، يطفئه في الفرجة بين رأسي بلاطتين عاريتين، يفركه بإصبعيه قبل أن يقذفه بظفر سبابته باتجاه الجالسة قبالته، يسقط العقب في حجرها، ترميه باتجاه صبحي قبل أن تمد كفيها لتزيح كل القطع عن مواضعها معلنة انتهاء المعركة دون حسم.
غاضبا يمسك بكفيها وهو يزوم هامسا:
_ ملعون أبو رخامتك
تخرج لسانها لتغيظه، يقسم برحمة أبيه أن خشيته من استيقاظ جده وجدته هي وحدها السبب الذي منعه من صفعها، يطالبها بأن تغادره وتعود للنوم، تبتسم وتقترح عليه أن يشربا شايا، يرفض، يسمع قسمها الهامس وهي متجهة إلى المطبخ بأنه لو لم يشاركها شرب الشاي فسوف تصب الكوب الساخن فوق رأسه، يبتسم ويطالبها بألا تضيف السكر إلى كوبه.
يسمع صوت خرير المياه وهو داخل إلى غرفته، يفتح ضلفة واحدة من زجاج النافذة المطلية بالأزرق، يضع إصبعين في فمه ويطلق صفيرا متقطعا، يظل يصفر حتى ينتبه العم عطوة الواقف بعربته الخشبية عند رأس الحارة، عطوة يعرف طلبه، فيأتيه بكيس الفول السوداني المقشر الساخن وسيجارتين بلمونت، يتناول الكيس ثم يُحكم إغلاق النافذة.
***
منذ قامت الحرب وجدته لا عمل لها إلا طلاء كل النوافذ باللون الأزرق، كل عدة أيام تفتح كيسا من زهرة الطربوش، تصب محتوياته في دورق كبير، وتظل تقلبها بملعقة خشبية كبيرة حتى تذوب تماما، تغمس فيها قطعة قماش منزوعة من ثوب قديم، وتدور على كل الحجرات، يكتسب كل زجاج البيت اللون الأزرق، تحذر نبيلة زوجة ابنها من مسح الزجاج بقماش مبلول، ذلك يزيل اللون الأزرق ويجعل ضوء الشقة مرئيا للطائرات المغيرة، تضحك نبيلة وتحاول طمأنتها، فليس ثمة خطر يمكن أن يداهمهم عبر النوافذ المضاءة، فتغضب:
_ وهل يكذب حماك وشيخ الجامع وشيخ الحارة والراديو، كل هؤلاء يكذبون وأنت يا ابنة أختي وحدك الصادقة.
_ الحرب انتهت منذ زمن يا خالة
_ لماذا لم يعد ابني فتحي إذن؟
تدمع عينا الأم، وتواصل مهمتها المقدسة، تفرغ من كل النوافذ لكن الدورق لم يفرغ، تخرج إلى الشارع، يواجهها ساتر مبني بالطوب الأحمر، يكاد يسد مدخل العمارة، تتجاوزه قاصدة التاكسي المملوك لابنها الحسيني زوج نبيلة، تُغدق زرقتها على فوانيس السيارة، ولم يفرغ الدورق بعد، تقف محتارة، هل تسكب بقية السائل الأزرق أسفل الجدار أم ترشه على الساتر الطوبي، لكنها تحسم أمرها بسرعة وتختار بديلا ثالثا، تمنح زرقة السائل للزجاج الأمامي للتاكسي، تتنهد بارتياح لأن السائل الأزرق كان كافيا، لكن صراخ الحسيني بدد ارتياحها:
_ بتعملي إيه يا أمي؟
يزمجر منطلقا بالتاكسي بينما الأم تبكي وتنادي على فتحي الذي لم يعد من الحرب بعد، يسألها صبحي العائد من ورشة الأرابيسك عما أغضب عمه الحسيني، كان ينطلق بالتاكسي بسرعة جنونية، تشرد وتتمتم وكأنها تجيب:
_ لم يذهب بي إلى القرافة لأقرأ الفاتحة على روح أبيك سيد ولم يأتني بخبر عن عمك فتحي.
***
كان نور الصالة مطفأ، نبيلة فتحت التليفزيون واكتفت بالضوء الصادر من الشاشة، يخفض من الصوت وهو يشير إلى غرفة نوم الجد، يهمس:
_ لو أردت مشاهدة فيلم السهرة ثم النوم دون نكد فلا توقظي أحدهما
تسأله عن موعد ذهابه إلى الجيش، يشعل إحدى سيجارتيه، ينفث دخانها في وجه نبيلة:
_ غدا.. بعد الفجر
_ أهكذا يا صبحي تتركني وحدي معهما؟ عمك باع التاكسي وسافر، وعمتك تزوجت، وأنت أيضا ستغادر، وسأبقي فريسة لطفولة ابني عمك وشيخوخة جديك.
***
كانت الجدة تسأل: كيف يذهب صبحي إلى الحرب قبل أن يعود عمه؟ وتظل تعيد السؤال رغم تأكيدات الجد بأن الحرب انتهت، لا تهدأ، ولا تفهم: ما دامت الحرب قد انتهت لماذا لم يعد فتحي؟ ولماذا يأخذون صبحي؟
يغضب الجد ويزمجر ويكيل كل أنواع السباب لأم صبحي، أرملة ابنه البكري التي أطاعت أهلها وهجرت بيت أبو ابنها بمجرد انتهاء فترة العدة، وزوجوها قبل أن يحول الحول على وفاة أبوصبحي، رمت ابنها وأنجبت نصف دستة من الزوج الثاني، لذلك رفضت خطة الجد لإفشال تجنيد صبحي، أحد جلساء الجد أشار عليه بأن تطلب أم الولد الطلاق من زوجها الثاني، هكذا يكون صبحي عائلها فيمنحونه تأجيلا يمتد إلى ما شاء الله، وجد الجد في الفكرة طوق نجاة، ألقاه بين يدي صبحي، فقبض عليه وهرع إلى أمه.
سألته: “فاكر يا ابن بطني آخر مرة شفتك فيها؟ يومها وعدتني إن عمرك ما هتبعد عني، وفعلا ما بعدتش، يا دوب غبت سنتين وراجع النهاردة عاوز تطلقني من أبو ولادي، تشرد اخواتك عشان تهرب من الجيش؟”.
اسودت الدنيا في عينيه، استعار غلظة الجد وقسوته، جلدها بلسانه قبل أن يغادرها قائلا: “رميتني في طفولتي وتزوجت، والآن ترمينني مرة أخرى، أنا أمي ماتت النهاردة”، بكت بحرقة كيوم وفاة أبيه، أدركت أنها فقدته مرة ثانية، وإلى الأبد.
***
تُسلم نبيلة نفسها لفيلم السهرة، يرمق صبحي انعكاس ضوء الشاشة على وجهها، لم يرها أبدا بمثل هذا الجمال الرقيق الناعم، يستشعر مشاركتها زبيدة ثروت ذوبانها في حضن حليم وهو يغني، ثمة غلالة من أسى تكسو ملامحها الجميلة، يراها رقيقة وهشة كفراشة، يتذكر بكائها الصامت لأيام بعدما شرع عمه في ترتيبات السفر، خيرته بين أمرين لم يختر أي منهما، قالت “إما أن تبقي أو تأخذني معك”، لكنه لم يبق ولم يأخذها، وهي لم تجف دموعها إلا بعد أسابيع، ظن أنها ستفرح لسفره، تتحرر من سطوته وقسوته، كثيرا ما كان صبحي يسأل نفسه: هل تحب نبيلة الحسيني إلى هذه الدرجة؟ وكيف يمكن أن تحبه رغم قسوته المفرطة معها؟ كثيرا ما كانت الجدة تعجز عن منعه عنها، فتدعو صبحي للمشاركة في تخليصها من بين يدي زوجها؟
بعد أسابيع من سفر الحسيني استسلم صبحي لفكرة ملأته، لم تكن دموعها بسبب الفقد ولا سفر حبيب، كانت لغياب زوج، افتقادها لرجل تحتاجه كأنثى، الجدة انتبهت لذلك ونبهت صبحي دون قصد، لجأت إلى كذبة ساذجة وألحت عليها، ادعت أن نبيلة أخت صبحي من الرضاعة، يعرف أن نبيلة تكبره بثلاث سنوات، فكم عاما استمرت رضاعتها؟ نعم هما قريبان، هي ابنة خالة أبيه، لكن أمها لم تغادر القرية، وهو لم يزر القرية إلا صبيا، فمتى رضعت من أم صبحي أو رضع هو من أمها وأين؟ هل تظنه طفلا يمكن أن يصدق كذبتها، مع أنها لجأت للكذبة الساذجة لإدراكها أنه لم يعد طفلا، تخشى على ابنة شقيقتها منه، أم تخشى عليه من زوجة ابنها؟ الأمر سيان، عاد للسهر في مقاهي الشطرنج وتحمل تأنيب جده المستمر، رغم أن جدته كفت عن ترديد كذبتها، قال لها:
_ نبيلة أختي يا جدة حتى وإن لم يرضع أحدنا من ثدي يخص الآخر.
***
تنتبه لتحديقه فيها، تسأله فجأة:
_ شفت خالتي أم صبحي؟
_ لا
_ كان واجب تزورها النهاردة
_ ….
_ ما تقساش على أمك يا صبحي، ما تبقاش انت والزمن عليها.
يصمت صبحي، يشيح بوجهه بعيدا عنها، تبتعد عن الفيلم، تقترب من صبحي الذي يحاول مداراة دموعه، تجلس إلى جواره، تربت على كتفه، تحاول إضحاكه:
_ كل ده لأني هديت لك اللعبة، هات أرصها لك والعب تاني
يدها تستريح على كتفه لثوان، تترك في نفسه أثرا غامضا لا يمكن أن تحدثه لمسة أخت، يغادرها إلى حجرته، تلحق به، يتمدد في فراشه ويطالبها بأن تتركه وحده وتعود للفيلم، تجلس على حافة الفراش، ينفث دخان سيجارته الأخيرة، تقول بابتسامة:
_ الجيش للجدعان يا وله
_ أنا مش فارق معايا حاجة، حتى إن رحت وما رجعتش ما يهمنيش
_ ما تقولش كده ما توجعش قلبي
_ اللى واجعني حقيقي دموع أمي بسبب كلامي
_ منهم لله خالتي وجوزها، قسوك على أمك، يعني يا يخربوا بيتها يا تقتلها بكلامك اللي زي الدبش، كان واجب ما تسمعش لهم
_ اللى حصل يا نبيلة، قومي كملي الفيلم
_ تعالى نكمله سوا
_ مش خارج
_ وأنا مش خارجة من غيرك
تشده من يده، يتبعها إلى الصالة، حليم يكابد الفقد، فيغني “بعد إيه؟”، الأسى يغمر ملامح نبيلة، وصبحي ينفخ:
_ مش ناقصة نكد
يشبك يديه خلف رأسه، يفيض أساه، يزفر، تهمس له:
_ نسيت كلامك، مش ناقصة نكد
***
ينهض مدعيا أنه سينام، تمسك بيده، توقفه، ينظر في عينيها لثوان ثم يطاطىء الرأس، ينزع يده من يدها مقاوما سريان تيار سحري إن استسلم له سيجرفهما معا، يهرب إلى غرفته ويغلق الباب خلفه، تقف بالباب مترددة، ترفع يديها، تتراجع قبل أن تطرق الباب، تهم بفتحه ثم تنكص، تلوذ بطفليها، إلى جوارهما تتمدد، تسيل دموعها، تجففها وتنهض، تجلس القرفصاء ضامة رأسها إلى ركبتيها، دقائق وتقفز من الفراش، تركض عائدة إليه.
لا ضوء في الداخل يتسرب من تحت الباب، ولا صوت، توقن أن النوم سيجفوه، تدفع الباب بقوة، فيفزع فتحي، يجلس في فراشه، يراها تغلق الباب ثم تسند ظهرها إليه، تسأله:
_ انت صحيح ماشي بكرة؟
_ انت مجنونة
_ ما تسينيش وحيدة يا صبحي
_ روحي نامي يا مجنونة
لكنها لا تنام.. تقترب منه، يسرع مغادرا الفراش، يوقفها في منتصف المسافة، كانت ترتجف، يعلو صوت نشيجها، تدفن رأسها في صدره، يضمها بقوة ويشاركها البكاء.