كتابي الأول | خلف النهاية بقليل

وحيد الطويلة: نحن الكُتّاب غلابة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

وحيد الطويلة

لن تكتب.

قالها قاطعة ثم صمت.

كانت النظارة تغطي عينيه بشكل متواطئ، كأنهما اتحدتا معاً، ونظرة غلٍ خفيفة تكاد تنطق، ربما سخرية ربما بعض الغيظ لأنني أنيق وأملك كل تلك المساحات الشاسعة من الكلام.

ظلت ملامح وجهه مصرّة على جملته. كنت أحكي وسط مجموعة متنافرة من الأصدقاء، كل واحد أتى برفيق معه، كنت أحكي بتدفق حكايات عجيبة وغريبة دخل جُلّها في ما بعد إلى روايتي الأولى “ألعاب الهوى”. لا تعرف هل الحكاية أم طريقتي في الحكي هي من رمت السحر بينهم، ما أتذكره أنهم كانوا مأخوذين.

قال أكثر من واحد: لماذا لا تكتب؟

قلت: أخشى أنني أفرغ طاقتي في الحكي، والحكي المستمر.

لكن صاحبنا ردّ قائلاً: لا، هذا ليس صحيحاً، لن تكتب.

حين كتبت مجموعتي القصصية الأولى “خلف النهاية بقليل” التي صدرت سنة 1997، حرثت الأرض بحثاً عنه. بحثت عنه أكثر حين خرجت “ألعاب الهوى”، كأنني أريد أن أرمي أمامه الفرق بين الحكاية والسرد، الشفوي والمدون. ها أنذا أكتب، لم أعثر عليه. قيل إنه هاجر وإن أباه مات.

كان شاعراً بقصائد محدودة، يكتب سرداً طوال النص ثم ينهي القصيدة بمفارقة بصوت عالٍ يستجلب التصفيق.

تعلمت منه أن أتْبع روحي وألا أغرق في هذه الخفة مهما كان صداها عالياً في نفس اللحظة.

كنت مشغولاً بريتسوس. حين أتذكر متى كتبت، يخطر على بالي بلند الحيدري بأناقته شكلاً وروحاً، كان يحكي لي عن لحظة الهذيان المروع التي تدهمه لحظة ولادة القصيدة. كنت وما زلت أستشعر تلك اللحظة أو أُوهم نفسي بحضورها عند الكتابة. أعرف تماماً أن الحفر في الكتابة السردية سوف يركل هذه الجملة، لكن لا بأس. كنت أسوق سيارتي أو أمشي في شوارع القاهرة على قدم ونصف. القصة تتقافز في رأسي. أوقف سيارتي كيفما اتفق وأعرج على أقرب مقهى لأُلقي بصيدي وأتلقى العطايا.

حدث ذلك بالضبط عند أول قصة، كنت أمشي وأمشي حتى اختمرت أو ظننت أنها كذلك. دخلت إلى أقرب مقهى، القلم في جيبي، وعند أول ورقة يابسة لدى النادل كتبتها.

كتبتها.

ورحت أغني كالمجنون في الشارع.

وكرت الحكاية.

كان البساطي رقيق الحاشية رغم صراحته الشديدة. بحث عن هاتفي، اتصل بي وقال: حين قرأتُ قصة “المدينة” قفزت من على الكرسي.

كان المشهد مزدحماً، ونبيّ الحساسية الجديدة إدوار الخراط يُلقي بيانات ثورته قبل سطوع ثورة الخميني، من “عبر النوعية” إلى “القصة القصيدة” وغيرهما. كان زعيماً بمريدين وغوانيَ، وكان تعبيره الأثير في صدارة كل ندوة هو عرامة الاحتشاد. لم أجد لي بينهم موطئ قدم ولا ذهبت. كنت خائفاً من تلك الحشود التي تمنح صك الاعتراف. لا قِبَل لي بالحشود التي تزأر تحت راية زعيم، إما أن أكون زعيماً أو مغنياً، لا أملك شجاعة الجلوس بين مريدي زعيم، لكن النصوص التي باضها المصطلح لم تُوفِ الفكرة حقها.

هنا ظهرت قصصي القصيرة جداً أو القصيدة كما قال إدوار خلف تورجنيف “وإن لم يعترف بهذا”.

 

كان سؤالي: كيف تصنع نصاً سردياً بنفس شعري دون أن تعطل السرد

قرأ إدوار قصصي وحده، وكتب عنها وحدها، كتابة محبة حتى ولو شابها التقتير، وملأني الزهو من استقبال النصوص، ورحت أتخيل أنني مثل يوزيبيو لاعب بنفيكا والبرتغال الشهير. رحت أتخيل عنواناً مثل العنوان الذي كتب في “الباييس” الإسبانية يوم سحق بنفيكا ريـال مدريد في عزه بتشكيلة عمادها بوشكاش ودي ستيفانو وهيديكوتي وخنتو. يوزيبيو: أنت وحش، ورحت أتخيل العنوان: وحيد الطويلة، أنت وحش.

كان موعد معرض الكتاب قد اقترب، وحين نوقشت المجموعة كان هناك الياس لحود وعبد المنعم رمضان. أذكر أن الياس قال وقتها إن “خلف النهاية بقليل” تولد بداية جديدة. وقال رفعت سلام إن نهايات القصص تشبه نهايات ريتسوس. وصدرت نشرة معرض الكتاب بعنوان يغيظ يوزيبيو وإدوار نفسه: وحيد الطويلة يحقق إبداع القصة القصيدة.

فرحت لدقيقة، لكن الرعب ضرب مفاصل الكتابة عندي بقية الوقت، ورحت أبحث عن عرامة الاحتشاد.

ودخلت “زهرة البستان”.

هناك أماكن في القاهرة يصعب عليك في القاهرة أن تدخلها وحدك، رغم أن أبوابها مفتوحة مثل بار “الجريون”: ستسمع من آحاد أن العيون تكاد تخترقك وأنت داخل وأنت في الداخل، لا تعرف لماذا! عيون متلصصة تشكو من عملاء الأمن طوال الوقت، لذا تمارس نفس الفعل، عيون مقتحمة إلى ما تحت طبقة الثياب الداخلية وربما خائفة.

لكن مقهى “زهرة البستان” مفتوحة الأبواب، وإن كانت مقفلة القلوب، كتّاب يأكلون بعضهم ويأكلون البعيد. هنالك نظرية غير مكتوبة تقول إن الكاتب الذي يذهب إلى دول الخليج يجب شطبه فوراً من اللائحة المبجّلة للمبدعين، لكن لو ذهب إلى كندا أو فرنسا فهو مبدع وثائر.

ما علينا، دخلت بعد كتابة بعض القصص، كان لا بد من مراسم التعميد. قال لي وفيق الفرماوي وهو قاصّ حاذق وشخص ماكر يرى نفسه أفضل من تشيخوف: حين سألت عنك قالوا: “واحد عاوز يبقى كاتب”.

لم تكن هناك كراسٍ خالية جنب المبدعين إلا للمبدعين أو عُبّادهم، وبعد القصة القصيدة وجدت مقعداً خالياً لي. كنت أخرج من “الجامعة العربية” القريبة حيث أعمل إلى المقهى وسيماً أنيقاً، مفرطاً فيها ـ لاحظ نرجسيتي ـ بلغة أنيقة، أناقتها لا تجرح وحشيتها ولا بعض الشر الضروري جداً للكتابة. قال آدم فتحي الشاعر والمثقف التونسي والمهذب دوماً، وهو يمسك بـ “خلف النهاية بقليل”: لماذا لا تعترف بأنك تكتب قصيدة النثر.

قلت وأنا أبتسم: أعترف… أعترف تماماً.

لم أعرف ساعتها إن كان مدحاً أو ذماً. قلت لنفسي: هذه القصص حالة أعيشها، أتنفسها وهي حظي من الكتابة، حظ طيب، لا تتركها يا ابن الطويلة لأنك لو فعلت فلن تعود إليها، ولن تعود إليك.

هذه القصص تشبهني، هي أكثر ما يشبهني.

الآن لم أعد أكتبها إلا في الأحلام، ولا أعرف إن كنت أقنعت أو أوهمت نفسي بذلك، أو أنني طردت الحب الطاهر الصافي فاستعصى عليّ، لكن القصص تبدو لي دوماً طفلاً بكراً مشاكساً وشجاعاً، ربما علمتني الجرأة على اللغة.

اكْتبْ وأنت واقف.

جملة أعلقها على كتفي منذ كتبت المجموعة الأولى، أكتب جملة قصيرة كي ألحق بالوحي، كي لا تؤلمني قدماي، أو لأنني ـ وهذا هو الأرجح ـ أرى العالم والجمال على تلك الشاكلة. أكتب أحياناً بعجلة كأنه يُملى عليّ. صادفت هذا العام أن هيمنغواي قالها يوماً، نعم أكتب وأنا واقف من يومها، ليست لدي جملة طويلة حسبما أتذكر، حتى في “باب الليل” روايتي الأخيرة كنت أستشعر أن “خلف النهاية بقليل” حاضرة لأول مرة منذ زمن أمامي. كنت قد نسيتها تماماً، لكن بعد فترة اكتشفت أن الجملة حاضرة بقوة.

سأدعي ـ وهذه نرجسية أخرى ـ أنني أكتب كل كتاب بطريقة مختلفة عن سابقه، وأن مجدي هو شجاعتي في رمي ما بزغت فيه، لكن جملة تلك القصص كانت حاضرة في روايتي “باب الليل”، وإن بطريقة أخرى، كان سؤالي: كيف تصنع نصاً سردياً بنفس شعري دون أن تعطل السرد.

الشاعر محمد عيد إبراهيم الذي أحب “باب الليل” يقول دائماً: إنني أستطيع أن أستخرج لك مقاطع كاملة من الرواية كقصيدة نثر.

ربما لا ظل نهائياً للمجموعة في الرواية، وإنني بهذياني من أدّعي هذا، لكنني كتبت واقفاً في الاثنتين وفي غيرهما، الفارق أنني بعد “خلف النهاية..” وبعد “باب الليل” كنت أغني بمزاج عالٍ.

كان يحيى الطاهر عبد الله يحفظ قصصه ويغنيها، وأنا أفعل مثله وأغنيها، بالإضافة إلى أنني مغنٍّ بالأساس، “وأنت الأساس كما يقول زياد وفيروز”. يبدو أن جرعة الحقد لم تكن كافية لتنتشر هذه الميزة عني في البداية، لكنني حين أقرأ قصص هذه المجموعة على جَمْعٍ في ندوة أتحول إلى شاعر يصعد بقصتة القصيدة إلى الأعالي ـ لاحظ أن النرجسية اكتملت ـ أقرأ كنبيّ وشيطان وعازف، أقرأ وأنا أستحضر ألعاب فيلليني حين كان يصعد إلى المسرح فينسى خجله.

هل للكتاب الأول طعم الحب الأول؟ تلوذ بذكراه كلما تقلبت عليك القصص والكتب، أم أن الأمر مختلف في الكتابة يتطلب حباً أروع من سابقيه يستوجب دفن القصص القديمة وإن داومت على نفس طرق الغزل؟

أفكر أحياناً في أن أطلب من أخي المغني أن يدفن مجموعتي الأولى وروايتيّ “ألعاب الهوى” و”باب الليل” معي لولا خشيتي أن يحرق السلفيون ـ الذين زاد عددهم على نصف تعداد القرية ـ قبري.

استعنت بأسماء حقيقية لبشر في قريتي حتى ولو كانت الحكاية بعيدة عنهم، وكتبت عن شخصيات أخرى حقيقية بأسماء حقيقية أخرى، كانوا كلهم من الغلابة المحملين بأشواق أو كوابيس. بعضهم كان يحمل الشيطان على ظهره في وضح النهار، وبعضهم لا ينتظر من الدنيا سوى كسرة خبز وبعض حنان، لم يكن من بينهم العمدة ولا سعادة وكيل النيابة ولا زوجة المأمور.

تقدمت أمي التي كانت أول امرأة في منطقتنا تدوّن اسمها في قوائم الاتحاد الاشتراكي في عزّ أيامه، ولديها صورة شهيرة معلقة في غرفة الضيوف مع رئيس مجلس الشعب الذي اتخذ دائرتنا مكاناً له ليقفز على السلطة. تقدمت مني وأنا جالس وسط خمسين واحداً على الأقل ووجهت الكلام لي بلهجة زاجرة:

يا بني إكتبْ عن أناس محترمين.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم