ماذا حدث منذ قليل؟

رؤى المدينة المقدسة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أميمة صبحي

     – أنت مبتل!

     شهقت المرأة، ونظر إليها زوجها ببلاهة ثم تحسس معطفه:

  • نعم، لقد أمطرت منذ قليل.
  • أين أمطرت تحديدًا؟
  • هناك، في الشارع المقابل- وأشار في اتجاه الجنوب مرتبكا
  • لا، لم تمطر هناك!
  • وما أدراكِ؟

ثم سحبته  من يده:

  • تعال معي لترينِي المطر.

     سار الرجل بجانب المرأة، لا يحاول أبدًا تخطيها. كانت غاضبة تسير كعاصفة، ومعطفها يتطاير حول جسدها الضخم. وصلا للشارع المقابل حيث أكد زوجها حدوث المطر، وقالت:

  • أين المطر الآن؟
  • أمطرت هنا منذ قليل، قبل أن آتي إليك!

     بدون كلمة، وبخدين مشتعلين من شدة الانفعال، رفعت حقيبتها وضربته فوق رأسه، وسارت مبتعدة وهي تسبه بكل الألفاظ التي تعرفها.

     وقف الرجل وحيدًا ينظر حوله. تحسس معطفه عدة مرات في حيرة، ثم سار بمحاذاة المباني القديمة ووقف يتحسس معطفه مرة أخرى. في الظلام، لمح ضوءًا برتقاليًا دائريًا، يتحرك بمفرده في الهواء. اقترب أكثر ليرى، فكانت سيجارة مشتعلة بيد رجل.

  • مساء الخير، قال للرجل السيجارة وهو يثبّت ياقة معطفه حول رأسه. لا يرى من رجل السيجارة سوى كفًا، لكنه سمع حشرجة نابعة من حلقه تبعها سؤاله:
  • هل تشعر بالبرد؟
  • قليلًا، لقد أمطرت السماء هنا وبللتني تمامًا.

نهض رجل السيجارة واقترب منه ليتفحصه:

  • بجد؟
  • ماذا؟
  • هل أمطرت هنا منذ قليل؟
  • نعم، أعتقد ذلك. ألم تر المطر؟

     سحب رجل السيجارة نفسًا عميقا من سيجارته ثم نفث الدخان في الهواء:

  • أنا أيضا معطفي مبلل، لكن لم أر مطرا هنا!
  • إذن ماذا تعتقد؟

     هرش رجل السيجارة رأسه:

  • لا أعرف، لم أفكر في هذا.. لماذا يشغلك هذا الأمر؟
  • رأتني زوجتي مبللا وحين أخبرتها بأمر المطر غضبت وضربتني على رأسي بحقيبتها
  • لماذا تخبرها بالحقيقة؟

أطرق الرجل خجلا:

  • قلت لك، لقد ضربتني.. إنها امرأة كثيرة السباب.

ضحك رجل السيجارة:

  • يا لك من أحمق! أنا أحب المرأة كثيرة السباب.

 وسحب نفسا آخر من سيجارته، وأضاف:

  • إنها لم تمطر هنا، أنا أعرف مصدر البلل.

     نظر إليه الرجل متسائلا، فيما مشى رجل السيجارة خطوات قليلة للأمام وأمره بأن يتبعه. صعدا معًا أحد المباني المجاورة، ثم توقفا أمام باب خشبي متهالك. طرق رجل السيجارة الباب، ففتحت امرأة أربعينية بعد وهلة، بوجه نصف نائم وشعر منكوش. اعتذر رجل السيجارة للإزعاج:

  • نحن مبللان بالكامل، ونود أن نعرف هل ألقيتِ ماء غسيلك بالشارع منذ قليل؟

     صفقت المرأة الباب بعنف، فتبادل الرجلان النظرات الحائرة، وعلق الرجل الأول:

  • كما لو أننا لصان!

 قبل أن يستديرا لينزلا الدرج، سمعا صوت المرأة تزعق في شخص ما ثم صوت ارتطام شيء صلب بالأرض، قال رجل السيجارة:

  • يبدو ككرة خشبية.
  • انتظر، ما الكرة الخشبية؟
  • لا أعرف، لكن صوت الارتطام يشبهها.
  • لكن كيف تعرف أن الصوت يشبهها إن كنت لا تعرفها؟

     فُتِح الباب ثانيةً، وطل منه رجل نحيف. نظر إليهما ونظرا إليه:

  • كيف أساعدكما؟

      جاء صوت المرأة الغاضب من الداخل تصيح:

  • ألم أخبرك ألا ترمي ماء الغسيل بالشارع مرارا، بل وتجلب لي هؤلاء الحثالة، هنا لباب بيتي؟

    وتبعها صوت ارتطام آخر، هذه المرة كان طبقا خزفيا بالتأكيد. تحرج الرجل ونظر إليهما مبتسما:

  • معذرة، إنها تتحدث أثناء نومها، أنا لم ألق أي ماء بالشارع

 ورد رجل السيجارة بينما يستدير لينزل:

  • لا عليك، بالتأكيد لقد أمطرت بالأسفل، سننزل لنستطلع الأمر.

 غاب الرجل ثانية بالداخل وخرج بسرعة بصحبة معطفه وأغلق الباب وراءه وقال نازلا:

  • حقا؟ هل أمطرت الليلة؟ دعوني أستطلع الأمر معكما.

     وقفا ثلاثتهم بالشارع. رجل السيجارة بينهما، لا يبدو أن سيجارته ستنتهي قريبا. قال الرجل الأول:

  • هكذا تأكدنا أنها أمطرت بالفعل.
  • لا لم نتأكد بعد، الأرض جافة تماما ونحن مبللان. لا بد أن هناك سببا لذلك- قال رجل السيجارة ونظر للرجل النحيف وأضاف:
  • هل ألقيت ماء غسيلك؟
  • لا لم أفعل، لماذا قصدت شقتنا نحن بالذات؟”
  • لأني أرى زوجتك دائما تفعل ذلك.
  • لا أظن، لا بد أنك مخطئ، حتى انظر لشباكنا بالأعلى، هل به أي غسيل على أحباله؟

     نظر الرجل الأول ورجل السيجارة لأعلى لكن الظلام حال دون الرؤية الواضحة، واختلطت الشبابيك ببعضها. سأله الرجل الأول:

  • أين شباكك تحديدا؟

أشار الرجل النحيف بيده لأعلى:

  • الأزرق المقشر من الجنب، ثالث شباك يمين.

تذمر الرجل الأول:

  • وهل سأرى أزرق مقشر في ليلة حالكة كهذه!”

قاطعهما رجل السيجارة:

  • إذن، أنت لم تلق الماء من شباكك.

وقف الرجل النحيف أمامهما ورفع يديه اليمنى لأعلى فوق رأسه، ثم نزلهما قليلا، لتبقى راحة يده بجانب رأسه، وقال بأداء مسرحي:

  • أقسم لكما أني لم ألق أي ماء من الشباك، ولم يكن لدينا غسيل في حمامنا أصلا.

     حل الصمت، ونظر إليه الرجلان حتى قال رجل السيجارة:

  • ونحن نصدقك.
  • لماذ تقول نحن؟
  • لأن علينا تصديقه!
  • لو كانت زوجتي هنا لم تكن لتصدقه.
  • نحمد الله أنها ليست هنا إذن.

نظر الرجل الأول للسماء وتنهد:

  • لقد أمطرت هنا منذ قليل.

    في هذه اللحظة، سحب رجل السيجارة  نفسًا قصيرًا:

  • اسمع يا رجل، ما تقوله شيء مريب. لا يمكن أن تظهر هكذا فجأة لتقنعني بأن السماء أمطرت بينما لم تمطر!
  • لكنك مبتل تماما مثلي، ألديك تفسير آخر؟
  • لا ليس لدي، لكنه غريب أن تمطر دون رؤية المطر.
  • دعونا نسأل الله، قاطعهما الرجل النحيف ويده في جيب معطفه.

نظرا إليه بدهشة، وقال الرجل الأول بلا اكتراث:

  • لن يجيبنا.

سأله الرجل النحيف:

  • لماذا؟
  • لم يجيبني حين سألته عن مرض ابني.

     صمتوا ثانية وسحب رجل السيجارة نفسا من سيجارته. لا يتحدث سوى بعد النفس، كأنه يسحب الكلمات منها وليس دخانا، لذلك فكر الرجل الأول إنها ملهمته.

  • مرض ابنك يتطلب الكثير من الشرح لكن أمر المطر بسيط.

      وجّه الرجل ذو السيجارة سؤاله للرجل النحيف:

  • هل تعرف كيف نسأله؟

هز الأخير رأسه نافيا:

  • لم يحدث أن سألته عن شئ من قبل.

سأله الرجل الأول:

  • ألا تصلي؟
  • ما علاقة الصلاة بالسؤال؟ أيجيبك إلهك عن شئ أثناء الصلاة؟

     فكّر الرجل الأول قليلًا وهز رأسه نافيا، فيما قال رجل السيجارة:

  • أنت تقول إنها أمطرت، وأنت تقول إنك لم تلق أي ماء من الشباك. وأنا لا أثق بكما، دعونا نذهب لرجل السقف.

     سأل الرجل النحيف:

  • من؟

      سار رجل السيجارة بخطوات واسعة ناحية نهاية الشارع وتبعه الرجل النحيف بفضول، بينما تأخر الرجل الأول قليلا لا يعرف ماذا يفعل، لكنه تبعهما في النهاية لأنه يحتاج أن يعود بمبرر أقوى ليهدئ غضب زوجته.

     وصلوا لآخر بيت بالشارع، بيت مرتفع أقصى اليسار، حوالي خمسة طوابق. صعدوا الدرج بأقل جلبة ممكنة. تساءل الرجل الأول بينه وبين نفسه عن الناس، لماذا جميعهم في أسرَتهم هكذا، أين ذهب السهر وتمضية الليل في الشوارع؟

     وصلوا أخيرا لباب بُني متآكل من الأسفل. طرق رجل السيجارة الباب بعد سحب نفس من سيجارته، نفس طويل كأنه يأخذ الكلام كله دفعة واحدة. فتح الباب رجل ضخم، بطنه المنتفخ أمامه، ونظر إليهم في دهشة ثم سأل الرجلَ النحيفَ:

  • ألست جارنا هنا؟

 أجابه رجل السيجارة:

  • وأنا أيضا جاركم.
  • عفوا لا أتذكرك! هل كنت مسافرًا؟
  • لا، أنا بالشارع طوال الوقت. أسكن بجوار المخبز.
  • أهلا بكم، لكن من هذا؟

 وأشار للرجل الأول، فنظر الرجل النحيف إلى نفس الرجل وسأل رجل السيجارة:

  • صحيح، من هذا؟

     نظر إليه رجل السيجارة بدوره وقال:

  • لا أعرفه، إنه رجل يبحث عن من بلل معطفه”

سأل الرجل الأول رجلَ السقف متجاهلا رفقيه:

  • هل أمطرت منذ قليل؟

اندهش رجل السقف من سؤاله وقال:

  • وما أدراني إن أمطرت؟

غضب الرجل الأول قليلا وسأل رجلض السيجارة:

– ألم تقل إنه يعرف؟

قال رجل السيجارة بسرعة:

  • لا لم أقل ذلك!

سأل الرجل النحيف:

  • إذن لما نحن هنا، دعونا نبحث عن المطر في مكان آخر.

جاء صوت امرأة من وراء الباب:

  • هل بدأ موسم المطر؟ هل أمطرت الليلة؟

اشتعل وجه رجل السقف وحاول تهدئة الموقف موجها رأسه للداخل:

  • اصمتي يا امرأة، من ذكر المطر هنا؟
  • نعم، لقد بدأ موسم المطر. كم مرة طلبت منك إصلاح السقف، وها قد بدأ وسنغرق كالموسم الفائت!

     سحب رجل السقف معطفه وخرج مسرعا وأغلق الباب وراءه، لكن هشاشة الباب لم تمنع صوت المرأة من الوصول إليهم. ضحك رجل السيجارة ضحكة مكتومة وقال في سره:

  • يا لكم من حمقى، كم أحب المرأة كثيرة السباب.

      ساروا بمحاذاة حجرة رجل السقف. حجرة صغيرة مبنية بالطوب الأحمر فوق سطح البيت، سقفها ضعيف ومكون من عدة طبقات من الصفيح. قال رجل السقف:

  • الأرض جافة، متى أمطرت بالضبط؟

قال الرجل النحيف:

  • لا أعرف، هذا من قال إنها أمطرت.

 وأشار لرجل السيجارة الذي سحب نفسا من سيجارته وقال:

  • لا لم أقل ذلك، بل هو من قال إنها أمطرت.
  • وأشار للرجل الأول الذي قال بدوره:
  • لم تصدق زوجتي أيضًا. لكن لماذا نحن هنا؟، وجّه سؤاله لرجل السيجارة.
  • ألم تفهموا بعد- قال رجل السقف- انظروا لهذا السقف، إن أمطرت من سيدرك ذلك أسرع منه؟

بدا الأمر منطقيا للجميع الآن، فأكمل رجل السقف:

  • ونحن لم نبتل بالداخل.

لكن الرجل الأول باغته بسؤال لا علاقة له بالمسألة:

  • لماذا لا تصلح السقف وتتقي شر زوجتك يا رجل؟
  • لأنك أحمق. هل نمت قبلا تحت سقف من الصفيح أثناء المطر؟”
  • لا لم أفعل، لكني رأيت غضب الزوجات، وتحسس رأسه الساخن من أثر الضربة.
  • الأمر أشبه بالسحر، نقرات المياه على الصفيح واهتزازاته بفعل الرياح أجمل من أي جنس مارسته من قبل. زوجتي امرأة شمطاء لا تفهم شيئًا.

     سرحوا جميعا في كلماته، وسحب رجل السيجارة عدة أنفاس متتالية من سيجارته، فيما قال رجل السقف:

  • دعونا نصعد للسقف لنرى ان كان هناك أثر لأي ماء.

     صعد هو أولا، تسلق سلمًا خشبيًا وصعد بصعوبة لاحتكاك بطنه المنتفخ بدرجاته، ثم تبعه الرجل النحيف فرجل السيجارة الذي علق سيجارته بين شفتيه حتى وصل لأعلى، وأخيرا الرجل الأول. أشار لهم رجل السقف أن يسيروا أقصى اليسار حتى لا يسقطوا في منتصف حجرته. مسك ذراع كل منهم ليساعده في العبور.

  • يا ربي، إنكما مبتلان، من أين لكما بهذا البلل؟

      وصلوا لحافة السطح وجلسوا متقاربين وأرجلهم معلّقةُ بالهواء.

      الشارع الطويل تحت أقدامهم والليل يحيطهم. سحب رجل السيجارة علبة السجائر من جيب المعطف الداخلي، ووزع سجائر عليهم.

 قال رجل السقف:

  • الشتاء ما يزال في بدايته.

ثم سحب نفسًا من سيجارته بلذة وأضاف:

  • أفضل جنس، أليس كذلك؟

 لم يجبه أحد، كانوا شاردين داخل المشهد الليلي الصامت.

     بينما قال الرجل الأول بصوت خفيض:

  • أنا متأكد أن السماء أمطرت في هذا الشارع منذ قليل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة ومترجمة مصرية، والقصة من مجموعة “رؤى المدينة المقدسة” التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة ساويرس لهذا العام    

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون