الميناء

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

آسفي، الميناء.

1986، يوم ربيعي، مشرق، جميل ودافئ.

يتمايل الزورق، يهتز بإيقاع منتظم، يجلس (الفلكي) فوق العمود الرئيسي لحافة الزورق، يصب الشاي في كؤوس صغيرة، تتمايل الصينية، تهتز الكؤوس في حركات خفيفة، يسمع رنينها، ولكنها بقيت مستقرة في مكانها، ينظر إليها (المامون)، يتأملها للحظات، يقرأ (الفلكي) الدهشة في عينيه، يبتسم، يشرح بلهجة الواثق.

 – الأشياء في البحر هكذا، تبدو سكرانة، ثملة، تتمايل، تترنح، ولكنها لا تسقط أبدا…

لاذ (المامون) بالصمت، اجتاحته مشاعر غريبة ومتناقضة، فرح، انتشاء، وخوف غريزي من الغرق، كانت تلك إحدى المرات القليلة التي ركب فيها البحر بعيدا عن الميناء، وبعيدا عن الشاطئ، التفت إلى الخلف، رأى المدينة بعيدة وصغيرة، يتسع البحر أمامه، ينفتح، يمتد، يهيمن على الأفق، حاول أن يبدو قويا، قرر أن يستمتع بالرحلة، وأن يظهر سعادته ليخفي خوفه الغريزي من الماء، ثم عندما استشعر (الفلكي) هواجسه، قرر العودة، يجدف برشاقة، في حركات هادئة ومتناغمة.

ينظر إليه (المامون)، يتأمله، يفكر بصمت.

– هذا الشاب، يشبه البحر، يختزن كما هائلا من الهدوء والصمت والغضب.

 ينحرف الزورق بهدوء، يرسم نصف استدارة، ويولي وجهه شطر الميناء، تدور رأس (المامون)، يفقد الإحساس بذاته، يدخل في لحظة بياض قوية، حالة تشبه الغيبوبة، تمتزج فيها نشوة اللفافات المحشوة والخمرة بخدر الماء الذي يهز القارب ويهدهده.

لسنوات طويلة، شكل البحر بلسما لجراحه التي لا تندمل إلا لكي تنفتح من جديد، كان حبه للبحر لا يضاهيه إلا كرهه للموانئ، الموانئ في نظره فضاء للقسوة والعنف والاغتراب…

قفز (الفلكي) برشاقة من قارب لآخر، نط إلى الرصيف، شد الحبل إلى مرساة إسمنتية ضخمة، ثم انطلقا في اتجاه المدينة.

– أنا مسفيوي حقيقي، أنا ولد (آسفي) أبا عن جد، أنا ولد المدينة القديمة، جدي الأول من جهة أمي كان فقيها ومتصوفا كبيرا، وهو أول مؤقت فلكي في هذه المدينة…

يحمل (الفلكي) مدينته في قلبه، يحبها، يتعصب لها، يعدد معالمها ومواطن الجمال فيها، يتحدث عنها بنبرة يمتزج فيها الحب والحزن والألم، فهو يعرف ويعترف بأن مدينته تعيش موتا سريريا مزمنا منذ عقود من الزمن.

– في مدينة آسفي تولد الأشياء معاقة، مشوهة، تحمل بداخلها بذور موت مبكر، تذبل، تحتضر، تقاوم، تتمسك بالحياة، ولكنها في النهاية تلفظ أنفاسها الأخيرة.

1986، سنة أخرى تنضاف إلى سجل فلاحي حافل بالقحط والجفاف، يتكرر المشهد، نفس مظاهر الفقر والبؤس، تستقطب المدينة مزيدا من الفقراء، فلاحون بسطاء، عمال مياومون، باعة متجولون، متسولون، مشردون، مجانين، وفي كل مرة يتوسع المشهد ليشمل كائنات أخرى غير البشر تجوب المدينة، كلاب ضالة، أبقار عجفاء، بغال وحمير هزيلة متخلى عنها.

كان الشابان على وشك مغادرة الميناء، وقفا أمام البوابة الكبيرة، توقفا هناك للحظات ينظران، يتأملان الكلب الروسي (إيغور) كلب من فصيلة (السمويد)، الجميع في المدينة يعرف قصة (إيغور)*.

يحكي (الفلكي) القصة بكثير من الشغف، شغف ممزوج بالتعاطف والألم، يدخن، يشرح بحماس حزين، يعبر بملامحه، يلوح بيديه.

– أتعرف؟ لهذا الكلب حكاية حزينة، حكاية بدأت هناك في روسيا وانتهت هنا في المغرب، اسمه (إيغور)، وهو – كما ترى – كلب روسي الأصل، ولكنه الآن ومنذ سنوات أصبح يحمل الجنسية المغربية، هو كلب جميل تعود أصوله إلى القطب السيبيري، قامة متوسطة، أذنان قصيرتان، مدببتين، منتصبتين على الدوام، عينان تتقدان ذكاء وحيوية، فروة كثيفة حريرية، ثلجية ناصعة البياض، قوي، متوثب، ذكي، عاطفي، رومانسي، مرح، لعوب، يحب اللهو مع الأطفال، مستقل، له ميل شديد للحرية والانفلات، يستخدم في بلده الأصلي لجر الزلاجات الجليدية، وحراسة قطعان أيائل الرنة…

عندما بدأ الجزء الثاني من كلام (الفلكي)، ارتفعت نغمة الحزن في صوته.

– رحلت السفينة الروسية العملاقة باكرا ذات صباح بارد، وبقي (إيغور) المسكين هناك على الرصيف، دون ان ينتبه له البحارة المخمورون، في البداية اعتنى البحارة المغاربة بالكلب، احتفى به الأطفال، وعندما ذاعت قصته في المدينة، حج الكثيرون للميناء لرؤيته، يقدمون له الطعام والهدايا ويأخذون له ومعه صورا تذكارية.

مرت أيام، أسابيع وشهور، وشيئا فشيئا فقد (إيغور) بهاءه بفعل الجوع والإهمال والتلوث، انطفأت تدريجيا إشراقة الحياة في عينيه الجميلتين، وتحولت فروته الحريرية البيضاء إلى مجرد خيوط قذرة…

يصمت (الفلكي) للحظات، ثم يضحك، بمرارة.

– هنا في هذا الميناء سيكتشف (إيغور) لأول مرة في حياته أنه كلب، لقد فقد المسكين جماله وروحه المرحة عندما أصبح مغربيا…

كان (الفلكي) ثملا، منتشيا، ولكنه احتفظ بصفائه الذهني، يتكلم، يسخر، يضحك، يحاول أن يكون مرحا، ويحكي بنبرة يمتزج فيها الحزن والغضب.

– للأسف، أشياء كثيرة كانت جميلة في هذا البلد، ولكنها الآن تحتضر، ونحن المغاربة نتفرج، لا نفعل شيئا، نتفرج فقط.

………………

* (إيغور) اسم روسي ويعني المحارب.

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون